هل تخجل أن تخطب لابنتك ؟؟
راجع نفسك وتعلم من هؤلاء
د. أحمد محمد الشرقاوي
إذا سألت أكثر الآباء : هل تخطب لابنتك إذا وجدت لها الرجل المناسب صاحب الدين والخلق ؟ ستجد أغلبهم سيفتح فاه دهشة من سؤالك الغريب والعجيب !! لكن هؤلاء نسوا أن السعي لتزويج البنت أو الأخت تقليد إسلامي حميد يمتد من عرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنته حفصة على عثمان وأبي بكر رضي الله عنهما إلى سنوات قليلة مضت كان فيها هذا التقليد حيا بين شعوبنا ...
تعالوا نمحص هذه المسألة في السطور التالية ...
وضع الإسلام اعتباراً لطبيعة الإنسان وفطرته وميوله إلى مباهج الحياة ، ولكنه لم يترك العنان لطموحه وتطلعاته ، بل وضع الضوابط وأرسى القواعد والأحكام التي تهذب هذه الطبائع وترشدها ، وتتسامى بطموحات وتطلعات الإنسان وتعلى من قدر القيم والمبادئ .
قال تعالى في سورة النور { وَأَنكِحُوا الأيامى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ، وفى هذه الآية الكريمة قبس من نور التشريع الرباني فيه صلاح للفرد والمجتمع حين يمتثل المؤمنون لهذا الأمر الإلهي بالمبادرة والمسارعة إلى تزويج صاحب الدين . والأيامى جمع ( أيّم ) والأيّم من لا زوج له رجل كان أو امرأة ، فواجب الجميع من أفرادً ومؤسسات أن يسارعوا ويشاركوا في تزويج من لا زوج له ، وواجب ولى الأمر أن يمهد الطريق فلا يضع العراقيل والعقبات أمام الزوج ، ولا يتردد ولا يتمهل حين يطرق بابه صاحب الدين والخلق الرضى طالما يلمس فيه القدرة على تبعات الزواج . وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد ، قالوا : يا رسول الله وإن كان فيه (أي قلة من مال أو عدم الكفاءة) قال : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات . كما قال صلى الله عليه وسلم :(تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) 0
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما تقولون في هذا ؟ قالوا حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يستمع قال ثم سكت ، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال : ما تقولون في هذا ؟ قالوا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يستمع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خير من ملء الأرض مثل هذا ) 0
ولا مانع من الزواج بذات المال أو ربَّة الحسن والجمال ، أو بربيبة الحسب وسليلة النسب ، ولكن كل هذه الأمور لا وزن لها إلا إذا زانها وصانها دين خالص يحفظها ويرعاها. فالزوجة الصالحة التي تطيع زوجها وتعينه على طاعة الله هي خير متاع الدنيا وأنعم نعيمها ، وهى قرة العيون وبهجة القلوب وبها تنهض النفوس وتعلو الهمم ، قال تعالي في سورة الفرقان في سياق بيان صفات عباد الرحمن { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَ ا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا }
· نماذج مضيئة
تقوى الله هي أساس الاختيار في الزواج وتاريخنا الإسلامي حافل بالمواقف والأمثلة العملية للمنهج الرشيد في الاختيار على أساس الدين وحسن الخلق : ومن القصص الرائعة في هذا المجال ما يلي :
· دراهم معدودة
سعيد بن المسيب وهو من فقهاء التابعين زوج ابنته من تلميذه عبد الله بن وداعة – على درهمين أو ثلاثة. فعن عبد الله بن أبى وداعة قال : كنت أجالس سعيد بن المسيب فتفقدني أياماً فلما أتيته قال : أين كنت ؟ قلت توفيت أهلي فانشغلت بها ، فقال هلا أخبرتنا فشهدناها ، قال : ثم أردت أن أقوم فقال : هل استحدثت امرأة ؟ فقلت : يرحمك الله تعالى ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة ؟ فقال : أنا ، فقلت : وتفعل ؟ قال : نعـم ، فحمـد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين أو قال ثلاثة ، قال : فقمت وما أدرى ما أصنع من الفرح فصرت إلى منزلي وجعلت أفكر ممن آخذ وممن أستدين فصليت المغرب وانصرفت إلى منزلي ، فأسرجت وكنت صائما ، فقدمت عشائي لأفطر ، وكان خبزاً وزيتاً وإذا بابي يقرع فقلت من هذا ؟ قال : سعيد ، قال : ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب وذلك أنه لم ير أربعين سنة إلا بين داره والمسجد !
