تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 4 من 4 الأولىالأولى 1234
النتائج 61 إلى 80 من 80

الموضوع: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

  1. #61
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (61)
    - بعض الأحكام المستفادة من سورة الكهف
    - فضل الدعاء واستحباب إخفائه


    د.وليد خالد الربيع


    قال -تعالى-: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (مريم:2-3). هذه الآية الكريمة من سورة مريم، ذكر ربنا -سبحانه- خبر نبي الله زكريا -عليه السلام- وما أجرى الله -تعالى- عليه من عظيم نعمته، وجليل قدرته، فاستجاب دعاءه، ورزقه ولدا صالحا رغم ما هو فيه من كبر سنه وعقم زوجته، وفي قصص القرآن الكريم حكم جليلة، وأحكام مفيدة.

    قال الشيخ ابن سعدي: «أي: هذا {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} سنقصه عليك، ونفصله تفصيلا يعرف به حال نبيه زكريا، وآثاره الصالحة، ومناقبه الجميلة، فإن في قصها عبرة للمعتبرين، وأسوة للمقتدين، ولأن في تفصيل رحمته لأوليائه، وبأي: سبب حصلت لهم، ما يدعو إلى محبة الله -تعالى-، والإكثار من ذكره ومعرفته، والسبب الموصل إليه».


    ومن المسائل الفقهية المستفادة من الآية الكريمة (فضل الدعاء واستحباب إخفائه):


    تعريف الدعاء

    الدعاء في اللغة: مصدر الفعل (دعا) بالشيء يدعو دعاء: إذا طلب إحضاره، قال ابن الجوزي: «الدعاء هو طلب الأدنى من الأعلى تحصيل الشيء».

    وأما في الاصطلاح فالدعاء: هو الرغبة إلى الله -عز وجل- بالسؤال والتضرع في تحقيق المطلوب.

    فالدعاء دليل الافتقار، ومظهر صدق العبودية، قال الطيبي: «هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له»، وقال الخطابي: «حقيقة الدعاء استدعاء العبد من ربه العناية، واستمداده إياه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إليه، والبراءة من الحول والقوة التي له، وهو سمة العبودية وإظهار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله، وإضافة الجود والكرم إليه».

    فضل الدعاء

    جاء في فضل الدعاء والندب إليه نصوص كثيرة منها:

    1- قال - صلى الله عليه وسلم -: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» أخرجه الترمذي، قال الشراح: «أي: ليس شيء أفضل عند الله، لأن فيه إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته».

    2- قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل يحرم الرزق بخطيئة يعملها» أخرجه ابن ماجه.

    وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لن ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء عباد الله» أخرجه أحمد.

    آداب الدعاء:

    علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيفية الدعاء، فلا يهجم السائل على مسألته، ولا يغفل عن أدب سؤاله لربه، فعن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدْ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ، ثُمَّ ادْعُهُ» أخرجه الترمذي، وفي رواية: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ». قَال: ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّهَا الْمُصَلِّي، ادْعُ تُجَبْ» صححه الألباني.

    فمن آداب الدعاء التي أرشدت إليها الآية الكريمة (إخفاء الدعاء وعدم الجهر به)؛ لأنه -سبحانه- أثنى بذلك على زكريا -عليه السلام- مما يدل على فضل ذلك والندب إليه.

    النداء هو الدعاء والرغبة

    قال القرطبي: «والنداء: الدعاء والرغبة؛ أي: ناجى ربه بذلك في محرابه، دليله قوله: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب} فبين أنه استجاب له في صلاته، كما نادى في الصلاة».

    قال ابن عاشور: «ومعنى الكلام: أن زكريا قال: «يا رب» بصوت خفي؛ وإنما كان خفيا؛ لأن زكريا رأى أنه أدخل في الإخلاص مع رجائه أن الله يجيب دعوته لئلا تكون استجابته مما يتحدث به الناس، فلذلك لم يدعه تضرعا وإن كان التضرع أعون على صدق التوجه غالبا، فلعل يقين زكريا كاف في تقوية التوجه، فاختار لدعائه السلامة من مخالطة الرياء، ولا منافاة بين كونه نداء وكونه خفيا؛ لأنه نداء من يسمع الخفاء».

    وقال ابن كثير: «وقوله: {إذ نادى ربه نداء خفيا}: قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره. حكاه الماوردي.

    وقال آخرون: إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله. كما قال قتادة في هذه الآية: «إن الله يعلم القلب التقي، ويسمع الصوت الخفي».

    المستحب من الدعاء الإخفاء

    وقد دل على أن المستحب من الدعاء (الإخفاء) قوله -تعالى-: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين}

    قال القرطبي: «قال أبو جعفر النحاس: ولم يختلف في معنى {واذكر ربك في نفسك} أنه في الدعاء. {ودون الجهر} أي: دون الرفع في القول. أي: أسمع نفسك، كما قال: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} أي: بين الجهر والمخافتة، ودل هذا على أن رفع الصوت بالذكر ممنوع».

    وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «أنزل ذلك في الدعاء» أي: قوله -تعالى-: {ولا تجهر بصلاتك} أخرجه البخاري.

    وأخرج البخاري في باب (ما يكره من رفع الصوت في التكبير) حديث أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا، وارتفعت أصواتنا، فقال: «يا أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنه معكم، إنه سميع قريب، -تبارك اسمه وتعالى- جده» متفق عليه


    قال الطبري: فيه كراهية رفع الصوت بالدعاء والذكر، وبه قال عامة السلف من الصحابة والتابعين».

    وقال النووي: «قوله: أربعوا، معناه: ارفقوا بأنفسكم، واخفضوا أصواتكم؛ فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه ليسمعه، وأنتم تدعون الله -تعالى-، وليس هو بأصم، ولا غائب، بل هو سميع قريب، وهو معكم بالعلم والإحاطة، ففيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع حاجة إلى رفعه، فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه، فإن دعت حاجة إلى الرفع رفع كما جاءت به أحاديث».

    وفي الآداب الشرعية قال ابن مفلح: «يكره رفع الصوت بالدعاء مطلقا، قال المروذي: سمعت أبا عبد الله (يعني الإمام أحمد) يقول: «ينبغي أن يسر دعاءه لقوله -تعالى-:{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قال: هذا الدعاء، وقال: وسمعت أبا عبد الله يقول: وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء ولا سيما عند شدة الحرب وحمل الجنازة والمشي بها».

