قيمة الزمن عند المسلم
عيسى بن عواض العضياني



الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه، وعلى آله ومن والاه.

أما بعد:

فإن نعم الله لا تعد ولا تحصى، ولا يمكن للبشر أن يحصوها أو يدركوها على حقيقتها، وذلك لكثرتها واستمرارها ويسرها وتتابعها: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) [إبراهيم 34)].

وللنعم أصول وفروع: فمن نعم الله مثلاً الصحة في الجسم والوفرة في المال، ونوافل العبادات: كقيام الليل وتلاوة القرآن وذكر الله والمحافظة على سنن الفطرة ونحو ذلك.

ومن أصول النعم: وهي كثيرة لا تحصى الإيمان بالله -تعالى- وبما جاء من عنده والعمل بمقتضاه وهو أولها.

ومن أصول النعم نعمة الصحة والعافية والتي منها سلامة السمع والبصر والفؤاد والجوارح وهي محور حركة الإنسان وقوام استفادته من وجوده.

ومن أصول النعم: نعمة العلم فهي نعمة كبرى يتوقف عليها رقي الإنسانية وسعادتها الدنيوية والأخروية.

ومن أصول النعم: نعمة الزمن، فالزمن هو الحياة وميدان وجوده الإنسان، وقد جاءت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على نعمة الزمن، ومن ذلك:

قوله -تعالى-: (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك تجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار...) [إبراهيم 32-33) فمن سبحانه بالليل والنهار اللذين هما الزمان.

وقال -سبحانه-: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب... ) [الإسراء 12)].

وقد أنب الله -تعالى- الكفار إذ أضاعوا أعمارهم، فقال: (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير... ) [فاطر 37) فقد بقوا على كفرهم مع إمهال الله لهم، و(النعمة) موجبة للتذكير والاستبصار وميدان للإيمان والاستذكار.

قال ابن كثير في تفسير الآية -أي أو ما عشتم في الدنيا أعماراً لو كنتم ممن ينتفع بالحق لا انتفعتم به في مدة عمركم- قال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر.

من السنة: إعذار الله لمن بلّغه من العمر ستين سنة، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اعذر الله -عز وجل- إلى امرئ أخر عمره حتى بلغه ستين سنة)).

وجاء في المسند عنه -رضي الله عنه- أيضاً قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من عمره الله - تعالى - ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر)) أي أزال عذره ولم يبق له موضعأً للاعتذار.

في البخاري عن ابن عباس مرفوعأً: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس)) فدل على أن الكثير مفرط مغبون.

حرص السلف على كسب الوقت بالخير:

فقد كان السلف الصالح ومن سار على نهجهم من الخلف أحرص الناس على كسب الوقت بالخير، سواء كان عالماً أم عابداً، فقد كانوا يسابقون الساعات ويبادرون اللحظات.

نقل عن عامر بن عبد قيس أحد التابعين الزهاد أن رجلاً قال له: كلمني، فقال له: عامر بن عبد قيس: أمسك الشمس، يعني أوقف الشمس واحبسها عن المسير حتى أكلمك.

وقال ابن مسعود: "ما ندمت على شي ندمى على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي".

وقال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: "إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيه".

قال بعضهم:

سبيلك في الدنيا سبيل المسافر *** ولابد من زاد لكل مسافر

ولابد للإنسان من حمل عدّة *** ولاسيما إن خاف صولة قاهر

قال بعض الحكماء: "من كانت الليالي والأيام مطاياه سارت به وإن لم يسر".

وفي هذا يقول بعضهم:

وما هذه الأيام إلا مراحل *** يحث بها داع إلى الموت قاصد

وأعجب شيء لو تأملت أنها *** منازل تطوى والمسافر قاعد

ما هي الأمور التي تساعد على حفظ الوقت؟، قال ابن هبيرة:

الوقت أنفس ما عنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيع

معرفة أهمية الوقت:

فالوقت هو الحياة فمعرفة أهميته يعني معرفة أهمية الحياة وقيمتها، فمن لم يعرف قيمة الوقت عاش ميتاً في الحقيقة وإن كان يتنفس، وهذا هو السر والله أعلم في قول الكفار عند سؤالهم: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم... ).

الزهد في الدنيا:

قال بعض الزهاد: "ما علمت أن أحداً سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان".

