هذا هو الطريق


أبو بكر بن محمد بن الحنبلي





الحمد للَّه وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، ثم أمَّا بعد:
فإن العبد الحقيقي للَّه تبارك وتعالى هو الذي يسعى دائمـًا لكمال إيمانه؛ لأنه يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية؛ لذا فهو يجتهد على نفسه دائمـًا أن يكيف هواه تبعـًا لما جاء به الرسول صلى اللَّه عليه وسلم، فهو لا يتحرَّك بهواه، ولا بنتاج عقله، ولا بعادة قومه؛ وإنما يقوم ويقعد باللَّه وللَّه ومع اللَّه، متنقلاً في منازل العبودية بين أدلة الوحيين بفهم سلف الأمة رضوان اللَّه تعالى عليهم، غرضه في ذلك تتبع مرضاة اللَّه عز وجل أينما كان، طامعـًا أن يصل إلى الأفضل[1].

والعبادة هي العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، وقد بيَّن ذلك الإمام ابن القيم رحمه اللَّه في كلمات طيبة، حيث قال: من لم يكن وقته للَّه وباللَّه، فالموت خير له من الحياة، وإذا كان العبد وهو في الصلاة ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، فليس له من عمره إلا ما كان فيه باللَّه وللَّه.

قلت: أما أن يكون الوقت للَّه، فهو استنفاد العمر في العبادة على تنوعها؛ حتى لا يكون للشيطان منه نصيب، ومن فعله فقد حقق قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [الفاتحة: 5]، وأما أن يكون الوقت باللَّه، فهو ألا تشغل وقتك إلا بعبادة تناسبه، تستوحيها من الشرع الحنيف، ومن فعله فقد حقق قوله: ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5].

فأفضلها عند جهاد العدو: جهاده، ولو آل ذلك إلى ترك قيام الليل وصيام النهار، قال تعالى: ﴿ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾ [المزمل: 20].

وأفضلها عند نزول الضيف: القيام بحقه؛ لقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ((إن لِزَوْرِك عليك حقـًّا))؛ رواه مسلم.

وأفضلها عند سماع الأذان: أن تترك ما أنت فيه من ذكر، وأن تجيب المؤذن؛ لقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ((إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول))؛ رواه مسلم.

وأفضلها عند أوقات الصلوات: المبادرة إلى الجامع، والنصح في أدائها على أكمل وجه؛ لقول اللَّه تعالى: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ﴾ [النور: 37].

وأفضلها عند السَّحَر: تلاوة القرآن والدعاء والاستغفار والصلاة؛ لقول اللَّه تعالى: ﴿ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ [آل عمران: 113]، ولقوله: ﴿ وَبِالْأَسْحَار ِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 18].

وأفضلها عند ضرورة المحتاج: إغاثته بالجاه أو البدن أو المال؛ لقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني))؛ رواه البخاري.

وأفضلها عند لقاء أخيك: التسليم عليه، ولو أدى إلى قطع الذِّكر، وأفضلها عند مرضه أو موته: عيادته وتشييع جنازته؛ لقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم خمس: ردُّ السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس))؛ متفق عليه.

وأفضلها عند إيذاء الناس لك: أداء واجب الصبر، مع خلطتك لمجتمعهم دون الهرب منه؛ لقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم))؛ رواه ابن ماجه، وهو حسن، وصححه الألباني.

هذا في أذية نفسك، أما إذا خفت منهم على دينك، فأفضل العبادة اعتزالهم؛ إذ خُلْطَتهم في الشر شر، ودِين المرء رأس ماله؛ لقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ((كيف بك يا عبداللَّه بن عمرو إذا بقيت في حثالة من الناس مَرَجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا؟))، وشبك بين أصابعه، قال: قلت: يا رسول اللَّه، ما تأمرني؟ قال: ((عليك بخاصة نفسك، ودع عنك عوامهم))؛ رواه ابن حبان، وهو صحيح.

وأختم هذه المقالة بحديثين، وكلمات لأحد سلفنا الصالح، وسورة من القرآن.
الحديث الأول: نموذج صحابي عرف الطريق فلزمه.

الحديث الثاني: منهاج عظيم يثبتك اللَّه به على الطريق حتى تلقاه ما دمت عاملاً به.

الكلمات السلفية: تتسبب في الأخذ بيدك لهداية الدلالة والإرشاد.

والسورة القرآنية: قال فيها الإمام الشافعي رحمه اللَّه: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم، بل صحَّ أن الرجلين من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر؛ [كذا في "تفسير القرآن العظيم"، للحافظ ابن كثير (ج4)، تفسير سورة العصر، بتصرف يسير].

الحديث الأول: نموذج ممن عرف فلزم: روى الإمام الطبراني في "الصغير" بسند قوي لشواهده عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، إنك لأحب إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إليَّ من أهلي ومالي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى اللَّه عليه وسلم شيئـًا حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾ [النساء: 69].

الحديث الثاني؛ منهاج عظيم: عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: ((من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلِّم من يعمل بهن؟))، فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول اللَّه، فأخذ بيدي فعدَّ خمسـًا وقال: ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارضَ بما قسم اللَّه لك تكن أغنى الناس، وأحسِنْ إلى جارك تكن مؤمنـًا، وأحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمـًا، ولا تكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب)).

الكلمات السلفية: مَن عَبَدَ اللَّه بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد.

السورة القرآنية: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة التوحيد، عدد صفر 1419 هـ، صفحة 58.



[1] مدارج السالكين (1/88).