مفاهيم للدعاة:







القرآن أرسى مبادئ الدعوة


هند بنت مصطفى شريفي









إن نشر الدعوة الإسلامية مهمة شاقة وطويلة، وتحتاج إلى جهد كبير وطاقة عظيمة للقيام بها، كي تؤتي ثمارها اليانعة، ولا بد أن يدرك الدعاة طبيعة هذه الدعوة وأهمية هذا العمل العظيم، ليبذلوا فيه ما يسعهم من صبر وجهد، وهناك بعض المفاهيم والأمور التي يجب على الداعية أن يفقهها ويعيها قبل نزوله إلى ساحة الدعوة، وإلا أخفقت جهوده، ولم تحقق النتائج المرجوة لها كاملة، وقد يتراجع الداعية أو يتضعضع عند أول شدة أو نازلة أو صدود، فتسلحه بهذه الأمور يشكل له حافزا قويا في الثبات، ودافعا في الشدائد، بل إن فقهه لها يثمر - بإذن الله - الحكمة في دعوته : ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾[1].





والدعوة الإسلامية ينبغي أن تكون معهدا يخرج المؤمنين الصادقين المجاهدين، قبل أن تكون معهدًا فكريًا ينشر الثقافة والمفاهيم المجردة بين الناس، كما أنها تحتاج إلى الوعي العميق والحكمة، مثل حاجتها إلى الجرأة والتضحية والإقدام[2]، فلا بد إذن من تحقيق هذه المفاهيم في الواقع بصدق ويقين، وإلا كانت حجة على الداعية، وقد قيل: (يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل)[3].





المفهوم الأول:


القرآن والسنة هما مصدر التلقي الذي يصدر عنه الدعاة:





فالقرآن الكريم قد أرسى قواعد الدعوة ومبادئها، وعيَّن وسائلها وطرقها، ورسم المنهج للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وللدعاة من بعده بدينه القويم[4]، فهو الفرقان الذي فيه تبيان كل شيء، والمحفوظ بإذن الله إلى يوم القيامة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو البينة التي أرسلها الله للناس مبشرًا ومنذرًا بكتابه، كما قال تعالى ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُل ﴾ [5]، وهو إمام الدعاة، وسنته هي المصدر التشريعي الثاني باتفاق العلماء[6].





وسيرته العطرة هي خير نموذج يحتذيه من أراد السير على طريقه، لصحتها وتنوعها وتدرجها في مراحل الدعوة، سواء أكان ذلك في العهد المكي أم في العهد المدني، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن ربه تعالى، وهو مصدر التلقي بما يُبلِغ من قرآن وسنة، وقد غضب صلى الله عليه وسلم يوماً من عمر رضي الله عنه، لما جاء بصحيفة من التوراة، فقرأها، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية... والذي نفسي بيده، لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيًّا، ما وسعه إلى أن يتبعني))[7].





والتمسك بالكتاب والسنة هو العاصم من الفتن والانحراف، كما قال تعالى: ﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾[8]، فالدعاة مطالبون بالتمسك بهذا القرآن والعمل به، وجعله مصدر هدايتهم ومنطلق حركتهم، لعدم صلاحية المناهج الأخرى للتلقي عنها أو إتباعها، لتحريفها وتغييرها، والدين الخالص النقي هو الإسلام، وذلك يحصل بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم دون سواه[9]، لأن تلقيهم منهج دعوتهم من هذين المصدرين تحقيق لدخولهم ضمن أهل السنة والجماعة، وضمن الفرقة الناجية، فهم (يعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد، وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة)[10].





وحين يدعو الدعاة إلى الحق، ويأمرون بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء، وحين يدعون إلى مكارم الأخلاق، ويأمرون بالبر والصلة، وينهون عن الخيلاء والبغي والظلم، فكل ما يقولونه أو يفعلونه، فإنما هم متبعون للكتاب والسنة[11].





