من الممارسات السلبية في حياتنا ما يُقدِم عليه البعض من الانتحار وإزهاق أرواحهم، وهذا الأمر يحتاج إلى رؤية شرعية تأصيلية؛ لبيان ما فيه من أنواع الخلل والمعصية لله سبحانه وتعالى.
ولا بد للمجتمع كله من معرفة الأسباب والدوافع، ومن ثَمَّ الوقاية والعلاج؛ حتى لا يستمر هذا الفعل فينا.
اعتقاد غير صحيح:
في البداية نقول: إن استباحة الإنسان للانتحار ناشئٌ عن ظنٍّ خاطئ، وهو اعتقاده أنه يمتلك الحياة، وأن من حقه أن يفعل فيها ما يشاء.
والذي أفاده الإسلام بهذا الخصوص هو أن الحياة منفصلة عن الإنسان؛ من حيث كونها عطاءً ومنحة إلهية، بل إن الحياة كالإنسان نفسه، فإذا كان الإنسان مخلوقًا، فالحياة هي أيضًا مخلوقة؛ فقد ذكر تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ﴾ [الملك: 2]، فالحياة إذًا ليست ملكًا للإنسان يفعل فيها ما يشاء، ومن هنا فهو لا يمتلك سلطة الاعتداء عليها؛ وفي الحديث الشريف: ((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ به جُرحٌ فجزِع، فأخذ سكِّينًا فحزَّ بها يده، فما رَقَأَ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه؛ حرمتُ عليه الجنة))[1].
وفي الفقه الإسلامي يحرُم الإجهاض بعد نفخ الروح في الجنين، أو الاعتداء على الجسد بأي نوع من أنواع الاعتداء؛ فالإنسان لا يملك جسده ولا يجوز له التصرف فيه.
دوافع الانتحار والوقاية منه:
وهذا الذي ينتحر ظانًّا أنه يتخفف من ألم، أو وضع اجتماعي يعيشه، أو ألم عاطفي، أو من أجل الاحتجاج على شيء لا يحبِّذه - قد أخطأ التصرف؛ فإن الإنسان حينما يعيش واقعًا مزريًا، فإن أمامه شيئًا واحدًا هو أن يغالبَ ويواجه ويجاهد من أجل تغيير واقعه، ولكنه حينما ينتحر يكون قد انسحب وانهزم؛ فلا معنى لتصوير الانتحار على أنه بطولة؛ لأنه إعلان لعدم القدرة على الاستمرار.
وتمجيد الانتحار دَفْعٌ للآخرين إلى المحرقة، وهو اعتداء على حياة وإيقاف لاستمرارها، والقرآن الكريم حينما أشار إلى هذا الأمر، أشار إلى سبب مهم وهو فِقدان الثقة بالله وعدم الاطمئنان إلى رحمة الله؛ فقد قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]؛ أي: إن الناس لو استحضروا أن الله رحيمٌ بهم، وأن ما يمرون به إنما هو أزمة عابرة لا تستمر، وأن الفرج يأتي بعد الشدة لَتَجاوزا تلك الشدائد، فاحترامُنا لنفوسنا يجب أن يكون أولى، فلا يُباح بحالٍ من الأحوال أن يقتل أحد نفسه؛ كأنْ يَبخعها ليَستريح من الغمِّ وشقاء الحياة، فمهما اشتدت المصائب على المؤمن، فإنه يصبر ويحتسب ولا ينقطع رجاؤه من الفرج الإلهي؛ ولذلك نرى بخعَ النفس (الانتحار) يكثرُ حيث يقلُّ الإيمان ويفشو الكفر والإلحاد، ومن فوائد الإيمان مدافعة المصائب والأكدار؛ فالمؤمن لا يتألم من بؤس الحياة كما يتألم الكافر؛ فليس من شأنه أن يبخَعَ نفسه حتى نُهيَ عن ذلك نهيًا صريحًا.
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]؛ أي: عن قتل أنفسكم رحيمًا بكم؛ لأن في ذلك حفظ دمائكم التي هي قوام مصالحكم ومنافعكم، فيجب أن تتراحموا فيما بينكم، ويكون كلٌّ منكم عونًا للآخرين على حفظ النفس ومدافعة رزايا الدهر[2].
وقد قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]، فلا توجد أمة من الأمم خلت من المحن والمشاكل، ولكن الأمم العظيمة هي التي إذا وقعت تقوم، أما أن ينسحب ويفر الناس، فهذا أمر ليس سليمًا.
وفي الحديث الشريف: ((ما يصيب المؤمن من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حزن، ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يُشاكُها إلا كفَّر الله من خطاياه))[3].
وفي الرضا بأقدار الله، ورجاء رحمته سبحانه وفرجه، والابتعاد عن اليأس من رحمته - قال تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، وفي الحديث الشريف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه: ((قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فإذا امرأة من السبي قد تحلُبُ ثديها تسقي، إذا وجدت صبيًّا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟ قلنا: لا وهي تقدر على ألَّا تطرحَه، فقال: لَلَّهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها))[4].
أيضًا من أسباب الإقدام على الانتحار الخَواءُ الروحي، وهو نسيان الإنسان أن له معينًا وهو الله سبحانه وتعالى؛ فالإنسان ليس وحده في الكون فهو مدعوم من الله سبحانه؛ كما ذكر الله تعالى عن نبيه موسى عليه السلام: ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6]، فعلى الإنسان أن يواجه الشدائد بروح الإحساس بالدعم والعون الإلهي؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب ﴾ [الرعد: 28]، فالقلوب تطمئن؛ لأنها توقن بالله من فوقها، وأنه معها في جميع أحوالها، والذي لا يؤمن بالله إلا نذرًا يسيرًا، يسقط من الجولة الأولى أمام المحن والشدائد، فإن الذي لا يعرف سرَّ الحياة أو يحسب أنه خُلق عبثًا - يتأفف منها ويتخلص منها عند الضيق.
أما المؤمن الحق، فهو يعرف قدره في الكون، وأنه مستخلف في الأرض، وأن له رسالة في تلك الحياة؛ فلا بد أن يؤديَ رسالته على أكمل وجه ممكن.
وقد يكون هناك عامل آخر وهو عامل المرض، وأمراض النفس واردة، ولكل داء دواء؛ كما جاء في الحديث: ((ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً))[5].
وفي الأخير علينا دائمًا أن نذكِّرَ مَن تحدِّثه نفسه بالانتحار بالنصوص التي حذرت من ذلك، وأن الانتحار من كبائر الذنوب، ومرتكبها يعاقب بمثل ما قتل به نفسه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من تردَّى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسَّى سُمًّا فقتل نفسه، فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجَأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا))[6]، وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل نفسه بشيء في الدنيا، عُذِّب به يوم القيامة))[7].
-------------------
[1] صحيح البخاري، باب: ما ذُكر عن بني إسرائيل، حديث رقم: (3463).
[2] رشيد رضا، تفسير المنار، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990، 5/ 32 بتصرف.
[3] مسند أحمد، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، 13/ 397.
[4] صحيح البخاري، باب: رحمة الولد وتقبيله، حديث رقم: (5999).
[5] صحيح البخاري، باب: ما أنزل اللَّهُ داءً إلا أنزل له شِفَاءً، حديث رقم: (5678).
[6] رواه البخاري (5442)، ومسلم (109).
[7] رواه البخاري (5700)، ومسلم (110).


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/137699/#ixzz68GrCMFtK