الخلقُ مجبولون على النقص


خيرية الحارثي


حريٌّ بنا -ونحن نزِنُ اختلافَ الأزمنة- أن ننوّه ببعض الملابسات التي طغت على حاضرنا، وداهمت غالبيةَ أهل هذا الزمان؛ من تفريط في الحقوق، وفساد للنيات، وسوء المقاصد، ولاحول ولاقوة إلا بالله، لقد تعوّدت في كتاباتي ومن غير تكلف أني لا أحسنُ التعبيرَ إلا عندما أتأثرُ من موقفٍ ما، يثير المكمون.

دخلَتْ مشغلاً للحياكة النسائية، وحاولَتْ التلطفَ مع صاحبة المحل إذ قالت لها مبتدئة: إن أردتِ أن (تقبّلي) المشغل فأخبريني، ويبدو أنه من باب إخفاء ما تطويه نفسها من سوء نية، والله عالم بها!


ثم تسلمَتْ ملابسَها التي حيكت لها في هذا المحل، ولم تدفع كاملَ الأجرة معتذرةً بأنها نسيت إحضارَ باقي المبلغ، وعرضتْ عليها سوارًا كانت تتحلى به صغيرتُها، وقالت لها: خذي هذه رهنًا حتى أحضر لك الباقي، فإنها تساوي ثلاث مئة ريال. يا لهذه المسكينة صاحبة النية الصادقة! وكذا يجب أن يكون المسلم، ولكن يبدو أنه في هذا الزمان لابد للمسلم أن يتحقق وأن يحملق بعينيه جيداً. هذه الطيبة أخذت السوارَ وذهبت به لبائع الذهب فأخبرها أنه ليس ذهباً وإنما هو (إكسسوار)!. يا ألله! حين تبلغ النفسُ هذا المستوى من غش وكذب وخداع! وصدق الذي قال:

على وجهِ ميٍّ مسحةٌ من ملاحةٍ وتحتَ الثيابِ الخزيُ لو كان باديا
ألم ترَ أنَّ الماء يكدر طعمُه وإن كان لونُ الماء أبيضَ صافيا

لقد اهتزت الثوابتُ، وانقلبت الموازينُ، وضعف الالتزامُ بالأحكام الشرعية؛ فانتشر الكذب والنفاق والتهاون بالمواعيد.. فإذا كان إخلافُ الوعد كذبًا، فالكذب من الخيانة، والخيانة من النفاق، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) أخرجه الإمام البخاري.


إن الإسلام له سَنًا يهدي صاحبَه إلى الطريق القويم، يملأ النفس؛ فيصقل معدنها، ويثقف خصائصها، ومتى حقق الإنسانُ المسلم إيمانه عُصِم من مزالق الشر.


سر إلى الأمام وعُدّ، ولن يخطئك أن تلمح مسالك الناس في الاضطراب الاجتماعي؛ من إهمال للواجبات، وتضييع للأمانات، وفقد للتعاون، وانتشار للمداهنة، وقلة النظام، وسوء التخطيط، وعدم التورع عن الشهوات والشبهات، مما جعل الكل يئن ويشتكي.


ولم ينتهِ الأمر إلى ذلك بل انظُر إلى معاداة الناس بعضهم بعضًا، وأعظمها عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، فقد اضمحلت الصلةُ حتى وصلت إلى المكالمات الهاتفية، ثم تلاشت ووصلت إلى رسائل الهاتف المحمول. وها هي ذي بدأت في الذوبان، فقد صاروا يستثقلون حتى الرسائل.


والمقصود في هذا السياق أننا نتبع الرخص في المعاملات، ونرضى بالقليل؛ حتى نتلاءم مع ضغوط الواقع؛ فنقدم الأولى، وندفع الأخرى.


ثم انظر إلى التغيرات التي طرأت على بعض الأسر المسلمة؛ إذ اختل بناؤها أو كاد، وازداد تأثرُها بما هو مسموع ومرئي ومقروء، وجلبت لنا مفاهيم مستوردة جعلت الزوجة تتمرد على زوجها، فصارت لا تقيم له حقاً. وتخلى الزوج عن تربية أبنائه، وصار لا يعبأ بالحفاظ على زوجته؛ إذ ترك لها الحبل على الغارب، تجوب الكرة الأرضية مع السائق في انطلاقة وانفلات نحو الحرية، فاضطرب وعاءُ الأسرة، واختلّت المفاهيمُ، حين اهتزت شخصيةُ القائد، فصار غير قادر على حفظ الأمن، فاختار أن يكون محصوراً بين (الأنا) و(الذات).


والمتأملُ يجد كثيرًا من أوجه استعلاء الناس بعضِهم على بعض؛ من تفاخر بالجنسيات، وكبر وخيلاء، واستهزاء بعضهم ببعض. والتمسك بمبدأ العرقية، والعصبية القبلية، وإعراضهم عن خلة التواضع.


يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله أوحى إلىّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد)، ولك أن تسرد المساوئ القلبية كالحسد والغضب، وسوء الظن، حتى أصبحنا وأمسينا نخشى من إرسال رسالة عبر الهاتف النقال، تقلب كيان المرسَل إليه رأساً على عقب، وأنت لم تقصد بها إلا خيراً. فما عليك إلا أن تكظم غيظك؛ فإما أن تصبر، وإما أن تركب موجة عواطفك فيحدث ما لا تحمد عقباه: علل معقدة، وعواصف عاتية، اقتلعت كل خلق قويم.


ولا ننكر أن ما يُبث في آناء الليل وأطراف النهار، أخذ في التنامي في المدة الأخيرة حتى تغلغل داخل أودية القلوب، وانطلق دون حدود، وتشعب كأشعة تتسلل إلى عقول رجالنا وبناتنا وشبابنا، فمسحت أصالة الماضي، وهدمت شعائر المروءة والدين والأخلاق، ورب فارط لا يستدرك، لقد بردت مشاعرنا، ووقف بنا الجبنُ دون التصدي لأمور ثقل علينا استئصالُها. فحسبنا الله ونعم الوكيل.


إن في التوكل على الله راحةً للبال؛ يقول ابنُ الجوزي: (من يريد أن تدوم له السلامةُ، والنصرُ على من يعاديه، والعافيةُ من غير بلاء، فما عرَف التكليفَ، ولا فهم التسليم)، والخلق مجبولون على النقص وظهور المعايب، ففي البعد عن مشكاة النبوة تزداد حاجتُنا إلى التمسك بديننا، والعودة إلى نهج سلفنا الصالح، وما زال في أمة محمد خير كثير.