قال بعض الغارقين في بحر الملذات:

قد شاب رأسي ورأس الحرص لم يشب *** إن الحريص على الدنيا لفي تعب

لو كان يصدقني ذهني وفكرته *** ما أشتد حرصي على الدنيا ولا نبضي

أسعى واكدح فيما لست أدركه * والدهر يكدح في زندي وفي عصبي

تذكر الموت:

فمن تذكر الموت دعاه ذلك إلى الاستعداد لوقته، طالباً لما عند الله، ولهذا قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً -أي فارغاً- لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة".

وقد جاء في الحديث الصحيح عند الطبراني والبيهقي وصححه الألباني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس يتحسر أهل الجنة على شي إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله -عز وجل- فيها" يتحسرون مع ما هم فيه من النعم.

معرفة قيمة مرحلة الشباب وحال الفراغ:

فهما نعمتان توجدان في وقت ولا توجدان في وقت آخر، ولهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- باغتنامها قبل الفوات كما جاء في الحديث السابق: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ))[رواه البخاري وغيره].

ولما كانت الهمة ضعيفة غلبت السلبية وضعف الإنتاج في شبابنا. فعدد المسلمين أكثر من مليار ولا يذكر أثر لكثرتهم على الساحة العالمية.

مع أننا نرى واقع شباب الغرب يتربى كثير منهم على الجدية والتنظيم وعدم خلط الجد باللهو، فأوقات الجد لها زمن وأوقات الترفية والترويح لها زمن، مع أنهم ماديون يعيشون لشهواتهم وأهوائهم، فالمسلم أولى برعاية وقته ورسم خططه وتنظيم أعماله، لأن دينه يدعو للنظام والجدية.

معرفة كيف كان الصالحون يستغلون أوقاتهم:

قيل لنافع، ما كان ابن عمر يصنع في منزله، قال: "الوضوء لكل صلاة والمصحف فيما بين ذلك"[متفق عليه].

فقد كان ابن عمر -رضي الله عنهما- مستثمراً أوقاته بعد قيامه بما لا بد منه من القوت في طاعة الله من صلاة وقراءة كتاب الله -تعالى-، ونحوها؛ لأنه عرف قيمة الزمن.

أبو يوسف صاحب أبي حنيفة لازم أبا حنيفة في طلب العلم 17 سنة أو 29 سنة ما فاتته صلاة الفجر معه، ولا فارقه في فطر ولا أضحى إلى أن مات لحرصه.

قال عن نفسه: مات ابن لي فلم أحضر جنازته ولا دفنه وتركته على جيراني وأقربائي مخافة أن يفوتني من أبي حنيفة شيء لا تذهب حسرته عني".

جاء في ترجمة محمد بن سحنون القيرواني المالكي: أنه كان له مملوكة يقال لها، أم مدام فكان عندها يوماً وقد شغل في تأليف كتاب إلى الليل فحضر الطعام فاستأذنته فقال لها أنا مشغول الساعة، فلما طال عليها الانتظار جعلت تلقمه الطعام حتى أتى عليه كله، واستمر في التأليف إلى أذان الصبح فلما أذن قال: شغلنا عنك اللية يا أم مدام. هات ما عندك، فقالت: والله يا سيدي ألقمته لك، فقال: ما شعرت بذلك.

ما هي العوائق التي تمنع من استغلال الوقت؟

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة عيشه الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مر السحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره وغير ذلك ليس محسوباً من حياته، وإن عاش فيه عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والهوى والأماني الباطلة وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته".

فإذا أدرك العبد أهمية الوقت فليحذر من العوائق التي تمنع من الانتفاع من الوقت ومن ذلك:

أ*- الهوى: فإن من أتبع نفسه هواها قادته إلى الكسل والخمول والفتور والخسارة، فقد جاء في الحديث: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني))[رواه الترمذي وحسنه]. وقال -سبحانه-: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيل)[سورة الفرقان 43)].

ب*- طول الأمل: فطول الأمل داعية التسويف والتفريط، قال -تعالى-: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعملون) [الحجر 3)].

قال القرطبي -رحمه الله-: "يشغلون عن الطاعة". وقال الحسن البصري: "ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل".

قال أبو الدرداء لما رأى الناس في دمشق يضيعون أوقاتهم وقد وقف على درج المسجد: "يا أهل دمشق ألا تسمعون من أخ لكم ناصح؟ إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيراً ويبنون مشيداً ويأملون بعيداً فأصبح تجمعهم بوراً و بنيانهم قبوراً وأملهم غروراً، وأنشد:

يا ذا مؤمل آملاً وأن بعدت *** منه ويزعم أن يحظى بأقصاها

أنى تفوز بما ترجوه ويك وما * أصبحت في ثقة من نيل أدناها

ج*-العوائق السبع: جاء عند الترمذي وحسنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم– قال: ((بادروا بالأعمال سبعأً: هل تننظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفندأً، أو موتأً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)). فهذه سبع عقبات تمنع وتقطع السائر إلى الله -تعالى-، فعلى العبد المؤمن أن يبادر نفسه قبل أن تنزل به هذه العوائق فتمنعه من تحصيل العمل الصالح على الوجه الأكمل أو تمنعه منه بالكلية.