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #62
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (62)
    - بعض الأحكام المستفادة من سورة مريم
    - خلق عيسى عليه السلام دليل على قدرة الله


    د.وليد خالد الربيع


    قال -سبحانه-: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} (سورة مريم:23) قصة مريم وابنها نبي الله عيسى -عليهما السلام- آية ظاهرة، ودلالة باهرة على عظيم قدرة الله -تعالى- وعجيب خلقه وبديع صنعه، كما قال -تعالى-: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} (المؤمنون:50) قال ابن كثير: « جعلهما آية للناس أي: حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى».
    وهذه الآية الكريمة توضح جانبا مما مرت به مريم -عليها السلام- من المعاناة البدنية، والقلق المعنوي خشية نسبتها إلى الفاحشة وهي العفيفة العابدة فتمنت الموت.
    وهنا تبرز مسألة مشكلة وهي (حكم تمني الموت)، وسبب الإشكال ما ورد فيها من نصوص وآثار متعارضة.
    النصوص التي تمنع تمني الموت
    عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ اَلْمَوْتَ لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اَللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ اَلْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ اَلْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
    وعن خباب: «وَلَوْلاَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ» أخرجه البخاري
    وقَالَ أَنَسٌ بن النضر: «لَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لاَ تَتَمَنَّوُا المَوْتَ» لَتَمَنَّيْتُ» أخرجه البخاري
    النصوص التي ظاهرها جواز تمني الموت
    دعاء يوسف -عليه السلام-: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } (يوسف:101)
    وقالت مريم لما ضربها الطلق: {يا ليتني مت قبل هذا} (مريم: 23)
    وعن عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأعلى» أخرجه البخاري.
    وقال ابن حجر في الفتح: «وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي وَضَعُفَتْ قُوَّتِي وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلَا مُفَرِّطٍ».
    ونقل ابن كثير أن علي بن أبي طالب في آخر إمارته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له، ولا يزداد الأمر إلا شدة قال: « اللهم خذني إليك، فقد سئمتهم وسئموني».
    مسالك العلماء في التوفيق بين الأدلة
    فمنهم من قال: النهي عن تمني الموت منسوخ، والناسخ له قَوْل يُوسُفَ المتقدم وَقَوْل سُلَيْمَانَ عليهما السلام: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحين} وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي احتضار النبي - صلى الله عليه وسلم - وَبِدُعَاءِ عُمَرَ بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ.
    وأجيب: بعدم التسليم لدعوى النسخ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا سَأَلُوا مَا قَارَبَ الْمَوْتَ، فمراد يوسف -عليه السلام- {تَوَفَّنِي مُسلما} أي: عِنْد حُضُور أَجلي. وَكَذَلِكَ مُرَادُ سُلَيْمَانَ -علَيْهِ السَّلَامُ.
    قال ابن كثير: « وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف -عليه السلام- قاله عند احتضاره، ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا حان أجله، وانقضى عمره، لا أنه سأل ذلك منجزا، كما يقول الداعي لغيره: «أماتك الله على الإسلام»، ويقول الداعي: «اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين».
    ومنهم من حمل الجواز على أنه شرع من قبلنا، وقد ورد في شرعنا النهي عنه، كما قال قتادة: قوله: {توفني مسلما وألحقني بالصالحين} لما جمع الله شمله وأقر عينه، وهو يومئذ مغمور في الدنيا وملكها وغضارتها، فاشتاق إلى الصالحين قبله، وكان ابن عباس يقول: «ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف -عليه السلام».
    قال ابن كثير: «ولكن هذا لا يجوز في شريعتنا». للنهي الوارد في ذلك.
    النهي للكراهة
    ومنهم من حمل النهي على الكراهة إذا لحق بالإنسان أضرار دنيوية، والجواز أن يفوض الأمر لله -تعالى- عند خوف الفتن الدينية ويجوز سؤال الموت كما قال الله -تعالى- إخبارا عن السحرة لما أراد فرعون فتنتهم قالوا: {ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين} (الأعراف: 126).
    وكما أرشدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، قال النووي: «فِيهِ التَّصْرِيحُ (أي: الحديث) بِكَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَاقَةٍ أَوْ مِحْنَةٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَشَاقِّ الدُّنْيَا، فَأَمَّا إِذَا خَافَ ضررا في دينه أو فتنة فِيهِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ فَعَلَ هَذَا الثَّانِي خَلَائِقُ مِنَ السَّلَفِ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ فِي أَدْيَانِهِمْ، وَفِيهِ أَنَّهُ إِنْ خَافَ وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى حَالِهِ فِي بَلْوَاهُ بِالْمَرَضِ وَنَحْوهِ فَلْيَقُلْ: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي إن كانت الحياة خيرا لي» إِلَخْ، وَالْأَفْضَلُ الصَّبْرُ وَالسُّكُونُ لِلْقَضَاءِ».
    تمني الموت خشية الفتنة
    وقال ابن حجر: « قَوْلُهُ: «مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ» حَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى الضُّرِّ الدُّنْيَوِيِّ، فَإِن وجد الضّر الْأُخْرَوِيَّ بِأَنْ خَشِيَ فِتْنَةً فِي دِينِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ من رِوَايَة بن حِبَّانَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فِي الدُّنْيَا».
    واستدل بحَدِيث مُعَاذٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ: «وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمِ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ».
    وفي الحديث: «إن الرجل ليمر بالقبر- أي: في زمان الدجال - فيقول: يا ليتني مكانك» لما يرى من الفتن والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون».
    وعن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اثنتان يكرههما ابن آدم: الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب» أخرجه أحمد صححه الألباني.
    وعليه يحمل قول مريم -عليها السلام- كما قال ابن كثير: «فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة».
    وقال القرطبي: «تمنت مريم -عليها السلام- الموت من جهة الدين لوجهين: أحدهما: أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك. الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنا وذلك مهلك».
    النهي للتسخط والاعتراض
    ومنهم من حمل النهي على الصيغة المطلقة التي يدل ظاهرها على التسخط والاعتراض على قدر الله وحكمته، ويجوز أن يدعو بما ورد مقيدا كما تقدم، قال ابن حجر: «قَوْلُهُ: «فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا» فِي رِوَايَةِ عَنْ أَنَسٍ: «فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلِ إِلَخْ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّ فِي التَّمَنِّي الْمُطْلَقِ نَوْعَ اعْتِرَاضٍ وَمُرَاغَمَةٍ لِلْقَدْرِ الْمَحْتُومِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا نَوْعُ تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ لِلْقَضَاءِ».
    ومنهم من حمل الجواز على من نزل به الموت فعلا فقال ابن حجر: «قَوْله في رواية: «وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ» وَهُوَ قَيْدٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا حَلَّ بِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَمَنِّيهِ رِضًا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَلَا مِنْ طَلَبِهِ مِنَ اللَّهِ لِذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عَقَّبَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى» إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْحَالَةِ الَّتِي قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ».
    قال: « وذَلِكَ لَا يُعَارِضُ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَالدُّعَاءَ بِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ؛ أَنَّهُ لَا يُقْبَضُ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ بَيْنَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ الْمَوْتِ».

