روضة القيام


نبيل بن عبدالمجيد النشمي






قال الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79].

وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 1 - 5].

وقال تعالى: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [الذاريات: 17].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))؛ رواه مسلم[1].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))؛ متفق عليه.

قيام رمضان روضة خاصَّة بهذا الشهر، فلا قيام بهذه الصورة في غير رمضان فنِسبته إليه من نِسبة الشيء إلى نفسه، وإضافته إليه إضافة الشيء إلى وقته الخاص به، يجد فيها المؤمن حلاوة وطعمًا، ورفقة وركْبًا، حلاوة الطاعة ورفقة على طاعة.

في هذه الروضة تقف الأقدام، وتنشرِح الصدور، وتُمطر العيون، وتنقطِع الاتصالات بغير رب الأرض والسموات.

روضة القيام برقية عاجلة مُفادها: أن أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل، وخير الهدي هدي سيد الخَلْق - صلى الله عليه وسلم - وردٌّ قاطع على مَن يزعُم الراحة في لهو ولعب ومُجون.

روضة القيام إكرام من المَلِك الديَّان - سبحانه وتعالى - للعبد المسكين؛ إذ مَن دخَلها صادقًا محتسبًا مؤمنًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وخرج من الشهر كمولود بلا ذنب!! فأي كرمٍ بعد هذا بوقوفك ليالي يَغفِر لك جبال سنوات من ذنوب وأوساخ.

يلتقي في هذه الروضة من كان حبُّهم لله - تبارك وتعالى - ومَن تجمعهم الطاعات وفي أحبِّ البقاع لله - تبارك وتعالى - وتُقرِّبهم الصلة بالله بعيدًا عن مصالح أو قرابات.

روضة القيام جولة مع الآيات، وتفكُّر في المعاني، وتحقيق لحقيقة الاتباع، وشوقٌ لمرافقة سيد الأنام.

القيام مَيزة هذا الشهر وخاصَّته، بالذات لمن طوال العام في انشغال وجُهْد وبحث عن المعاش، فيحط رِحاله عند باب هذا الشهر، ويُجاهِد نفسه ويتملَّق من باب القيام لربه ومولاه - تبارك وتعالى - ويَنطلِق ملبِّيًا دعوة الرحيم الرحمن قائمًا بين الصفوف، وقلبه يطير إلى الجنان طامعًا بالفوز بالرضوان وبالعتق في هذا الموسم من النيران.

روضة القيام: ساعات خير ورحمة، ودقائق صِدْق وإخلاص، وثوان أغلى من الدنيا وما فيها، فلحظاتها يقف فيها العبد الفقير بين يدي الملك العزيز قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا، لا يمنعه أحد ولا يَسبِقه أحد، فليس بينه وبين مولاه حاجب ولا تَرجمان.

لحظات يَنفرِد فيها العبد - عن الخَلْق - بالخالق، ويخلو في زاوية معترفًا بما اقترف، وتائبًا مما به اعترف، قائمًا لله ومع الله وبين يدي الله - تبارك وتعالى - كأنه يراه وإن لم يكن يراه فهو يراه.

لحظات ثمينة، ومنها تلك الدقائق التي يخلو بها العبد في زاوية واقفًا وسط الليل أو آخره بغفلة من الناس أو انشغال يبقى مع الله ولله وبعون الله - تبارك وتعالى - فيا لها من لحظات!

يقوم مثنى مثنى، وإن مائة، يختم بما يحبه الله - تبارك وتعالى - فالله وتر يُحب الوترَ، ومن خصائص هذه الروضة طول قيام وطول ركوع وطول سجود، وخاصة إذا كان الواقف منفردًا.

في هذه الروضة يعيش القلب المؤمن مع الآيات وربما مع آية واحدة كل ليلة بين معانيها ونعيمها يمنِّي نفسه، وبزجرها وردعها يُربِّي نفسه، وبتخويفها وترهيبها يُهدِّد نفسه عن مخالفة داعي ربه، فيخرج بقلب مشتاق إلى الجنة يحب لقاء ربه - تبارك وتعالى.

يعيش مع الآيات وكأنه يسمعها لأول مرة، ويلتمَّس بركتها وشفاءها للقلب قبل البدن ويتمتَّع بلذة تَردادها وحُسْن بيانها.

وهذه الروضة قد يدخلها الكثير، لكن ليس من دخل فاز بحسن الضيافة والوِفادة فرب قائم ليس له من قيامه إلا ألم القَدَم ومكابدة النعاس، ويخرج ولا يدري ما فعل وما سمع، فالنية تُفسِد أعمالاً كالجبال، فمن قام ليقال: خرج بالمقال، وما قام من جاء كالمعتاد لا فرق عنده بين حضور وغياب، وكم يفوت مَن خرَج قبل انصراف الإمام؟!

اللهم تقبَّل منا الصيام والقيام، واجعلنا ممن يقوم رمضان إيمانًا واحتسابًا، واغفر لنا ذنوبنا، وعافنا واعفُ عنا.

[1] مسلم (1163).