وممن ينبغي أن يقتدي بهم الدعاة، صحابة رسوله الكرام، فهم أعلم الخلق بدين الله بعد نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم خير القرون، رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه، وجاهدوا معه وحملوا مشعل الهداية بعد لحوقه بالرفيق الأعلى[12]، كيف لا يكونون كذلك وقد تضافرت الآيات والأحاديث في تعديلهم والثناء عليهم[13]، كقوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [14].





وإنما تثبت أقدام الدعاة وتُقبل دعوتهم ويستجاب لهم، بقدر علمهم وإطلاعهم على الكتاب والسنة، وعمق فقههم لهذين المصدرين الكريمين، والتزامهم بما فيهما من الأوامر والنواهي، وقد خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فقال: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)[15]. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تفقهوا قبل أن تسودوا)[16]، وعقب الإمام البخاري رحمه الله على ذلك بقوله: (وبعد أن تسودوا، وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم)[17]، فلم يمنعهم عامل السن أو تأخر بعضهم في الإسلام من التفقه في الدين والدعوة إلى الله.





وهذا فقيه الأمة وحبر الإسلام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يرزقه الله العلم والحكمة والفقه، ويدخله عمر رضي الله عنه مع أشياخ بدر فوجد بعضهم في نفسه، فاعترض عليه بعض الصحابة، ثم أثبت عمر لهم فقهه وعلمه[18] رضي الله عنهم أجمعين.









[1] سورة البقرة جزء من آية 269.




[2] بتصرف، مشكلات الدعوة فتحي يكن ص 154.




[3] قاله سفيان الثوري رحمه الله، جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله: الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي الأندلسي 2/10، دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط: بدون 1398هـ 1978م .




[4] بتصرف، طريق الدعوة في ظلال القرآن: أحمد فايز 1/128، مؤسسة الرسالة بيروت، ط: بدون 1403هـ 1983م.




[5] سورة المائدة جزء من آية 19.




[6] كما نقل ذلك الإمام محمد بن علي الشوكاني فقال:( قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألا وأني أوتيت القرآن ومثله معه))، أي أوتيت القرآن ومثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن.. الخ) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص 33، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان، ط: بدون 1399هـ 1979م.




[7] مسند الإمام أحمد 3/387 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه . وقال الشيخ الساعاتي: إسناده حسن. الفتح الرباني 1/175.




[8] سورة آل عمران آية 101.




[9] بتصرف، معالم الشخصية الإسلامية: د. عمر سليمان الأشقر، مكتبة الفلاح الكويت ط:3، 1402هـ 1982م.




[10] الفتاوى: ابن تيمية 3/157.




[11] بتصرف، الفتاوى: ابن تيمية 3/158. وانظر أهل السنة والجماعة، معالم الانطلاقة الكبرى ص 80.




[12] قال شيخ الإسلام: ثم من طريقة أهل السنة والجماعة، اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:(( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء والراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)) الفتاوى: ابن تيمية 3/157.




[13] قال الخطيب البغدادي رحمه الله بعد إيراده العديد من الأدلة: وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم إلى تعديل أحد من الخلق له، إلا أن يثبت على أحد ما لا يحتمل إلا قصدا لمعصية، والخروج من باب التأويل، فيحكم بسقوط العدالة، وقد برأهم الله من ذلك ورفع أقدارهم عنه. بتصرف، الكفاية في علم الرواية: الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي ص 48، المكتبة العلمية ط: بدون. وللاستفادة انظر عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم 2/800-814.




[14] سورة الأنفال آية 74.




[15]صحيح البخاري كتاب العلم باب من يرد الله به خيرا يفقهه 1/26.




[16] صحيح البخاري كتاب العلم باب الاغتباط في العلم والحكمة 1/26.




[17] كتاب العلم باب الاغتباط في العلم والحكمة، وذكر التعقيب في ترجمته للباب في فتح الباري 1/165. وقال الحافظ ابن حجر: وعقب البخاري على قوله خشية أن يفهم أحد من ذلك أن السيادة مانعة من التفقه، وإنما أراد عمر أنها قد تكون سببا للمنع، لأن الرئيس قد يمنعه الكبر والاحتشام أن يجلس مجالس المتعلمين. بتصرف، 1/166 .




[18] سبق تخريج الحديث ص 186.