    الحكمة من عدم تمني الموت
    وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة في عدم تمني الموت بقوله: « وَلاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ: إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ «أخرجه البخاري
    قال ابن حجر: «وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَالدُّعَاءِ بِهِ هُوَ (انْقِطَاعُ الْعَمَلِ بِالْمَوْتِ) فَإِنَّ الْحَيَاةَ يَتَسَبَّبُ مِنْهَا الْعَمَلُ، وَالْعَمَلُ يُحَصِّلُ زِيَادَةَ الثَّوَابِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ إِلَّا اسْتِمْرَارُ التَّوْحِيدِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ.
    فَخَرَجَ الْخَبَرُ مَخْرَجَ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، وَأَنَّ الْمُحْسِنَ يَرْجُو مِنَ اللَّهِ الزِّيَادَةَ بِأَنْ يُوَفِّقَهُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ الْمُسِيءَ لَا يَنْبَغِي لَهُ الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا قَطْعُ رَجَائِهِ».






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #63
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية - بعض الأحكام المستفادة من سورة مريم (63)

    - حِكَمٌ وأحكام من أخبار الأنبياء في سورة مريم


    د.وليد خالد الربيع


    قال -سبحانه-:{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (سورة مريم:58)، ورد ذكر مجموعة من الأنبياء -عليهم السلام- في سورة مريم، منهم زكريا ويحيى وعيسى وأمه مريم وإبراهيم وإسماعيل وإسحق وهارون وإدريس -عليهم السلام-، وهم صفوة البشر، ونخبة الناس الذين اصطفاهم الله -تعالى- لتلقي وحيه وتبليغ رسالته، وفي أخبارهم عبرة وعظة وحكم وأحكام، لذا نبه الله -تعالى- على فضلهم، ولزوم اتباع هديه في هذه الآية الكريمة.

    قال الشيخ ابن سعدي: «لما ذكر هؤلاء الأنبياء المكرمين، وخواص المرسلين، وذكر فضائلهم ومراتبهم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} أي: أنعم الله عليهم نعمة لا تلحق، ومنة لا تسبق، من النبوة والرسالة، وهم الذين أمرنا أن ندعو الله أن يهدينا صراط الذين أنعمت عليهم، وأن من أطاع الله، كان {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} الآية.

    خير بيوت العالم

    وأن بعضهم {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي: من ذريته {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} فهذه خير بيوت العالم، اصطفاهم الله، واختارهم، واجتباهم، وكان حالهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم، المتضمنة للإخبار بالغيوب وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر، والوعد والوعيد، {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} أي: خضعوا لآيات الله، وخشعوا لها، وأثرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة، ما أوجب لهم البكاء والإنابة، والسجود لربهم، ولم يكونوا من الذين إذا سمعوا آيات الله خروا عليها صما وعميانا».

    فمن المسائل المستفادة من هذه الآية الكريمة (مشروعية سجود التلاوة للتالي والمستمع)، وهنا وقفات:

    الوقفة الأولى

    - ما سجود التلاوة؟ وما حكمه؟

    سجود التلاوة هو السجود الذي يؤدى عند قراءة آية من آيات السجدة، وهي خمس عشرة آية في القرآن الكريم، ولها علامة تدل عليها.

    واتفق الفقهاء على أن سجود التلاوة مشروع للأدلة الواردة في شأنه، ومنها هذه الآية قال ابن كثير: «إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعا واستكانة، وحمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا، اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم».

    واختلف الفقهاء في سجود التلاوة هل هو واجب؟ على مذهبين:

    - المذهب الأول: سجود التلاوة واجب وهو قول الحنفية ورواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام، ودليلهم:

    (1) أن الله -سبحانه- و-تعالى- أمر به في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وذمّ من تركه فقال: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ}، مما يدل على وجوبه.

    (2) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار» أخرجه مسلم. وهو ظاهر الدلالة على الوجوب لقوله: (أمر).

    المذهب الثاني: سجود التلاوة سنة مؤكدة، وهو قول الجمهور، ودليلهم:

    (1) عن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والنجم) فلم يسجد فيها. متفق عليه. ولو كان واجبا لما تركه - صلى الله عليه وسلم .

    (2) وروى البخاري عن عمر أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد فسجد الناس معه، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: «يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه»، ولم يسجد عمر رضي الله عنه وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكروا عليه، مما يدل على عدم وجوبه.

    وهو الأظهر، لقوة أدلتهم وصراحتها.

    الوقفة الثانية

    - ما صفة سجود التلاوة؟

    اتفق الفقهاء على أن سجود التلاوة يحصل بسجدة واحدة، والأظهر أنه إذا كان قارئ القرآن في الصلاة فإنه يكبر في أول السجود وعند الرفع منه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في كل خفض ورفع في الصلاة، وأما إذا كانت القراءة خارج الصلاة فاختلف الفقهاء، والأظهر أنه لا يكبر ولو كبر فلا بأس؛ لأن سجود التلاوة ليس بصلاة؛ ولأن التكبير ذكر يحتاج إثباته إلى دليل ولا دليل، وما ورد لا يخلو من ضعف.

    واتفقوا على أنه لا تسليم من سجود التلاوة إذا كان في الصلاة، واختلفوا إذا كان خارج الصلاة والأظهر أنه لا تسليم فيه لعدم ورود ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا في حديث صحيح ولا ضعيف.

    الذكر في سجود التلاوة

    ويشرع لمن سجد سجود التلاوة أن يقول: «سبحان ربي الأعلى» لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت: {سبح اسم ربك الأعلى} قال: «اجعلوها في سجودكم»، وعن عائشة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن: «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته» أخرجه أبو داود والترمذي.

    وعن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني رأيت الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً وضع عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، قال ابن عباس: فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدة ثم سجد فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة» أخرجه الترمذي وابن ماجه وهو صحيح.

    الوقفة الثالثة

    - ما حكم سجود السامع والمستمع؟

    ما تقدم هو حكم سجود التلاوة في حق تالي القرآن، أما السامع فهو الذي يسمع الصوت دون أن ينصت إليه، والمستمع هو الذي ينصت للقارئ ويتابعه، قال ابن قدامة: «ويسن السجود للتالي والمستمع لا نعلم فيه خلافا»، واستدل بحديث ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة في غير الصلاة فيسجد ونسجد معه حتى لا يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته. متفق عليه


    أما السامع غير القاصد للسماع فلا يستحب له السجود لما أخرج عبد الرزاق في المصنف عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُثْمَانَ، مَرَّ بِقَاصٍّ فَقَرَأَ سَجْدَةً لِيَسْجُدَ مَعَهُ عُثْمَانُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: «إِنَّمَا السُّجُودُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَ» ثُمَّ مَضَى وَلَمْ يَسْجُدْ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَدْ كَانَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ يَجْلِسُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ وَيَقْرَأُ الْقَاصُّ السَّجْدَةَ فَلَا يَسْجُدُ مَعَهُ، وَيَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَجْلِسْ لَهَا، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنَ جَلَسَ لَهَا، فَإِنْ مَرَرْتَ فَسَجَدُوا فَلَيْسَ عَلَيْكَ سُجُودٌ».

