القرآن الكريم .. بداهة التنزيل من رب العالمين
نايف عبوش


لعل من الضروري الإشارةَ إلى أن المناهج المادية المعاصرة التي اعتمدت استبدالَ القيم الإنسانية بالثمن؛ أي بمقابل مادي للقيمة مهما كان اعتبارها، وقامت على إسقاط الشخصية "الكاريزمية" في البناءِ الاجتماعي، بدءًا من الوالدين، وانتهاءً برموز الدِّين، والثقافة، والأدب، وغير ذلك ممَّا أصبحنا نراه يتفشى بيننا بسرعة، تظل من بين أهم المخاطر التي تداهم مفاهيمنا الإسلامية، وتهدد قيمَنا العربية الحميدة، وتعملُ على تفكيكِ ترابطِ البِنى الاجتماعية، والأسرية، وزعزعة منظومة القِيم الدينية، بالتشكيكِ في مصدريتها، مما يهدِّد مجتمعاتنا العربية والإسلامية بمسخ الهوية، بعد المس بقداسة أصولها الاعتقادية.
وتأتي تخرُّصات التشكيك في مصدرية إلهية القرآن الكريم، ودعاوى أنسنته، في مقدِّمة أجندات تلك المناهج.
على أن القراءة الواعية المتمعنة بتلك المباحث، تكشف للمتتبع مدى هوسها بمنهج الخروج على المقدسات، وانبهارها الجامح بأساليبِ التحليل المادي، من دون مراعاةٍ للمعيارية المنهجية، التي ينبغي أن يتم اعتمادُها عند البحث في مجالات المعرفة الإسلامية.
ولعل من السهولة عند ذاك أن يكتشف القارئ الحصيفُ، تهافتَ تلك الافتراءات الزائفة التي تزعم بشرية النص القرآني، اعتمادًا على آليات تناولها له، والأغراض المسبقة القابعة وراءها، فيلاحظ مثلًا أن تلك المماحكات تلفُّها المثالب التالية:
1- أنها تعكس قناعاتٍ شخصية محضة مفرِطة في الذاتية، وتفتقر إلى الموضوعية، رغم ادِّعائها الموضوعية العلمية، والتحري المنصف.
2- عند تتبع مصدرية النص الإلهي للقرآن، يلاحظ أن أساطينَ كفَّار الجاهلية عند نزوله سلَّموا بعجزهم المطلق عن محاكاته، أو الإتيان بمثله، على بلاغتِهم المعروفة، وجزالة ألفاظهم، وكفرهم الصريح به، بعد أن استهلكوا كلَّ ما دار في خَلدهم من ادِّعاءات زائفة، وهم أرباب الفصاحة، من أنه قول شاعر، أو قول ساحر، أو قول مجنون، فلم تغِبْ هذه الحقيقة الناصعة عن الوليد بن المغيرة، وعن أبي الحكَم بن هشام، وعن أميةَ بن أبي الصَّلت، وعن النَّضر بن الحارث؛ ليكتشفها المحاضر بعد 1400 سنة، فهذا رأس كفارهم "الوليد بن المغيرة" حين سمعه، وهو من بين أبلغِ فصحائِهم؛ قال في القرآن: "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق"، وكل كلام يعاد ويتكرر يمل ويضعف إلا القرآن، لا يخلَق على كثرة الردِّ، ولا يشبع منه العلماء، يزيدُه حلاوةً وطراوة صوتٌ حسن، وتلاوة دقيقة رقيقة، بما يعني أن اقترابه المتجسد في فهم النص القرآني على حقيقة لغة وحي التنزيل، بسبب رهافة حسه اللغوي هو ما حضر في عقله يومئذ، الأمر الذي اضطره على مكابرته، وعنجهيَّته إلى الإقرار التام، بأن النصَّ القرآني ليس من وضع البشر، وربما لو افتقر القرآن الكريم إلى مثل إعجازه اللغوي والبياني المذهل عند قوم هم أهل صنعتها، لكان من السَّهل الطعنُ في إلهية مصدره، معها كانت إعجازاته الأخرى بليغةً.