قال : فخرجت إليه فإذا به سعيد بن المسيب فظننت أنه قد بدا له فقلت : يا أبا محمد لو أرسلت إلى لأتيتك فقال : لا أنت أحق أن تؤتى ، قلت فما تأمر ، قال إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت فكرهت أن أبيتك الليلة وحدك ، وإذا بابنته قائمة خلفه في طوله ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب ورده فسقطت المرأة من الحياء ، فاستوثقت الباب ثم تقدمت إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت فوضعتها في ظل السراج لكيلا تراه ، ثم صعدت السطح فرميت الجيران فجاءوا وقالوا : ما شأنك ، قلت : ويحكم زوجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم وقد جاء بها الليلة على غفلة فقالوا : أو سعيد زوجك ؟ قلت : نعم ، قالوا : وهى في الدار ، قلت : نعم ، فنزلوا إليها وبلغ ذلك أمي فجاءت وقالت : وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام .
فقال : فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل النساء وأحفظ الناس لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بحق الزوج ، قال : فمكثت شهراً لا يأتيني سعيد ولا آتيه ، فلما كان بعد الشهر أتيته وهو في حلقته فسلمت عليه فرد على السلام ولم يكلمني حتى تفرق الناس من المجلس ، فقال : ما حال ذلك الإنسان ؟ فقلت : بخير يا أبا محمد على ما يحب الصديق ، ويكره العدو ، قال : إن رابك منه أمر فدونك والعصا فانصرفت إلى منزلي فوجه إلى بعشرين ألف درهم ،
قال عبد الله بن سليمان وكانت بنت سعيد بن المسيب هذه قد خطبها منه عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف .
· صاحب البستان
زوج أحد التابعين ابنته من أجير فقير كان يعمل في بستانه وكان من نتاج هذا الزواج المبارك الإمام الفقيه المحدث المفسر المجاهد العابد الزاهد عبد الله بن المبارك. ولهذا الزواج قصة أوردها ابن خلكان في وفيات الأعيان وابن العماد في شذرات الذهب وغيرهما [ أن المبارك بن واضح الحنظلى كان يعمل في بستان لمولاه وأقام فيه زماناً ، ثم إن مولاه صاحب البستان جاءه يوماً وقال له : أريد رماناً حلواً ، فمضى إلى بعض الشجر وأحضر منها رماناً فكسره فوجده حامضاً ، فحرد عليه وقال : أطلب الحلو فتحضر لي الحامض ؟ هات حلواً ، فمضى وقطع من شجرة أخرى فلما كسره وجده أيضاً حامضاً ، فاشتد حرده عليه ، وفعل ذلك مرة ثالثة فذاقه فوجده أيضاً حامضاً فقال له بعد ذلك : أنت ما تعرف الحلو من الحامض ؟ فقال له لا ، فقال : وكيف ذلك ؟ فقال لأني ما أكلت منه شيئاً حتى أعرفه . فقال : ولم لم تأكل ؟ قال : لأنك ما أذنت لي بالأكل منه !! ، فعجب من ذلك صاحب البستان ، وكشف عن ذلك فوجده حقاً ، فعظم في عينه ، وزاد قدره عنده ، وكانت له بنت خُطبت كثيراً ، فقال له : يا مبارك ، من ترى أزوج هذه البنت ؟ ، فقال : أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب ، واليهود يزوجون للمال ، والنصارى للجمال ، وهذه الأمة للدين ، فأعجبه عقله ، وذهب فأخبر به أمها وقال لها ما أرى لهذه البنت زوجاً غير مبارك. فتزوجها فجاءت بعبد الله بن المبارك فتحت عليه بركة أبيه وأنبته الله نباتاً صالحاً ورباه على عينه ] .
· عقد اللؤلؤ
ومن الأمثلة الرائعة تلك القصة العجيبة التي أوردها ابن رجب [ ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي ، أن الشيخ الصالح أبا القاسم الخرّاز الصوفي البغدادي قال : سمعت القاضي أبا بكر محمد عبد الباقي بن محمد البزّار البغدادي الأنصاري يقول : كنت مجاوراً بمكة المكرمة ، فأصابني يوماً من الأيام جوع شديد لم أجد شيئاً أدفع به عنى الجوع ، فوجدت كيساً مشدودا بشرَّابة ، فأخذته وجئت به إلى بيتي ، فحللته فوجدت فيه عقداً من لؤلؤ لم أر مثله !. وخرجت فإذا بشيخ ينادى على العقد ، ومعه خرقة فيها خمسمائة دينار وهو يقول : هذا لمن يرد علينا الكيس الذي فيه اللؤلؤ فقلت : أنا محتاج ، وأنا جائع ، فآخذ هذا الذهب ، فأنتفع به ، وأرد عليه الكيس ، فقلت له : تعالي إلىٌ ! فتوجهنا إلى بيتي فأعطاني علامة الكيس ، وعلامة الشرابة وعلامة اللؤلؤ وعدده ، والخيط الذي هو مشدود به ، فأخرجته ودفعته إليه ، فسلم إلى خمسمائة دينار ، فلما أخذتها ، قلت : يجب على أن أعيده إليك ولا أخذ له جزاء ، فقال لي : لا بد أن تأخذ ، وألح على كثيراً فلم أقبل ذلك منه ، فتركني ومضى .