    ويشترط لسجود المستمع سجود التالي فإذا لم يسجد فلا سجود على المستمع لحديث زيد قال: «قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والنجم) فلم يسجد فيها «لا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا زيد.

    وقال عمر لقارئ: «كنت إمامنا لو سجدت لسجدنا معك»، وأخرج عبد الرزاق عَنْ سُلَيْمِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ السَّجْدَةَ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا تَنْظُرُ أَنْتَ قَرَأْتَهَا، فَإِنْ سَجَدْتَ سَجَدْنَا».






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #64
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (64)

    - الأحكام المستفادة من قصة إبراهيم عليه السلام

    - حكم المعاريض


    د.وليد خالد الربيع


    قال -تعالى-: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} (سورة الأنبياء:63)، أخبرنا الله -سبحانه وتعالى- في سورة الأنبياء عن جانب من حياة إبراهيم الخليل -عليه السلام-؛ حيث أقام الحجة على قومه، وألزمهم أن يقروا على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين بعبادة غير الله -تعالى-، وذلك حين كسر أصنامهم وترك الفأس برقبة كبيرهم، فلما سألوه أجابهم بما ذكره الله في هذه الآية، قال الشيخ ابن سعدي: «فقال إبراهيم والناس شاهدون: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} أي: كسرها غضبا عليها، لما عبدت معه، وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده، وهذا الكلام من إبراهيم، المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه، ولهذا قال: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} وأراد الأصنام المكسرة اسألوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر، اسألوه لأي شيء كسرها، إن كان عندهم نطق، فسيجيبونكم إلى ذلك، وأنا وأنتم، وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم، ولا تنفع ولا تضر، بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى».

    وقد أخذ العلماء من هذه الآية (مسألة حكم المعاريض): قال القرطبي: «وكان قوله من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب».

    تعريف المعاريض

    قال ابن الأثير: «المعاريض جمع معراض من التعريض، وهو خلاف التصريح من القول».

    وفي اللسان: المعاريض: التورية بالشيء عن الشيء، والتورية: هي أن يريد المتكلم بكلامه خلاف ظاهره، قال الفيومي: «أن تطلق لفظا ظاهرا في معنى وتريد معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ لكنه خلاف ظاهره».

    حكم المعاريض

    معلوم أن الكذب وهو قول مخالف للواقع محرم ومن الكبائر كما دلت عليه نصوص كثيرة، وقد يضطر المرء إلى التخلص من بعض المواقف الخطيرة أو المحرجة باستعمال المعاريض والتلاعب بالألفاظ، وهو مخرج حسن إذا لم يكن سبيلا للتوصل إلى الحرام أو أخذ حقوق الناس أو إسقاط الواجبات، فعن عمران بن حصين قال: «إنَّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب» أي: فيها سَعَةٌ وفُسحة ما يغني عن الكذب. رواه البخاري في الأدب المفرد.

    وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «ما في المعاريض ما يغنى الرجل عن الكذب» رواه البيهقي، وقال ابن عباس: «ما أحب بمعاريض الكلام حمر النعم».

    وقال النخعي: «لهم كلام يتكلَّمون به إِذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم».

    وقال ابن سيرين: «الكلام أوسع من أن يكذب ظريف».

    وقرر النووي أن التورية والتعريض ضرب من التغرير والخداع، إلا إن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خداع المخاطب، أو حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب، فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيء من ذلك فهو مكروه وليس بحرام، إلا أن يتوصل به إلى أخذ باطل أو دفع حقٍّ، فيصير حينئذ حرامًا.

    قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: «ومهما أمكن المعاريض حرم (الكذب)، لعدم الحاجة إذاً». ثم ذكر أن الإمام أحمد سئل المعاريض فقال: «المعاريض لا تكون في الشراء والبيع، وتصلح بين الناس» قال ابن مفلح: فلعل ظاهره أن المعاريض فيما استثنى الشرع من الكذب، ولا تجوز المعاريض في غيرها.

    هل كذب إبراهيم -عليه السلام- أم ورّى؟

    في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ عليه السَّلَامُ إلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ منهنَّ في ذَاتِ اللَّهِ -عزَّ وجلَ-ّ؛ قَوْلُهُ {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وقالَ: بيْنَا هو ذَاتَ يَومٍ وسَارَةُ، إذْ أَتَى علَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فقِيلَ له: إنَّ هَاهُنَا رَجُلًا معهُ امْرَأَةٌ مِن أَحْسَنِ النَّاسِ، فأرْسَلَ إلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقالَ: مَن هذِه؟ قالَ: أُخْتِي، فأتَى سَارَةَ قالَ: يا سَارَةُ، ليسَ علَى وجْهِ الأرْضِ مُؤْمِنٌ غيرِي وغَيْرَكِ، وإنَّ هذا سَأَلَنِي فأخْبَرْتُهُ أنَّكِ أُخْتِي، فلا تُكَذِّبِينِي» الحديث.

    وقد جرى بحث بين العلماء في حقيقة ما وقع من إبراهيم عليه السلام هل هو كذب حقيقي رُخِصَ له فيه أم كان كلامه على سبيل التورية والمعاريض؟

    ذكر ابن الجوزي في تفسيره القولين:

    - أحدهما: أنه وإِن كان في صورة الكذب، إِلا أن المراد به التنبيه على أن من لا قدرة له، لا يصلح أن يكون إِلهاً، ومثله قول الملَكين لداود: {إِنَّ هذا أَخِي} ولم يكن أخاه {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}، ولم يكن له شيء، فجرى هذا مجرى التّنبيه لداود على ما فعل، أنه هو المراد بالفعل والمَثَل المضروب، ومِثْل هذا لا تسمِّيه العرب كذباً.

    - والثاني: أنه من معاريض الكلام، (قال ابن حجر: «وَفِي الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْمَعَارِيضِ»)

    قال ابن الأنباري: كلام إِبراهيم كان صدقاً عند البحث، ومعنى قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «كذب إِبراهيم ثلاث كذبات» قال قولاً يشبه الكذب في الظاهر، وليس بكذب.

    قال ابن مفلح: «وقد ذهب جماعة من العلماء إِلى هذا الوجه، وأنه من المعاريض، والمعاريض لا تُذم، خصوصاً إِذا احتيج إِليها» وذكر عدة مواقف نبوية استعمل فيها التورية منها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعجوز: «إنّ الجنّة لا يدخلها العجائز» أراد قوله -تعالى-: {إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً}، وقال لامرأة: «مَنْ زوجُك؟» فسمَّته له، فقال: «الذي في عينيه بياض؟» وقال لرجل: «إِنا حاملوك على ولد ناقة».