3- هذه الحقيقة هي ما أقرها فطاحل فصحاء ونحويو وبلغاء العرب على مرِّ الأجيال، فترسَّخت في المتراكم من الثقافة العربية الإسلامية كبديهية يقينية مطلقة، لا تتزلزل أمام أي ادِّعاء طارئ مناقضٍ لها.
4- أن النغمات المشاكسة على مر التاريخ كانت ذاتية التناول، وشخصية الدوافع، وتقع في حكم الشَّواذِّ التي لا يقاس عليها.
5- محاولة أنسنة النصِّ القرآني الكريم، والحديث النبوي الشريف، بتوظيف رؤى شخصية، واعتماد منهجيات لا تتوافق أكاديميًّا مع منهجيات البحث المعتمدة في المتراكم من المعرفة الإسلامية لتوكيد هذه الهرطقات، تظل أمرًا غير مقبول علميًّا، ولا مستساغٍ حضاريًا بتاتًا، مهما أضفيت عليها من نكهات الحداثة والمعاصرة، وتحت أي ذريعة، بغضِّ النظر عن قدسيات النصوص الدينية، والحصانة الأخلاقية التي ينبغي أن تحاط بها، ناهيك عن كونها خروجًا على مبدأ الحياد والموضوعية في البحث العلمي المنصف؛ حيث يفترض أن تتطابقَ أداة البحث ومنهجيته، مع غرض البحث، وصولًا إلى الحقيقة المنشودة بسلامة قصد، تمشيًا مع قاعدة البحث المعاصرة التي تقول: "إذا سمحْتَ لي أن أضَعَ الضوابطَ، فلا يُهمني عندئذ مَن يتخذ القرار".
6- قصور عقل الإنسان عن استيعاب ما وراء المحسوس، يُفسح المجال للعلم والعقل، بتجاوز حدود طاقتهما، فيقعان في خطأ الحكم بإقحام كل التصورات، لضوابط العلم التجريبي وحسب، خلافًا لقاعدة: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)[الإسراء: 85]، فيقع منهما عند ذاك خللُ التناقض؛ حيث : (إِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[الحج: 46].
7- التعامل مع نصوص القرآن الكريم ينبغي أن يتم وفقًا لمنهجية العلوم الإسلامية المعتمدة في هذا المجال حصرًا، لا وفقًا لمنهجيات كيفية يقرِّرها كل من هب ودب، فكما أن علوم الطبِّ تدرَّس بمنهجيات لا تصح إلا في بحث العلوم الطبية، وأن علوم الفيزياء لا تُدرَّس إلا من خلال المنهجية المعتمدة في بحثها، وهكذا.. فإنه لا يصح أيضًا - من باب أَولى - أن تجريَ دراسة القرآن وبحث نصوصه إلا من خلال منهجية علوم القرآن، والمنهجيات المعتمدة في المعرفة الإسلامية المتراكمة في هذا المجال، بدءًا من مرحلة نزول القرآن، وانتهاءً بعصرنا الراهن، وما يتلوه، من دون تسويغ لأي نزقٍ مهووس يفسح المجال للعقل الجامح، بتجاوز حدود طاقته لدى الباحث غير المتسلح بمنهجية المعرفة الإسلامية، يدفعه إلى القفز بسهولة فوق إشكالية قصور تصورات العقل، ومحدودية أفق العلم التجريبي المحكومة بقاعدة: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)[الإسراء: 85]، وهو ما أقرَّته المعارف المعاصرة صراحة، فيقع منه عندئذ الوهم، وخطأ القياس، فيتجاسر تحت وطأة الاستنتاجات الذاتية غير المقيدة بمنهجية العلوم الإسلامية المعروفة، على تجويز الطعن بصدقية وحي النص القرآني، وإسقاط الأنسنة عليه زورًا وبهتانًا؛ ليحشره في زاوية النقد البشري، كما لو أنه كتاب في الاجتماع، أو الأدب، أو الفلسفة.

وهكذا تتهافت أمام الحقائق الدامغة افتراءاتُ التشكيك، والطعن بمصدرية إلهية القرآن الكريم، وتتهاوى دعاوى أنسنته.