حروف الصلة في القرآن الكريم ودورها في الإعجاز البلاغي
جمال عبد العزيز أحمد


في القُرآن الكريم أحرفٌ يَصِفُها النُّحاة والبلاغيون بأنها أحرف زائدة، وهؤلاء النُّحاة هم أهل البصرة، أمَّا أهل الكوفة فيسمُّون الحرف الزائد بحرف الصلة، والحق أنَّ نحاة البصرة لا يقصدون بالزائد ما ليس له قيمة، أو ما ورد في التركيب لغير ما فائدة، وإنما يعنون بذلك ما ليس أصليًّا أو قسيمَ الأصلي، ولكنَّ تسمية نحاة الكوفة أولى؛ لأنها لونٌ من ألوان الوَرَع في الاصطلاح، ولكن - كما قيل -: لا مشاحَّة في الاصطلاح، وإذا تجاوزنا هذه التسمية إلى بَيان أوجُه الإعجاز في هذا الحرف والكشف عن دوره في المعنى والإعجاز، نأخُذ بعضًا من آي الذكر الحكيم لنُجلِّي خطورة هذا الحرف في موضوعه، وأنَّه أضافَ معنى ساميًا، وأدخل فهمًا راقيًا على معاني الآية.
يقول الله - تعالى -: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[النمل: 75]، فالحرف (مِن) يُوصَف بالصلة أو بالزيادة، ونريد أنْ نقترب من معناه الذي أضافَه هنا وأفادَه؛ حيث أفاد معنى الاستغراق الذي يدلُّ أكبرَ دلالةٍ على أنَّ كلَّ غائبةٍ دقَّت أو عظُمت، ظهرت أو خفيت، كانت في صحراء قاحلة، أو في ليلة مظلمة، أو كانت في غور الأرض أو نجدها، إنما هي في كتابٍ مبين، مسجَّلة عند الله ربِّ العالمين، والمعروف أنَّ النكرة في سِياق النفي تعمُّ، ومعنى هذا أنَّه ما من غائبة في طُول السموات السبع وعرضها أو في طول الأرض وعُمقها إلا وهي مكشوفة عند الله، مُقيَّدة في كتابه، وعلى سبيل المثال لو أنَّ ورقة خفيفة لا صوت لها سقطَتْ من شجرةٍ ضاربة في عُمق الأرض وفي صحراء لا أحد فيها، فإنَّ الله يعلَمُها ويعلَمُ لُحَيظة سقوطها ومكانه، وذلك كله مسجل عنده في كتاب واضح مبين، وهذا يتأكَّد بقوله - جلَّ جلاله -: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الأنعام: 59].
فكلُّ ما في الكون منظورًا ومطمورًا، ظاهرًا للناس وغامضًا، في طيَّات الأرض أو في سبحات الفضاء، مكنونًا في باطن المعمورة أو غائبًا في غياهب الجبِّ - كلُّ ذلك معلومٌ واضح مكشوف له - جلَّ في عُلاه - وجميع ذلك من عَوالِم الكون يشهَدُ به، ويقرُّ لجلاله، ويعترف بقيُّوميَّته.
والذي أريدُ أنْ أصلَ إليه هو هذه الإحاطة الكاملة والعلم الشامل الكامل، الجامع المانع لله ربِّ العالمين، مالك الأكوان وخالق الإنسان، وذلك المعنى يتطلَّب حُسن الرقابة وسَلامة الاتِّصال، وكمال التقوى وجلال العلاقة بين العبد وربِّه؛ لأنَّه يعلم يقينًا أنَّ كلَّ شيء مكشوف، وكلَّ نفَس مرصود، وكلَّ حركة مكتوبة، وكلَّ سكنة معلومة؛ ومن ثَمَّ فهو يَعبُد الله على نور، فيسعد بأنَّه الرقيب الغفور، والحسيب الشكور، فيَرتاح قلبه ويطمئن فؤادُه؛ بسبب إحسان العبادة وإسلام الوجه وتمام الإيمان، فإذا فعل كلُّ مخلوقٍ ذلك سَعِدَ هذا الكونُ بما فيه ومَن فيه، وصار كلُّ الناس أبرارًا أطهارًا، ولربهم وحدَه أحرارًا، تمتَلِئ أفئدتهم أنوارًا، فيعيشُ المرء منهم راضيًا عن الله، وعن نفسه، وعن حياته، وعن مجتمعه، وعن وجوده، فتنمو الحياة ويتطوَّر الوجود، وتضحى الحضارة بأسمى معانيها ضاربةً بأطنابها، متأصِّلة بجرانها في كلِّ صُقْع، ويحيا الناس كِرامًا على ربهم، يأكُلون من فوقهم ومن تحتِ أرجُلهم، لا يَشقَى أحدٌ بظُلمِ أحَد، ولا يحقد أحَدٌ على أحَد، يرعى الفقير مال الغنى، ويدعو غير الواجد للواجد؛ لأنَّه تقي نقي، ويحرس الذئب الغَنَم، ويمسي الإنسان يُناطِح قمَّة العَلَم، وتصير الدنيا يحفُّها الاستقرار والسَّلَم، ذلك كله ما أوحتْ به (مِن) التي قيل: إنها زائدة أو صلة، فهي صلةٌ لأنها بوجودها يتوصَّل إلى أرقى المفاهيم، وأسمى المعاني، وأدقِّ التفاصيل، وقد رأينا أنَّ دُخولها أفادَ الاستغراق، وأنَّ كلَّ غائبة بكلِّ مفهوم لها دخلت معنا، فاستوعبتْ كلَّ غائب وشملتْ كلَّ خفي، وتِباعًا دخل كلُّ واضح جلي، ويترشَّح ذلك باستعمال حرف الجر (في) الذي يُفِيد الظرفيَّة، و(أل) في السماء جنسيَّة؛ أي: في جنس السموات السبع، وجنس الأرضين السبع، كلُّ ذلك لا يخفى على الكبير المتعالي الذي يُحصِي الأنفاس، ويعلَم الإحساس، في وقتٍ واحدٍ من جميع الناس، إنَّ الحياة بهذه الصورة يحبُّها الإنسان، ويشعُر بكماله فيها، وكمالها به، أمَّا مَن يعيشُ غير عابِئٍ بمفهوم (مِن) الزائدة، ويظن أنَّ الله قد لا يعلم كثيرًا ممَّا يفعلون - فهو الضعيف الممزَّق، والمهين المخرَّق، الذي تنحَدِر آدميَّته، وتسقط - من ثَمَّ مروءته، وتشقى به ساعاته وأوقاته وأمَّته، ويخرج من الحياة تتبَعُه لعنَتُه، وتُشيِّعه خَسارته وذلَّته.
نعم؛ إنَّ الحرف المسمَّى زائدًا أو صلة إنْ تفطَّن له القارئ وعايَشَه واستَنبَطه وسبر أغواره - خرج بكنزٍ ثمين من المعاني، يَتبَعه الترقِّي والتَّسامي: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)[الكهف: 13].
إن مَن مدَّ يده إلى الله كان الله أسرع إليه من حبل الوريد، ومن مشى لله وفي سبيله خطوة عاجَلَه الله خطوات، ومَن أتاه يمشي جاءَه هَروَلة، ما أحلى العيش في فهْم الكتاب! وما أجلَّ الحياة وجلال البيان!.
اللهم ارزُقنا حبَّ كتابك وتذوُّق بلاغته، واكتُبنا من الفاهمين العامِلين، واجعَلنا من عبادك المقرَّبين، وأهلك المخلصين، يا ربَّ العالمين