المرجع عند الخلاف



أحمد عبد السلام ماضي



وقوع الخلاف سنة كونية وابتلاء يُتبيَّن به المخلص الصادق الباحث عن الحق، مِن المبطل الكاذب، أو متبع الهوى والجهل مِن أهل البدع والتعصب؛ فكما وُجد الكفر والكافرون، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (التغابن:2)، وُجدت أيضًا: البدع والمعاصي، والتعصب الأعمى للأشخاص والمذاهب.

وقد حاول كل فريق أن يشرعن لمذهبه ويؤيده بالدليل، وهذا الاختلاف أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
السؤال المطروح
والسؤال المطروح: هل تركنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم بوقوع الاختلاف دون أن يوضِّح لنا السبيل، ومنهاج معرفة الخطأ من الصواب عند الخلاف صغر أم كبر؟! حاشاه صلى الله عليه وسلم ألا يبيِّن، وحاشا لله أن يترك الأمة تتخبط في أودية الاختلاف دون أن ينصب لهم على الحق منارًا، ويوضح لهم بأجلى العبارات: كيف السبيل؟ وأين المنهاج؟ ثم حاشا ألا يعرف أبو بكر الصديق وعمر -رضي الله عنهما- وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا يصنعون عند الاختلاف؟ وهم الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أنه واقع.

القاعدة الذهبية

ولذلك كانت تلك القاعدة الذهبية القرآنية عند الاختلاف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء:59)، وتأمل كيف أنه -سبحانه- كرر أمر: (أَطِيعُوا) مرتين: لله مرة، وللرسول صلى الله عليه وسلم مرة، وعند ذكر أولي الأمر، وهم: العلماء والأمراء، عطف بالواو دون تكرار أمر (أَطِيعُوا)؛ مما يشير إلى أن طاعة العلماء والأمراء ليست مطلقة، وإنما تابعة لطاعة الله ورسوله؛ ولذا عقبها بالواجب عند التنازع والاختلاف، وهو الرد إلى الله، أي: إلى كتابه، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، أي: إلى سنته.
الأئمة وأهل العلم

وهذا ما فهمه الأئمة وأهل العلم من الصحابة والتابعين ومَن تبعهم بإحسان؛ فحُفظت تلك الأقوال الرائدة:

كل يؤخذ مِن قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا خالف قولي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدعوا قولي، إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقول الشافعي -رحمه الله-: «أجمع أهل العلم أن مَن استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحدٍ مِن الناس»، وغير ذلك من النقول المباركة عن الأئمة الأعلام، التي لا يتسع المقام لذكرها، ثم إن أولى الناس بفهم نصوص الكتاب والسُّنة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان.

قوم زكاهم الله -عز وجل-

الصحابة قوم زكاهم الله -عز وجل- في كتابه، وزكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونصرة دينه، وحمل رايته، ونشره بين الأنام؛ فبهم حُفظ الدين، وبهم اكتمل البلاغ، وبهم انتشر الإسلام وانتصر، فهم حجة على مَن بعدهم، وما اتفقوا عليه من فهم الدين وتطبيقه وتفسيره هو المحجة التي لا يزيغ عنها إلا مَن تنكب الصراط، وأعرض عن السبيل؛ فما لم يكن يومئذٍ دين فليس اليوم بدينٍ.

منهاج شامل

وهذا المنهاج شامل لمسائل العقائد والعبادات والمعاملات، والآداب والسلوك والأخلاق، وتزكية النفس؛ فلذا يجب على طالب الحق أن يعرف هذا المنهاج، كيف يتلقى العلم؟ وكيف يفهم الدين؟ فالرؤى والمنامات والذوق والتجربة ليست من الأدلة في قليلٍ أو كثيرٍ، والميزان هو الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
يا طالب الحق

فلا تأبه يا طالب الحق بكثرة المخالفين من أهل البدع والخرافيين، وأهل التعصب المذموم، والزم كتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وأقوال السلف الكرام؛ ففيها الكفاية والهداية، وصلاح الظاهر والباطن، والوصول إلى الله ومرضاته بأقصر طريق وأوضح سبيل.


احذر التنطع

واحذر التنطع والتكلف والتحريف بزعم التأويل، والغلو والشرك بزعم تعظيم الصالحين وطلب الوسيلة منهم، وترك الأخذ بالأسباب المشروعة بزعم التوكل، وعدم مدافعة الأعداء بزعم التسليم للقدر!

طلب العلم
يا طالب الحق، جد واجتهد في طلب العلم، ومعرفة الحق؛ فهذا أوانه؛ فقد أطل أهل البدع برؤوسهم، وشمَّروا عن ساعد الجد في نشر بدعهم وخرافاتهم، ولا يُدفَعون إلا بسلاح العلم والحجة؛ فأنت على ثغرٍ عظيمٍ مِن ثغور الإسلام؛ فلا يؤتى الإسلام مِن قِبَلك