    وقد أيد ابن حجر هذا الاتجاه فقال: «هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ؛ إِنَّهُ قَالَ تَوْبِيخًا لِقَوْمِهِ أَوْ تَهَكُّمًا بِهِمْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ فِي الْكَذَبَاتِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ الْكَذِبَ عَلَى الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَلِكَوْنِهِ قَالَ قَوْلًا يَعْتَقِدُهُ السَّامِعُ كَذِبًا لَكِنَّهُ إِذَا حُقِّقَ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْأَمْرَيْنِ فَلَيْسَ بِكَذِبٍ مَحْضٍ».

    ومن قبله قال النووي: «قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَمَّا الْكَذِبُ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْأَنْبِيَاء ُ مَعْصُومُونَ مِنْهُ سَوَاءٌ كثيره وقليله.

    قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الْكَذَبَاتِ الْمَذْكُورَةَ

    وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْكَذَبَاتِ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ وَالسَّامِعِ، وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَيْسَتْ كَذِبًا مَذْمُومًا لِوَجْهَيْنِ:

    - أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَرَّى بِهَا فَقَالَ فِي سَارَةَ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ.

    - والثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كذبا لا تورية فِيهِ لَكَانَ جَائِزًا فِي دَفْعِ الظَّالِمِينَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ ظَالِمٌ يَطْلُبُ إِنْسَانًا مُخْتَفِيًا لِيَقْتُلَهُ أَوْ يَطْلُبُ وَدِيعَةً لِإِنْسَانٍ لِيَأْخُذَهَا غَصْبًا وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إِخْفَاؤُهُ وَإِنْكَارُ الْعِلْمِ بِهِ، وَهَذَا كَذِبٌ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ لِكَوْنِهِ فِي دَفْعِ الظَّالِمِ فَنَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَذَبَاتِ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُطْلَقِ الْكَذِبِ الْمَذْمُومِ».

    وقد أيد الطبري الاتجاه الأول فقال معترضا: «وهذا قول خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلها في الله»، وغير مستحيل أن يكون الله -تعالى- ذكْره أذن لخليله في ذلك، ليقرِّع قومه به، ويحتجّ به عليهم، ويعرّفهم موضع خطئهم، وسوء نظرهم لأنفسهم، كما قال مؤذّن يوسف لإخوته:{أَيَّتُه َا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} ولم يكونوا سرقوا شيئا».

    وأجاب النووي بقوله: «أَمَّا إِطْلَاقُ لَفْظِ الْكَذِبِ عَلَيْهَا فَلَا يُمْتَنَعُ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُهَا فَصَحِيحٌ لَا مَانِعَ مِنْهُ».






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #65
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية



    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (65)
    - بعض المسائل المستفادة من سورة لقمان
    (حكم بر الوالدين غير المسلمين )


    د.وليد خالد الربيع


    قال الله -عز وجل-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 14-15).


    بعض المسائل المستفادة من الآيات الكريمة مسألة (حكم بر الوالدين غير المسلمين):


    الوالدان سبب وجود الولد بإذن الله، وهذا السبب لا يختص بالمسلمين، بل هو سبب إنساني عام، قال ابن كثير: «لهما عليه غاية الإحسان؛ فالوالد بالإنفاق، والوالدة بالإشفاق»؛ لذا لم يقتصر بر الوالدين على الأبوين المسلمين فحسب، بل يمتد لغير المسلمين، كما قال -تعالى- في هذه الآية: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.

    لا طاعة للوالدين في الكفر والشرك

    قال ابن كثير: «إن حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما، فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعنك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفا، أي: محسنا إليهما»، وقال -سبحانه-: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8)، فدلت الآيتان أن الوالدين الكافرين اللذين يجاهدان ولدهما المسلم لحمله على الكفر والشرك لا يطاعان في معصية الله -تعالى-، ومع ذلك لهما حق البر والرفق والإحسان إليهما.

    لا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين

    قال القرطبي: «لا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد، قال الله -تعالى-: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وفي البخاري عن أسماء قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيت النبي -صلى الله عليه وسلم فقلت إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: «نعم صلي أمك».

    ضوابط بر الوالدين غير المسلمين

    ولكن لبر الوالدين غير المسلمين ضوابط منها: إذا أمر الوالدان الكافران ابنهما المسلم بترك مستحب أو فعل مكروه فإن كان مرادهما توهين الدين من غير أن تتحقق لهما في ذلك مصلحة مشروعة فلا طاعة عليه لهما، أما إذا قصدا بذلك بعض مصالحهما فيجب طاعتهما.

    الدعاء للوالدين الكافرين

    وأما الدعاء للوالدين الكافرين فقد دل ظاهر قوله -تعالى-: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} على مشروعية الدعاء للوالدين مطلقا سواء أكانا مسلمين أم كافرين، في حين منع الله -تعالى- الاستغفار للمشركين في قوله -تعالى-: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، وقد اختلف الفقهاء في التوفيق بين الآيتين على مذاهب:

    المذهب الأول: أن آية الإسراء منسوخة بآية التوبة، وممن قال ذلك ابن عباس وعكرمة وقتادة.

    المذهب الثاني: أن آية الإسراء مخصوصة بآية التوبة، واختلفوا في محل التخصيص:

    فقال الطبري: معنى الكلام: وقل رب ارحمهما إذا كانا مؤمنين كما ربياني صغيرا.

    وقال القرطبي: هو دعاء بالرحمة الدنيوية للأبوين المشركين ما داما حيين لا رحمة الآخرة.

    الإنفاق على الوالدين

    ومن المسائل المستفادة مسألة (حكم الإنفاق على الوالدين): قال الشيخ ابن سعدي: «فأولى الناس به، أي (الإنفاق) وأحقهم بالتقديم، أعظمهم حقا عليك، وهم الوالدان الواجب برهما، والمحرم عقوقهما، ومن أعظم برهما، النفقة عليهما، ومن أعظم العقوق، ترك الإنفاق عليهما».

    وقد اتفق الفقهاء على وجوب نفقة الأصول المباشرين، وهم الآباء والأمهات على الأبناء، قال ابن المنذر: «أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين الذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد»، ومما استدلوا به: قوله -تعالى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا}، ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما، وقال -تعالى-: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، ومن المعروف القيام بكفايتهما عند حاجتهما، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه «أخرجه أبو داود وصححه الألباني.

    نفقة الوالدين واجبة على الولد

    قال الخطابي: «فيه من الفقه أن نفقة الوالدين واجبة على الولد إذا كان واجدا لها، ووجه ذلك أن قوله: «وإن ولده من كسبه» أي من المكسوب الحاصل بالجد والطلب ومباشرة الأسباب، ومال الولد من كسب الولد، فصار من كسب الإنسان بواسطة، فجاز له أكله».

    وعن جابر - رضي الله عنه- أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي مالا وولدا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أنت ومالك لأبيك» أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني، فأضاف مال الابن إلى الأب بلام التمليك، وظاهره يقتضي أن يكون للأب في مال ابنه حقيقة الملك، فإن لم تثبت الحقيقة فلا أقل من أن يثبت له حق التملك عند الحاجة.

