التربية القيادية في سورة الكهف
يزن أحمد عبده
ثالثاً: القدوة:
فيجب أن يراقب نفسه، ويعمل على بث ما يحمل من فكر ومنهج من خلال تصرفاته التي يمحصها الأتباع للإقتداء به، "فالأفراد ينظرون دائماً ويتطلعون إلى قادتهم كأمثلة حسنة يقتدون بها ويحذون حذوها، فسلوك القائد ونشاطه وحيويته وأخلاقه وأقواله وأعماله ذات أثر فعلي على عموم الناس".
وهذا ما كان عليه قائدنا الأوّل، نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد سئلت السيدة عائشة، عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: "كان خلقه القران".
أمّا ما كان من ذي القرنين في تحقيقه لهذه الصفة فالأمر بيِّن واضح ومن ذلك:
1- أنّه كان قدوة لهم في تطبيق منهجه الذي أعلن عنه في شرق الأرض وغربها من محاربة الظلم وإعلاء الحق فطبق ذلك كما بينت الآيات في قوله الله -سبحانه-: (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا).
2- كذلك كان قدوة في إحقاق الحق وإبطال الباطل بين السدين، فدفع أذى يأجوج ومأجوج عن الناس بالردم عليهم، وقد اقتدى به أتباعه في البناء إذ كان يشارك في البناء والتخطيط، ويدل على ذلك قول الله -سبحانه- على لسان ذي القرنين: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) [الكهف: 96)].
3- كذلك كان قدوة لهم في الإيمان، من خلال بث الروح الإيمانية التي كان يتأثر بها، فيؤثر في غيره، كما في خطابه في نهاية قصته: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف: 98)].
رابعاً: المبادرة:
"من الأسس الضرورية واللازمة للإدارة الناجحة أن يكون المسؤول قوياً إذا عزم الإقدام على تنفيذ ما يجب تنفيذه فلا يكون ضعيفاً ولا متردداً، لأنّه بالضعف والتردد تفوت مصالح كثيرة وبالقوة والعزم يجتاز المسؤول العقبات ويحطم المعوقات ويجتهد في بلوغ الغاية وتحقيق المصلحة"، وقد مثل ذو القرنين مبادرة القائد الناجح خير تمثيل، فهو ابتداء بادر بالخروج بعد أن عزم عليه إلى مناطق حكمه، في الشرق والغرب، كي يحقق الخير ويصل إلى هدفه ومبتغاه.
وتلحظ المبادرة كذلك في بناء الردم، فبعد أن وعى المشكلة التي كان يعيشها القوم، بادر إلى إيجاد حل عملي لهم، فبدأ ببناء الردم الذي حماهم من تلك الهجمات.
فبالمبادرة يحقق القائد النجاح، لأنّه يصل إلى الإنتاجية وتحقيق الغاية والهدف، كما أنّ المبادرة تعمل على استنهاض همم الأتباع نحو العمل، فعندما يرى المقودون أنّ القائد يرفع شعاراً، ثمّ ما يلبث أن يتحرك مبادراً نحو تحقيق هذا الشعار عملياً حتى يندفعوا خلفه عاملين منتجين.
خامساً: الحزم والقوة:
إذ إنّ "شخصية القيادي تعتمد على الشجاعة والثبات والإقدام، والنجدة وإصدار الأوامر والأحكام، فإنّ القيادي الفذ ما كان حكيماً قوياً شجاعاً عند الحرب والدفاع عن الأُمّة والوطن" أمّا القائد الضعيف فلا يعدو أن يوصف بالفشل وعدم القدرة على القيادة، وإن قلنا أنّ القيادة والحزم والقوة عناصر مترابطة فإننا لا نبالغ في ذلك.
والقوة المنتظرة في القائد متعددة متنوعة، منها كما بينتها الآيات:
1- القوة في اتخاذ القرار. ومن ذلك قول الله - سبحانه - عند وصول ذي القرنين إلى الغرب: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، فكان قراره حازماً قوياً عادلاً وهو: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)، دون أن يكون في قراره تردد، اتخذ موقفاً واضحاً من القوم الذين دخل بلادهم فاتحاً منتصراً.
2- القوة في العقوبة وإصدار الأحكام: كما أظهرت الآيات في قوله: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ)، فهذا موقف قوي وقرار حكيم: إيقاع العقوبة على المعتدي الظالم، ولعل مثل هذه القرارات بحاجة إلى قوة بالغة، خاصة إن كان الظلمة أصحاب سلطة وجاه، لكن القائد الحكيم القوي لا يخشى في الله لومة لائم.
3- القوة في النجدة: من ذلك ما كان منه بين السدين عندما استخدم قوته منجداً أولئك القوم من اعتداء يأجوج ومأجوج عليهم.
4- قوة الإرادة: "التي تعد ركناً من أركان الشخصية القيادية والتي بها تذلل الصعاب، وبها تحل المشكلات، وبها تجتاز العقبات".
