قال السعدي رحمه الله – في تفسير الآية: (الزموا صِبغة الله، وهو دينه، وقوموا به قياماً تاماً، بجميع أعماله الظاهرة والباطنة، وجميع عقائده في جميع الأوقات، حتى يكون لكم صِبغة، وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم، أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره، طوعاً واختياراً ومحبةً، وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة، فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية، لحث الدين على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ومعالي الأمور، فلهذا قال – على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية-: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبغة)، أي: لا أحسن صِبغة من صِبغته.
وإذا أردت أن تعرف نموذجاً يبين لك الفرق بين صِبغة الله وبين غيرها من الصِّبَغ، فقس الشيء بضده، فكيف ترى في عبد آمن بربه إيماناً صحيحاً، أثَّر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح، فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن، وفعل جميل، وخلق كامل، ونعت جليل، ويتخلى من كل وصف قبيح، ورذيلة وعيب، فوصفه: الصدق في قوله وفعله، والصبر والحلم، والعفة، والشجاعة، والإحسان القولي والفعلي، ومحبة الله وخشيته، وخوفه، ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود، والإحسان لعبيده، فقسه بعبدٍ كَفَر بربه، وشرد عنه، وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة، من الكفر، والشرك والكذب، والخيانة، والمكر، والخداع، وعدم العفة، والإساءة إلى الخلق، في أقواله، وأفعاله، فلا إخلاص للمعبود، ولا إحسان إلى عبيده.
فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما، ويتبين لك أنه لا أحسن صِبغة من صِبغة الله، وفي ضمنه أنه لا أقبح صِبغة ممن انصبغ بغير دينه.
وفي قوله: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) بيان لهذه الصِّبغة، وهي القيام بهذين الأصلين: الإخلاص والمتابعة، لأن «العبادة» اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة، ولا تكون كذلك، حتى يشرعها الله على لسان رسوله، والإخلاص: أن يقصد العبد وجه الله وحده، في تلك الأعمال، فتقديم المعمول، يؤذن بالحصر.
وقال: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار، ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صِبغة لهم ملازماً) ا. هـ
فهذه الصِّبغة: هي القيام بالأصلين: الإخلاص والمتابعة، وهو التوحيد والسنَّة، فترى أثر هذه الصِّبغة على المصطبغ بها في أقواله وأفعاله واعتقاداته، فتعم هذه الصِّبغة جميع الدين، حتى تصير كهيئة اللون المتميز والذي يُرى ظاهراً في كل من اصطبغ به، فهي صِبغة ظاهرة لا خفية، بادية لا مستترة، تُعرف من أقوال المصطبغ بها وأفعاله، فتجد هيئته على السنّة، وكلامه على السنّة، وأقواله على السنّة، وأخلاقه على السنّة، وعباداته على السنّة، ودعوته على السنّة، وأمره بالمعروف على السنّة، ونهيه عن المنكر على السنّة، وبحثه وتقليبه للمسائل واستدلالاته على السنّة، كل ذلك مع الإخلاص لله – تعالى -، فقد جمع بين كمال الانقياد وكمال الإخلاص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن الصحابة ومن سلك سبيلهم: (إذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه: نظر فيما قاله الله والرسول – صلى الله عليه وسلم -، فمنه يتعلم، وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل فهذا أصل أهل السنة) [مجموع الفتاوى 13/63]
وهذه الصِّبغة فيها معنى التميّز، فيتميز المصطبغ بها عمن خالف الصراط المستقيم بحسب مخالفته، بحيث لا تلتبس معرفة المصطبغ بها، ولا يُخلط ويُلحق بغيره من أهل الانحراف لتميّزه. وهذا التميز منه ما تضفيه الصِّبغة على صاحبها ولا بد، ومنه ما هو من لوازمها كمخالفة المشركين وأهل الضلال والبدع ومجانبتهم وترك مخالطتهم.