    شروط وجوب نفقة الأصول المباشرين على الأبناء

    ولوجوب نفقة الأصول المباشرين على الأبناء شروط، منها:


    - الشرط الأول: يسار المنفق: فقد ذهب عامة الفقهاء إلى أن يسار المنفق شرط لوجوب نفقة الأصول على الأبناء.

    - الشرط الثاني: حاجة المنفق عليه: وذلك بأن يكون فقيرا لا مال له، فإن كان له مال لم تجب نفقته على غيره، وهذا ما ذهب إليه عامة الفقهاء؛ لأن النفقة تجب على سبيل المواساة، والموسر مستغن عن المواساة.


    وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه تجب النفقة على الأبناء ولو كان الأصل فقيرا وهو قادر على الكسب؛ لأن الشرع نهى عن إيذاء الوالدين؛ فإلزام الأب بالكسب مع غنى الولد من الإيذاء فيكون منهيا عنه، ولأنه يقبح بالإنسان أن يكلف أصله بالكسب مع اتساع ماله.


    وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يشترط اتحاد الدين، فتجب نفقة الأصول ولو اختلف دينهما، ومما استدلوا به ما يلي:


    1-قوله -تعالى-:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} قال القرطبي: «والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين».

    2-عن أسماء -رضي الله عنها- قالت: قدمت أمي وهي مشركة، فاستفتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: «نعم صلي أمك «أخرجه البخاري، قال ابن حجر: «ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة وإن كان الولد مسلما».



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #66
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (66)
    - بعض المسائل المستفادة من سورة لقمان


    د.وليد خالد الربيع


    الإحسان للوالدين


    قال الله -عز وجل-: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير} (سورة لقمان:13-14)، وصايا لقمان من حكم القرآن العظيمة، جاءت في سياق نصيحة أبوية حانية، تناولت ثوابت الدين الراسخة في العقيدة والعبادة والأخلاق مع الخالق والمخلوق، وبينت الآداب العامة والخاصة، فهي منهج حياة سوية، وخطة مجتمع رباني مستقيم، ومن المسائل المستفادة من الآيات الكريمة مسألة (الإحسان للوالدين).

    والإحسان إلى الوالدين كلمة جامعة، تعني إيصال كل خير مستطاع إليهما، ومنع كل ما يمكن منعه من أذى عنهما، واقتران ذلك بالشفقة والعطف والتودد، ويوضح ابن عباس كيفية الإحسان إلى الوالدين بأنه البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، ولا يحدّ النظر إليهما، ولا يرفع الصوت عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللاً لهما.

    ويضاد الإحسان إلى الوالدين (العقوق)، وضبطه ابن حجر بأنه كل ما يصدر من الولد مما يتأذى به أحد الوالدين من قول أو فعل إلا ما كان في ترك طاعتهما في شرك أو معصية.

    حكم بر الوالدين


    وأما حكم بر الوالدين فقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على تأكيد هذا الحق العظيم، وبيان أنه من أعظم الواجبات على العباد بعد القيام بواجب العبودية لله -تعالى-، ومن ذلك: قوله -تعالى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا} (سورة الإسراء:23).

    قال الشيخ ابن سعدي: «لما نهى -تعالى- عن الشرك به أمر بالتوحيد، ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا} أي: أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي؛ لأنهما سبب وجود العبد، ولهما من المحبة للولد والإحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر».

    قال القرطبي: أمر الله -تعالى- بعبادته وتوحيده وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره فقال: {أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير}.

    وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قال القرطبي: «فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام».

    وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رغم أنفه» ثلاثا، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة».

    عقوق الوالدين من أكبر الكبائر

    وأما عقوق الوالدين فهو من أكبر الكبائر باتفاق الفقهاء، فقد أخرج الشيخان عن أبي بكر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين»، وكان متكئا فجلس فقال: «ألا وقول الزور وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.

    المسألة الثانية: ما حدود طاعة الوالدين؟

    طاعة الوالدين ليست مطلقة كطاعة الله -تعالى- وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإنما هي مقيدة بحدود، فذكر ابن حجر أنه يجب على الولد طاعة والديه فيما أمرا به من المباحات فعلا أو تركا، ما لم يترتب على طاعتهما ضرر بالغ أو هلاك محقق.

    فإن أمرا بمعصية بترك واجب أو فعل محرم فلا طاعة لهما، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إنما الطاعة في المعروف» وقوله: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

    إذا أمراه بترك مندوب

    فإن أمرا بترك مندوب وفي ذلك مصلحة لهما، كأن يطلبا من الولد مصاحبتهما وفي ذلك تركه لقيام الليل أو قراءة القرآن، فإنه تجب طاعتهما، ودليل ذلك استجابة الله -تعالى- دعاء أم جريج في ابنها الصالح حيث عاقبه الله لعدم تلبيته لندائها، قال النووي في فقه الحديث: «فيه قصة جريج وأنه آثر الصلاة على إجابتها فدعت عليه فاستجاب الله لها، قال العلماء : هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه أن إجابتها لأنه كان في صلاة نفل والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب، وعقوقها حرام، وكان يمكنه أن يخفف الصلاة ويجيبها ثم يعود لصلاته».

    إذا أمراه بترك واجب كفائي

    وإذا أمراه بترك واجب كفائي كترك غسل الميت أو ترك الجهاد ونحو ذلك، فإن تعين عليه القيام بذلك العمل لعدم وجود غيره أو لأن القائمين به لا يكفي جهدهم لإقامته فلا يطاعان في ذلك، أما إذا وجد من يكفي فإنه يجب برهما وطاعتهما.

    إذا وجب الجهاد على الولد

    وإذا وجب الجهاد على الولد وتعين لم يعتبر إذن الوالدين؛ لأنه صار فرض عين وتركه معصية، وكذلك كل ما وجب مثل الحج وصلاة الجماعة والسفر للعلم الواجب، قال الأوزاعي: لا طاعة للوالدين في ترك الفرائض والجمع والحج والقتال؛ لأنها عبادة تعينت عليه.

    أما إن كان الجهاد فرض كفاية فجمهور الفقهاء يرون وجوب استئذان الوالدين قبل الخروج وعليه ترك الخروج إذا منعاه من ذلك، ودليلهم ما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد فقال: «أحي والداك؟» قال نعم قال: «ففيهما فجاهد».

    قال ابن حجر: «أي: إن كان لك أبوان فابلغ جهدك في برهما والإحسان إليهما، فإن ذلك يقوم مقام قتال العدو»، وفي رواية لأبي داود: جاء رجل فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان، قال - صلى الله عليه وسلم -: «فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما»، وعن أبي سعيد: أن رجلا من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «هل لك أحد باليمن؟» قال: أبوي، قال: «أذنا لك» قال: لا، قال: «فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما» أخرجه أبو داود.

    قال ابن قدامة: «لأن بر الوالدين فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية».

