بين الدقائق الفرعية وأصول الاستقامة


حسن عبدالحي




أعظمُ غايةٍ من وجود الإنسان في هذه الحياة، هي عبادةُ الله - عزَّ وجلَّ - وهي تعني لزومَ الاستِقامة على منهج الله -تعالى- الذي وضَعَه للناس هدايةً لهم ورحمةً بهم - سبحانه.



وبرغم سهولة فَهْمِ هذه الغايَة العظمى، واستِيعاب معاني الاستِقامة لدى عامَّة المسلِمين من المشتِغلين بدينهم وقضيَّتهم الإسلامية، إلا أنَّ تشعُّبَنا في القضايا الفرعية لهذه الغاية، وانشغالَنا بها عن أصول الاستِقامة، خلَّف أزمةً مؤرِّقة، هذه الأزمة عطَّلت خَصِيصةً كبرى من خصائص هذا الدين، وهي يُسرُه ووضوحه للناس وجوامع هدفه وغايته فيهم، وكان هذا من جرَّاء الانشِغال بالدقائق الفرعية أكثر من أصول الاستِقامة، التي ينبغي أن تكون محلَّ الأولويَّة والاهتِمام، وهي كذلك الميزان الصحيح لتقدير الجهود والأعمال.



وكان الانشِغال عن أصول الاستِقامة كذلك نوعًا من التِّيه يقع فيه الناس، وعدم الوضوح في عملهم الأساسي، ويظهر هذا بوضوح في العملية الدعوية، وكيف ينشغل عامَّة المسلمين بفرعيَّات ودقائق هم في غِنًى عنها أصلاً علمًا وعملاً، وهي استِهلاك للجهود والأوقات، وتفريغ للشحنات والطاقات، وكيف - في المقابل - يُغفِلون أصولاً شرعية كبيرة مُضيَّعة فيهم، مُغَيَّبة عنهم، وهي أصول الاستِقامة وسبيل النجاة الحقيقي.



فالانشِغال بالدقائق الفرعية - وإن كانت هذه الفرعيات من الدين والشريعة - على حساب أصول الديانة، بمثابة الانشِغال بموادِّ البناء عن البناء نفسه، وهو تضييع للبناء ومواده في الحقيقة؛ إذ لا قيمة لموادِّ البناء مهما بلغَتْ جودتها، إذا لم يقم البناء على وجهه المأمول.



وليس المقصد هنا التقليل من الفرعيَّات والجزئيَّات وأهميَّتها، مهما بلغت من الدقَّة؛ وإنما القصد التحذير من اهتِمامِنا بالفرعيات زعمًا أنَّنا نحقِّق الاستقامة بها، فكان الواقع الذي لا يُنكِره أحدٌ أنْ ضاعت الأصول ذاتها من أجل الدقائق، التي لم تحقق كذلك!



وعمق هذه الأزمة ممتدٌّ فينا لجميع المجالات الشرعية تقريبًا، فتحوُّلُ الوسائل إلى غايات، والانشِغالُ بالمسائل الفرعية، وتضييع أصول الديانة وغايتها الكبرى - سمةٌ عامَّة في طلب العلم، وفي الدعوة إلى الله -تعالى- بمفهومها الواسع؛ بل وفي بعض العبادات أحيانًا كثيرة.



مظاهر الأزمة:

تظهر بوضوح أزمةُ الانشِغال بالدقائق الفرعية على حساب أصول الاستِقامة في المنهجين العلمي والعملي معًا:

ففي المنهج العلمي أو الفكري نرى كثيرًا من السقطات الشنيعة في ترتيب الأولويَّات، وفي إعطاء المهامِّ قدرها وحجمها التنظيري الصحيح.



وفي المنهج العملي أو السلوكي نرى كذلك كثيرًا من المُمارَسات الخاطِئة في تقدير أولويَّات العمل، والفرق بين الأصول وبين الجزئيَّات والدقائق المُحِيطة بها.



ومن هذه المظاهر في واقعنا المُعاصِر:

الانشِغال بعلوم الآلات عن علوم الكتاب والسنَّة؛ كالاهتِمام بعلم مصطلح الحديث مثلاً على حساب الدراسة الوافية لتزكية النفوس وأعمال القلوب.



الاهتِمام بدقائق المسائل الشرعية عن أصولها العُظمَى؛ مثل الازدياد في مُطالَعة مسائل النيَّة وما يتعلَّق بها، مع إهمال أصل الإخلاص، الذي هو لبُّ الإسلام كلِّه.