سادساً: الرحمة مع رعيته:
فلابدّ كي يستمر حب الرعية للقائد أن يشعرهم بالعطف والرحمة في تعامله معهم، فالفظاظة والبطر لا يجلبان على القائد إلا الكره والحقد الذي يملأ قلوب المقودين، مما يؤدي إلى الضعف في الطاعة وفي التحرك الصحيح نحو الهدف.
ولا تعارض عند القائد الناجح بين القوة والرحمة، بل إنّ الرحمة مظهر من مظاهر قوة القائد، وقدرته الفائقة على التعامل مع جميع الأفراد كل حسب ما يناسبه، ومن جهة أخرى تعتبر دليلاً على ثقته بنفسه.
وهذا ما كان من ذي القرنين عندما طبق العدل في الغرب وفي الشرق، فالناظر في كلامه، والذي سطرته الآيات في قول الله على لسانه: (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا).
يشعر بقوته في تطبيق هذه الخاصية من الرحمة بمن يستحقها. "فلم تخرجه قوته إلى البطر، بل كانت قوته في خدمة دين الله ودعوته، وكانت سبباً في رحمته وشفقته برعيته المؤمنة"، فبالرغم من انتصاراته وفتوحاته للبلاد، قد عامل أهل تلك البلاد بما يستحقون من تعذيب للظلمة، ورحمة ورأفة للمحسنين.
ولا بدّ أن نعلم أنّ رحمة القائد هي دليل إيمانه؛ لأنّها مستمدة من رحمة الله -سبحانه-، فهو يشعر بعظيم رحمة الله، فيكون لهذا الشعور أثر عملي في حياته فيعامل رعيته بكل أشكال الرحمة: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي).
وقد وصف الله -سبحانه- نبيه -صلى الله عليه وسلم-، قائدنا ومربينا بهذه الصفة في أكثر من موقع فقال -سبحانه-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128)].
سابعاً: التواضع:
فلا يتكبر في معاملته مع رعيته، ولا يشعرهم بذلك، بل يجب أن يكون قدوة لهم في خفض الجناح للصالح منهم، وقد نبه الله -سبحانه- في العديد من الآيات على وجوب تحلي المسؤول بهذه الصفة، منها قوله -سبحانه- لمحمد -صلى الله عليه وسلم- القائد الأوّل للمسلمين: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 215)].
وقوله -سبحانه- للمؤمنين موجها إياهم نحو هذه الخاصية بنهيهم عن التكبر والبحث عن العلو: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83)].
وإن عدنا إلى آيات سورة الكهف ونظرنا إلى حديثها عن هذه الصفة في ذي القرنين، نجد أنها قد بينت هذه الصفة بدقة، من حيث وجودها فيه، وكذلك تأثيره التربوي في غيره في إيجاد هذه الصفة في رعيته وأتباعه.
ثامناً: الزهد فيما عند الرعية:
والزهد بين واضح في الآيات كصفة تميز بها ذو القرنين، "الذي زهد في المال واستعلى عليه، مقدماً لنا صفة من صفات الحاكم الصالح العادل الزاهد، وهو يدعو حكام المسلمين ليقتدوا به في هذه الصفة"، فقد قال -سبحانه- واصفاً زهده: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ).
فقد عرض عليه هؤلاء القوم مالاً كي يبني لهم سداً يحميهم من تلك الهجمات الوحشية، وقد كانوا في حالة شدة يقدمون لأجلها كل ما يطلبه ذو القرنين، لكنه وهو القائد المؤمن صاحب الصفات علم أنّ هذا واجب عليه وليست منة منه عليهم، فالقائد مسؤول عن أحوال رعيته، فلم يستغل ظرفهم ليجمع ما معهم ويطلب منهم ما يشاء لمساعدتهم، بل زهد بما عندهم، وبين أنّه غير محتاج لما معهم من مال، وأن ما آتاه الله من التمكين وأسبابه خير له مما معهم.
فالقائد المسلم مطالب بأن يتحلى بهذه الصفات من: إيمان يصله بالله، وعلم يمكنه من الإدارة الناجحة، وحكمه تهيؤه من اتخاذ القرار المناسب، وأن يكون قدوة لأتباعه ليستمر الإعمار والبناء، وأن يزهد عما في أيديهم ليبقى الود والحب والاحترام والطاعة، وأن يريهم من نفسه تواضعاً عالياً لترتفع مكانته في أعينهم، وأن يعاملهم برحمة، وأن لا يستخدم القسوة إلاّ مع من يستحقها، وأن يظهر قوته وقدرته الإيجابية في شتى المواقع والميادين، وأن يكون مبادراً للإنتاج.
مهام القائد:
بينت الآيات الكريمة عدة مهام يطلب من القائد القيام بها على أحسن وجه، منها:
* أوّلاً: إقامة الشرع.
* ثانياً: الاهتمام بأحوال الرعية.
* ثالثاً:تنشيط الهمم واستثمار الطاقات في الإنتاج.