    المسألة الثالثة: كيف يبر الولد الوالدين إذا تعارض أمراهما؟

    ظاهر الآية يدل على التسوية بين الأبوين في البر والقيام بحقوقهما على حد سواء، ولكن ثبت في البخاري عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «أمك «قال: ثم من؟ قال: «أمك «قال: ثم من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أبوك».

    قال القرطبي: فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب، لذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأم ثلاث مرات وذكر الأب في الرابعة فقط، وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب.


    وبناء على هذا إذا تعارض أمراهما وأمكن الجمع بين الحقين فذاك، فإن تعذر الجمع بينهما ينظر:

    فإن كان أحدهما يأمر بطاعة والآخر يأمر بمعصية، فيقدم طاعة من أمر بالطاعة؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

    وإن كانا يأمران بطاعة أو مباح فحق الأم مقدم على الأب، ومن ذلك لو وجبت النفقة على الولد لأبويه ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما، فتقدم الأم على الأب عند الجمهور؛ لما لها من عظيم الحق، ولأنها أضعف وأعجز.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #67
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (67)
    - بعض الأحكام المستفادة من قصة لوط عليه السلام

    د.وليد خالد الربيع
    - حكم الهجرة



    قال -سبحانه وتعالى-: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة العنكبوت:26) من المسائل المستفادة من الآية الكريمة (حكم الهجرة)، قال الشنقيطي: «وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُشِيرُ إِلَى هِجْرَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمَعَهُ لُوطٌ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ فِرَارًا بِدِينِهِمَا»، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي الْهِجْرَةِ وَالْعُزْلَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ».

    أولاً: تعريف الهجرة

    - الهجرة في اللغة: هي الِانْتِقَال مِنْ مَوْضِع إِلَى مَوْضِع.

    - وفي الاصطلاح: هي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام.

    ثانيا: أنواع الهجرة

    - يتبادر إلى الذهن ويغلب على التصور أن الهجرة حقيقة واحدة، وقد ذكر ابن القيم أن الهجرة هجرتان:

    - الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد.

    - والثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره إلى خوفه.

    ويوضح الشيخ ابن سعدي تفصيل الحكم بقوله: «وفسر - صلى الله عليه وسلم - الهجرة التي هي فرض عين على كل مسلم بأنها هجرة الذنوب والمعاصي يعني حديث: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، وهذا الفرض لا يسقط عن كل مكلف في كل حال من أحواله؛ فإن الله حرم على عباده انتهاك المحرمات، والإقدام على المعاصي.

    والهجرة الخاصة التي هي الانتقال من بلد الكفر أو البدع إلى بلد الإسلام والسنة جزء من هذه الهجرة وليست واجبة على كل أحد، وإنما تجب بوجود أسبابها المعروفة.

    ثالثاً: حكم الهجرة

    ذهب عامة العلماء إلى أن حكم الهجرة باق إلى يوم القيامة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها «رواه أحمد، وأبو داود، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو» أخرجه النسائي وصححه الألباني.

    ووجه الدلالة من الحديثين ظاهر؛ حيث قرر - صلى الله عليه وسلم - بقاء حكم الهجرة ما بقيت التوبة وبقي الجهاد، وكلاهما محكم غير منسوخ، مما يدل على أن حكم الهجرة أيضا غير منسوخ.

    حكم هجرة المسلم من دار الكفر

    وفي المسألة تفصيل ذكره العلماء في حكم هجرة المسلم من دار الكفر مراعين بذلك وضع المسلم وقدرته، على النحو الآتي:

    الأول: من تجب عليه الهجرة

    وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة لقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء:97)، وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «أنا بريء من مسلم بين مشركين، لا تراءى ناراهما «أخرجه أبو داود وصححه الألباني، ومعناه: لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من يقدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

    الثاني: من لا تجب الهجرة عليه

    وهو من يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف من النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه، لقوله -تعالى-: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (سورة النساء:98)، قال ابن عباس: «كنت أنا وأمي من المستضعفين ممن عذر الله، هي من النساء وأنا من الولدان». أخرجه البخاري.

    الثالث: من تستحب له ولا تجب عليه

    وهو من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامته في دار الكفر، فتستحب له ليتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه دون الهجرة، وقد كان العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - مقيما بمكة مع إسلامه.

    ومما يستدل به أيضا:

    1- عن أبي سعيد الخدري أن أعرابيا أتى النبي فسأله عن الهجرة فقال: «ويحك إن الهجرة شأنها شديد، فهل لك من إبل؟» قال: نعم، قال: «فتعطي صدقتها؟» قال: نعم قال: «فهل تمنح منها؟» قال: نعم قال: «فتحلبها يوم ورودها؟» قال: نعم قال: «فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا». متفق عليه، ووجه الدلالة من الحديث ظاهر؛ حيث لو كانت الهجرة واجبة عليه لما صرفه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها.

    2- أخرج مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله» إلى أن قال: «ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين» الحديث أخرجه مسلم.

    قال النووي: «معنى هذا الحديث أنهم إذا أسلموا استحب لهم أن يهاجروا إلى المدينة، فإن فعلوا ذلك كانوا كالمهاجرين قبلهم في استحقاق الفيء والغنيمة وغير ذلك، وإلا فهم أعراب كسائر أعراب المسلمين الساكنين في البادية من غير هجرة ولا غزو».

    الهجرة في أول الإسلام

    ومما يزيد الأمر وضوحا أن الهجرة كانت في أول الإسلام واجبة لنصرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد فتح مكة سقط الوجوب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا هجرة بعد الفتح» متفق عليه، قال ابن قدامة: «أراد بها لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح»، وقال النووي: «معناه: لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضلها قبل الفتح، كما قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا}. وأخرج البخاري عن عطاء بن أبي رباح قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير الليثي، فسألناها عن الهجرة فقالت: «لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله -تعالى- وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - مخافة أن يفتن عليه، أما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية».


    قال ابن حجر: «أشارت عائشة -رضي الله عنها- إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع لم تجب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت، ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها، لما يرتجي من دخول غيره في الإسلام».

    وقال الخطابي: «كانت الهجرة أي: إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت لما هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين، وقد أكد الله ذلك في آيات عدة حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل سقطت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب».



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #68
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (68)
    - بعض المسائل المستفادة من سورة لقمان
    - مدة الرضاع ووقت فطام الرضيع
    د.وليد خالد الربيع



    قال الله -عز وجل-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (سورة لقمان: 14)، من المسائل المستفادة من الآية الكريمة مدة الرضاع ووقت فطام الرضيع. قال ابن كثير: «وقوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أي: تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين، كما قال -تعالى-: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233)، ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لأنه قال -تعالى- في الآية الأخرى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (الأحقاف:15)، قال القرطبي: «الْفِصَال وَالْفَصْل: الْفِطَام، وَأَصْله التَّفْرِيق، فَهُوَ تَفْرِيق بَيْن الصَّبِيّ وَالثَّدْي، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْفَصِيل، لِأَنَّهُ مَفْصُول عَنْ أُمّه.