وخرجت من مكة ، وركبت البحر ، فانكسر المركب وغرق الناس ، وهلكت أموالهم ، وسلِمت أنا على قطعة من المركب ، فبقيت مدة في البحر لا أدرى أين أذهب فوصلت إلى جزيرة فيها قوم ، فقعدت في بعض المساجد ، فسمعوني أقرأ ، فلم يبق في تلك الجزيرة أحد إلا جاء إلى وقال : علمني القرآن ، فحصل لي من أولئك القوم شئ كثير من المال ، وقالوا لي : تحسن الكتابة ؟ قلت نعم ، قالوا : علمنا الخط ، فجاءوا بأولادهم فكنت أعلمهم ، فحصل لي أيضاً من ذلك شئ كثير .
فقالوا بعد ذلك عندنا صبية يتيمة ولها شئ من الدنيا ، نريد أن تتزوج بها ، فامتنعت ***، فقالوا لابد وألزموني فأجبتهم إلى ذلك , فلما زفوها إلى مددت عيني أنظر إليها ، فوجدت ذلك العقد بعينه معلقاً في عنقها ، فما كان لي حينئذ شغل إلا النظر إليه ، فقالوا : يا شيخ كسرت قلب هذه اليتيمة ، من نظرك إلى هذا العقد ، ولم تنظر إليها ، فقصصت عليهم قصة العقد ، فصاحوا بالتهليل والتكبير ، حتى بلغ إلى جميع أهل الجزيرة فقلت : ما بكم ؟ قالوا : الشيخ الذي أخذ منك العقد هو أبو هذه الصبية ، وكان يقول : ما وجدت في الدنيا مُسلما إلا هذا الذي رد على هذا العقد ، وكان يدعو ويقول : اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه بابنتي **، والآن وقد حصلت فبقيت معها مدة ورزقت منها بولدين ، ثم إنها ماتت ، فورثت العقد أنا وولداي ، ثم مات الولدان ، فحصل العقد لي فبعته بمائة ألف دينار ، وهذا المال الذي ترونه معي ، من بقايا ثمن ذلك العقد ].
والأمثلة من الماضي والحاضر أكثر من أن تحصى ، وحين يبنى الزواج على هذه الشيم الكريمة فإنه يكون زواجاً طيباً مباركاً 0
وفي الختام نقدم هذه الأبيات هدية إلى كل أب غيور يسعى إلى إسعاد بناته وجاء رجل للإمام الحسن بن على رضى الله عنهما ، وقال له يا إمام إن لي بنتا قد كثر الخطاب عليها ، فلمن أزوجها ؟ قال له زوجها ممن يتقى الله ، فإنه إن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها .
جــاء رجل للحســن بن على عـرض عليه ســؤالا
إن لـدى اليــوم فتـــاة تـتــدلى حســـــنا وجـــمــالا
قد كـثـر الخـطـاب عليـها يرمـــون على الأمــــوال
حـتى أصــبح بيتي ســوقا وغـدا أ أفـواجـا تتوالى
كـل يرغــب فيها حـتى ضــقت وداعـا واســــتقبالا
وأرى فيهم من هو حسن وأرى منهم أحسـن حالا
من يمـــلـك منهم أخــلاقـا قـد لا يمــلك معها مـالا
وأنـا لا أرجــو أمـوالا بـل أرجـو ديـنـا وخـصــالا
فـتـرى مـن أتـخـيـر مـنـهم لفـتاتي ويكـون حلالا
وتـرى مـن أفـضـلهم زوجـا ديـنا وخصالا وخلالا
قـال الحســـن لـه : زوجــها أكرمـها حــبا ودلالا
وإذا البـغـض نـمـا بـينـهما لم يظلمــها أو يتعالى
أخـذ السـائل بوصـيته فجنى الخـير وصال وجـال