عزيمة الإمام البخاري - رحمه الله -
عمر بن محمد عمر عبدالرحمن


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد....
أيها القارئ الكريم: كلمة "العزم" تعني: عقد القلب على إمضاء الأمر، والقصد على إمضائه وتنفيذ الأمر الذي تم العزم عليه دون تراجع مع التوكل على الله - سبحانه - وتعالى قال تعالى: (فإذا عزمت فتوكل علي الله) [آل عمران: 159]، فالعزيمة مع التوكل على الله وحسن الظن بالله تضاعف قوة التحمل من تحقيق الأهداف إلى ما لا نهاية.
وقوة العزم في الخير من صفات الأنبياء والمرسلين والصالحين قال الله تعالى: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) [الأحقاف: 35]. والعزيمة الصادقة تصنع المستحيلات وتلين الصعوبات، وهي خير معين على تحقيق ما نرجو وما نريد، قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: " فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن لديه عزيمة فهو ناقص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص، فإذا انضم الثبات إلي العزيمة أثمر كل مقامٍ شريفٍ، وحال كامل، ولهذا جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه: (( اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد))، ومعلوم أن شجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا علي ساق الصبر"، وخير مثال حقيقي وواقعي على ما ذكرنا هو العزيمة الكبيرة التي لا حدود لها عند أمير المؤمنين في الحديث الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري.
فلقد حدد الإمام البخاري - رحمه الله - رسالته في هذه الحياة بناءً على ما وهبه الله من ذاكرة حديدية وظفها في عمل جليل وهو جمع الصحيح من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كتاب واحد وظل يعمل لتحقيق تلك الرسالة مدة ستة عشرة عاماً متواصلة يصل الليل بالنهار والنهار بالليل بجدٍ ودأبٍ وعملٍ متواصلٍ وعناية حتى تحقق له حلمه في جمع السنة وحمايتها وحفظها بتمام كتابه " الجامع الصحيح " وهو المعروف بـ " صحيح البخاري"، والذي عدًّه العلماء بأصح الكتب بعد كتاب الله - عز وجل -، يقول الإمام البخاري: - كنت عند " إسحاق بن راهويه"، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتاباً مختصراً لسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع هذا الكتاب يعني الصحيح الجامع/ وقع الأمر بداية في قلبه، ثم أصبحت له عزيمة قوية في نفسه وهمة عالية جعلته يسهر مدة ستة عشر عاماً وهو يتنقل بين البلدان لجمع صحيح الحديث ويتحري بكل دقة في جمع الصحيح فقط من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو في كل ذلك يعمل بصبرٍ وجلدٍ حتى كان لا يدون الحديث إلا بعد أن يتوضأ ثم يُصلي ركعتين يستخير الله - عز وجل - فيهما أيدون هذا الحديث أم لا؟؟؟!!! وروي عن أحد تلاميذ البخاري أنه بات عنده ذات ليلة فأحصي عليه أنه يقوم بالليل ويوقد السراج يستذكر أشياء يعلق عليها في تدوين الأحاديث عدة مرات أو قال: بلغت ثمانية عشر مرة، بل قال محمد بن أبي حاتم الوراق: كان أبو عبد الله - يعني البخاري إذا كنت معه في سفر يجمعنا في بيت واحد إلا في القيظ أحياناً فكنت أراه يقوم في الليلة الواحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القداحة فبوري ناراً ويسرج ثم يخرِّج أحاديث فيعلق عليها، وهكذا صاحب الرسالة يعيش بها ولها، ويجافي النوم من أجلها، حتى يتحقق حلمه في الدنيا، وينال الأجر بمشيئة الله تعالى في الآخرة، وصلي اللهم وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والآه