الاهتِمام الزائد بمشكلات الواقع وحلِّها المادي، مع عدم إعطاء أصل هذا كلِّه حقَّه من العلم والعمل، وهو الرُّجوع إلى الله ودينه، وتبصير الناس بذلك.



والإشارة إلى هذه المظاهر باعتِبار نوعها بعيدًا عن آحاد أفرادها، فإنها أكثر من أن تُحصَى، والمقصود هنا الوقوف على بعض أنواعها وأمثالها، لا جملتها.



أسباب الأزمة:

كثيرةٌ هي أسباب أزمة الانشِغال بالدقائق الفرعية عن أصول الاستِقامة، وهذه مُحاوَلة منِّي للوقوف على بعضها:

عدم فَهْمِ الإسلام فهمًا عميقًا؛ بحيث لا يقدِّر الإنسان أصول الديانة التي عليها بُنِي الإسلام، ولا يُعطِيها مكانتها الصحيحة من العلم والعمل.



سوء النيَّات والمقاصد في التوجُّهات والإرادات، فكثيرٌ مِنَّا ينشغل بالمسائل الدقيقة عن أصول الشريعة في العلم والعمل والدعوة، بدافع الشهرة والصيت، أو حبِّ المدح والثناء، وحبِّ الولوج في مسائل الخلاف.



الجهل بالواقع وبمخطَّط الأعداء، فالواقع يؤكِّد حتميَّة أخذ الأصول ابتداء بقوَّة؛ إذ قد ضاعَتْ ثوابت المنهج الإسلامي في بلاد المسلمين أنفسهم، فكيف ننشغل ونشغل الناسَ عن هذه الثوابت بغيرها ممَّا ليس في قدرها ومكانتها؟!



حلول مُقَدَّمة:

إضافة إلى علاج الأسباب المتقدِّمة لهذه الأزمة، وهي التصوُّر الصحيح لأولويات الاهتِمام والانشِغال، والسلوك المتَّزِن في العمل، وفهم واقعنا جيدًا، يُمكِن إضافة عنصر مهمٍّ جدًّا لحلِّ هذه الأزمة المتفشِّية فينا، وهو تربية الشباب منذ النشأة على هذه المفهوم.



والمقصود تربية الشباب منذ النشأة أو منذ بداية الالتِزام على التفريق في كلِّ مجالات الشريعة بين الغايات والوسائل، وبين المقصود لذاته والمقصود لغيره، وكذا التفريق بين أصول وكليَّات الشريعة التي تُبنَى عليها وبين ما يتفرَّع منها من مسائل، وإعطاء كلِّ شيء حقَّه في الجانب العلمي، أو العملي، أو الدعوي.



والاتِّزان في تقدير الأمور وإنزالها مَنازِلها الواجبة، علامةٌ فارقة على طريق التمكين؛ لأن هذا يعني التزامَ المنهج الصحيح الموعود من قِبَل المولى - سبحانه وتعالى - بالنصر والتمكين.



وحالة الفوضى التي تحياها الأمَّة في كلِّ شؤونها تقريبًا - حتى الدينيَّة - تحتِّم على المربِّين والموجِّهين الأخذَ بيد الشباب والملتَزِمين الجدد نحو التصوُّرات الصحيحة للأمور على وجهها، وتقديرها كما وضَعَها الشارع الحكيم دون إفراط أو تفريط.



وقد قابَل بعضُ المنتَسِبين للعمل الدعوي الإسلامي خطأَ الانشغال الزائد ببعض الفرعيَّات الشرعيَّة على حساب أصول كبيرة أخرى مُضيَّعة فينا، قابَلَه بخطأ لا يقلُّ عن الخطأ الأوَّل؛ إذ جعل كلَّ انشغال بغير أصول الشريعة العظمى أو قضايا الأمَّة الكبرى انشغالاً بالقشر عن اللباب، وتلبيسًا من الشيطان على أصحابه!



وفي الحقيقة ليس في الدين ما هو قشر أصلاً؛ بل مجموعة الجزئيَّات أو الفرعيَّات هي في النهاية أصل شرعي مُترابِط، فإذا اختلَّ من هذا الأصل فرع أثَّر في الأصل ذاته.



فكان توجُّه كلا الفريقين نتيجة عكسية لاتِّجاه الآخَر، وكان لكِلا الاتِّجاهين مَخاطِره في الساحة الإسلامية الدعوية، على أنَّه لا تعارُض أبدًا أن نجمع بين التوجُّهين، وذلك بإنزال كلِّ قضيَّة أو جزئيَّة شرعيَّة منزلتَها الصحيحة في العلم والعمل.



والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.