وظهور الحق وعلوه مرتبط بهذا التميز، ولهذا شُرعت مخالفة المشركين فيما ليس من خصائصهم، بل وفيما ليس من فعل الإنسان كما في الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم -:((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))، ومنه الأصل المتفق عليه عند أهل السنّة وهو هجر أهل البدع ومجانبتهم.
وهذه الصِّبغة تختلف قوة وضعفاً، وظهوراً وخفاءاً بحسب التزام الإنسان للصراط المستقيم، فكلما كان أقوم بالحق، وأعظم توحيداً واتباعاً كانت الصِّبغة أظهر وأبيَن. وقد يختلف ظهور هذه الصِّبغة قوة وضعفاً في الشخص الواحد بحسب قيامه بالحق والتزامه له. وكلما ازدادت هذه الصِّبغة ضعفاً في المسلمين والمنتسبين إلى السنّة ضعُف الحق، والتبس بغيره من الباطل.
ومظاهر ضعف صِبغة الله – تعالى -في المنتسبين إلى السنّة كثيرة متنوعة، أذكر منها شيئاً يسيراً على سبيل الإيجاز والاختصار:------------------------------
ومن مظاهر ضعف هذه الصِّبغة في بعض المنتسبين إلى السنّة: ضعف دعوتهم إلى التوحيد والسنّة، وعدم الاهتمام ببيان التوحيد وإظهاره، ونشر السنّة وإذاعتها، في الدروس والمحاضرات والمواعظ وخطب الجمعة والبرامج الإذاعية والتلفزيونية وغيرها من وسائل الدعوة، إذ إن المصطبغ بصِبغة الله – تعالى -يظهر اهتمامه بهذين الأصلين في دعوته ظهوراً جلياً، لكونهما لبّ الدعوة وأسّها، وما بُعث الأنبياء إلا لبيانهما. فهذا الضعف يظهر في عدم الاهتمام بهما والاكتفاء بالمواضيع العامة التي يشترك في الاهتمام بها جميع الطوائف والنحل والفرق، مع مسيس الحاجة لبيان التوحيد والسنّة لكثرة المخالفين ودعاة الباطل في هذه الأزمنة. فبعض الدعاة من المنتسبين إلى السنّة إذا سمعته في دروسه ومحاضراته لا يظهر لك انتسابه إلى السنّة وتمسّكه بها من خلال كلامه، فتجده يتكلم كلاماً عاماً لا يظهر من خلاله النفس السلفي، ولا تبدو منه تلك الصِّبغة في استدلاله واستشهاده وتقريراته وتنبيهاته على مسائل التوحيد والسنّة في ثنايا كلامه وغير ذلك مما ينبغي أن يكون عليه المصطبغ بصِبغة الله – تعالى -، صِبغة التوحيد والاتباع، ويؤكد هذا أن كثيراً من هؤلاء الدعاة يُدعون إلى بعض منتديات ومراكز المخالفين للسنَّة أو في بعض قنواتهم، لكونهم لا يظهر من دعوتهم وطرحهم للمسائل الدعوة إلى السنّة، وهي التي يخالفها هؤلاء المخالفون، فلا يجد المستمع فرقاً بين المنتسب إلى السنّة وغيره من المخالفين في مثل هذه الأماكن والمنتديات، بينما لا يُدعى إلى هذه المنتديات وغيرها من عُرف بالطرح السلفي الواضح، ومن ظهرت عليه آثار هذه الصِّبغة الربانية.
ويظهر هذا أيضاً من خلال فضائيات ومنتديات بعض المنتسبين إلى السنّة، إذ لا ترى التميّز في الطرح، والاهتمام بالأصل، والحرص على إبراز واستضافة من عُرفوا بالسنّة والدعوة إليها والنشاط في تقريرها وإيضاحها والاكتفاء بهم، بل على العكس ترى في بعضها سعياً في مواكبة فضائيات وبرامج المخالفين للسنّة، وجرياً حثيثاً في التفوق عليهم في أمور لا تسمن ولا تغني من جوع إن سلمت من المخالفة!.............................. ....