لب الموضوع وقطب رجاه، ما كيفية استغلال الوقت؟ إذا عرفت أهمية الوقت والنصوص الواردة فيه، وعرفت العوامل المساعدة على حفظه والعوامل الداعية إلى قطعه وإهداره فقد يقول قائل: كيف استفيد من الوقت؟

والجواب: يكون ذلك بعدة أمور ولكل من الناس طريقته وظروفه وميوله، لكن هناك أمور مشتركة بين الجميع ومن ذلك:

1- الحركة المثمرة النافعة: ولابد أن تكون الحركة هادفة ومقننة وعلى خطى واضحة، وفي المجال الذي يحسنه الإنسان. فالداعية يتحرك ليبلغ دين الله، والعالم يجلس للناس يرشدهم ويوجههم لما فيه الخير، والمعلم يصلح ويربي وينشي جيلاً، والأب يؤدب ويربي ويرعى من تحته وهكذا.

والحركة شاملة لما يمكن أن يقال في الاستفادة من الوقت.

والدين كان ولا يزال فرائضاً *** ونوافلاً لله واستغفاراً

والدين ميدان وصمصام وفرسان *** تبيد الشر والأشرار

2- المساعدة وقضاء الحاجات: عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود، أما عندما نعيش لغيرنا فإن الحياة تبدو طويلة عميقة تبدأ من حيث بدأت البشرية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض.

والقدوة والأسوة هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فعلى يده تقضى حوائج الناس الدينية والدنيوية وسيرته تعج بذلك.

وكذلك أتباعه بإحسان إلى يوم الدين؛ لأنه قد رسم له الطريق في قوله: ((ولأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين)) [رواه الطبراني وصححه الحاكم وضعفه الألباني في الترغيب والترهيب].

3-خمسة أمور كان الصحابة يحافظون عليها: ذكر القرطبي "في بهجة المجالس وأنس المجالس" عن الإمام الأوزاعي أن الأمور التي كان الصحابة يحافظون عليها هي "لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله" ولنأت عليها بشيء من البيان لأهميتها؛ لأن الصحابة لم يحافظوا عليها إلا لعظم منزلتها عند الله -سبحانه-:

أ*- الحرص على ملازمة الصالحين وجماعة المسلمين وإمامهم، وعدم الافتراق والشذوذ، فمن شذ شذ في النار؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من أراد بحبوحة –وسط- الجنة فليلازم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد))[صحيح رواه أحمد وابن ماجة والحاكم]. وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "كدر الجماعة خير من صفو الفرد".

إن الجماعة حبل الله فاعتصموا * منه العروة الوثقى لمن دانا

ب*- اتباع السنة "ونبذ البدعة والتكلف على غير هدى: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن السنة كما قال الإمام مالك -رحمه الله- مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق". قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: "لست تاركاً شيئاً كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلا عملت به إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ". ولعله يشير إلى آية: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أن يصيبهم عذاب أليم) [النور 63)].

ت*- عمارة المساجد: بذكر الله وطاعته، وهي من أكبر الأدلة على أن قلب العبد معمور ومفعم بالإيمان، وعمارته تكون بأنواع القرب: من تلاوة وذكر وصلاة واعتكاف ومحافظة على الجمع والجماعات وحضور المحاضرات وغير ذلك.

وقد جاء في سيرة الأعمش وقد بلغ سبعين سنة: أنه لم تفته التكبيرة الأولى ويقول الراوي عنه اختلفت إليه أكثر من ستين سنة فما رأيته يقضي ركعة.

د- تلاوة القرآن: فالقرآن روح البدن والقلب ومادة حياته، فإذا تركه العبد أصيبت مقاتله، وكثرت عليه الآفات الدينية والبدنية. قال خباب بن الأرت: "يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت، فلن تتقرب إلى الله بشيء أحب إليه مما خرج منه".

قال العلامة ابن القيم:


حب الكتاب وحب ألحان الغناء *** في قلب عبد ليس يجتمعان

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا *** تقييده بشرائع الإيمان

واللهو خف عليهم لما رأوا *** فيه من طرب ومن الحان

هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.