    ما تعريف الرضاع؟

    الرضاع في اللغة: هو شرب اللبن من الضرع أو الثدي.

    وفي الاصطلاح: هو اسم لوصول لبن امرأة أوما حصل من لبنها في جوف طفل بشروط مخصوصة.

    ما مدة الرضاعة؟

    لا خلاف بين الفقهاء في أن مدة الرضاع حولان كاملان، وفطام الطفل قبل ذلك حق للوالدين معا بشرط عدم الإضرار بالطفل، فالتحديد بالعامين ليس تقديرا شرعيا حتميا لا يجوز الزيادة أو النقص منه، فعند اتفاق الزوجين على الفطام قبل ذلك أو بعده فلا مانع ما لم يضر ذلك بالرضيع، وعند الاختلاف كما لو كان الأب يريد الفطام مبكرا لتقليل النفقات، أو كانت الأم تريد تأخير الفطام لزيادة نفقة الرضاعة فهنا يلزم الأبوان بالمدة المقررة شرعا وهي الحولان.

    قال القرطبي: «قوله -تعالى-: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} دَلِيل عَلَى أَنَّ إِرْضَاع الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ حَتْمًا، فَإِنَّهُ يَجُوز الْفِطَام قَبْل الْحَوْلَيْنِ، وَلَكِنَّهُ تَحْدِيد لِقَطْعِ التَّنَازُع بَيْن الزَّوْجَيْنِ فِي مُدَّة الرَّضَاع، فَلا يَجِب عَلَى الزَّوْج إِعْطَاء الْأُجْرَة لِأَكْثَر مِنْ حَوْلَيْنِ. وَإِنْ أَرَادَ الْأَب الْفَطْم قَبْل هَذِهِ الْمُدَّة وَلَمْ تَرْضَ الْأُمّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَالزِّيَادَة عَلَى الْحَوْلَيْنِ أَوْ النُّقْصَان إِنَّمَا يَكُون عِنْد عَدَم الْإِضْرَار بِالْمَوْلُودِ وَعِنْد رِضَا الْوَالِدَيْنِ» .

    رضاع الطفل من غير أمه

    وهنا تأتي مسألة أخرى متعلقة بمدة الرضاع، وهي رضاع الطفل من غير أمه وما يتبع ذلك من أحكام الرضاع المحرم الذي ينشر المحرمية بين المرضع والطفل الرضيع، وهي مسألة كثيرة الفروع، عديدة الشروط.

    شرط (مدة الرضاع)

    وموضع البحث هنا عن شرط (مدة الرضاع) التي تثبت بها الحرمة، وهو موضع خلاف بين الفقهاء على مذاهب:

    المذهب الأول

    يشترط ألا يبلغ الطفل حولين، فمتى بلغ حولين فلا أثر لارتضاعه، وهو قول الشافعية والحنابلة والصاحبين من الحنفية، ونسب القرطبي هذا القول للإمام مالك وَهُوَ قَوْل عُمَر وَابْن عَبَّاس، وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود، ومما استدلوا به:

    1- قوله -تعالى-: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} قال القرطبي: «اِنْتَزَعَ مَالِك -رَحِمَهُ اللَّه تعالى- وَمَنْ تَابَعَهُ وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء مِنْ هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الرَّضَاعَة الْمُحَرِّمَة الْجَارِيَة مَجْرَى النَّسَب إِنَّمَا هِيَ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلَيْنِ تَمَّتْ الرَّضَاعَة، وَلَا رَضَاعَة بَعْد الْحَوْلَيْنِ مُعْتَبَرَة، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَلا حُكْم لِمَا اِرْتَضَعَ الْمَوْلُود بَعْد الْحَوْلَيْنِ».

    2- قوله -تعالى-:{وفصاله في عامين} قال القرطبي: «أَيْ: وَفِصَاله فِي اِنْقِضَاء عَامَيْنِ، وَالْمَقْصُود مِنْ الْفِصَال الْفِطَام، فَعَبَّرَ بِغَايَتِهِ وَنِهَايَته».

    3- عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «لَا رَضَاع إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ» أخرجه الدارقطني.

    4- عن عمر - رضي الله عنه - قال: «لا رضاع إلا في الحولين في الصغر» أخرجه الدارقطني.

    المذهب الثاني

    يرى أصحاب هذا المذهب أنه لا يضر زيادة شهرين على الحولين. وهو قول المالكية.

    المذهب الثالث

    يرى أصحاب هذا المذهب أنَّ أكثر مدة للرضاع المحرم سنتان ونصف، وهو قول أبي حنيفة، لقوله -تعالى-: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}، ووجه الدلالة من الآية أن الله -تعالى- ذكر شيئين: الحمل والفصال، وضرب لهما مدة ثلاثين شهرا، وكل ما كان كذلك كانت المدة لكل واحد منهما بكاملها، كالأجل المضروب للدينين على شخصين بأن قال الدائن: أجلت الدين الذي لي على فلان والدين الذي على فلان سنة، يفهم منه أن السنة بكمالها لكل منهما.

    ونوقش بما قاله ابن قدامة: «وقول أبي حنيفة تحكم يخالف ظاهر الكتاب وقول الصحابة، فقد روينا عن علي وابن عباس أن المراد بالحمل حمل البطن، وبه استدل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وقد دل على هذا قوله -تعالى-:{وفصاله في عامين}، فلو حمل على ما قاله أبو حنيفة لكان مخالفا لهذه الآية».

    المذهب الرابع

    يرى أصحاب هذا المذهب أنَّ رضاع الكبير يحرم، فلو رضع بعد الحولين تنشر المحرمية بينهما، وهو قول عائشة - رضي الله عنها - وعطاء والليث والظاهرية وقال به شيخ الإسلام ابن تيمية عند الحاجة، ودليلهم حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة»، فرجعت فقالت: إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة. أخرجه مسلم، قال القاضي عياض: «لعلها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها ولا التقت بشرتاهما».

    ونوقش هذا الاستدلال بما قاله ابن قدامة: «يتعين حمل خبر أبي حذيفة على أنه خاص له دون سائر الناس، كما قال أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -»، كما جاء في صحيح مسلم عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبى سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا».

    رجحان المذهب الأول

    والذي يظهر هو رجحان المذهب الأول لقوة أدلتهم وسلامتها من المعارضة وضعف أدلة المخالفين، وقد جاءت نصوص شرعية تدل على أن رضاع الكبير لا يؤثر في المحرمية بالرضاع منها:


    1-عن أم سلمة أنه - رضي الله عنها - قال: «لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام» أخرجه الترمذي وصححه الألباني صحيح الترمذي1/338، ومعنى قوله: «في الثدي» أي في وقت الحاجة إلى الثدي أي في الحولين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن ابني إبراهيم مات في الثدي» أي وهو في زمن الرضاع.

    2- عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشر العظم» أخرجه مالك.

    3- عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الرضاعة من المجاعة» أخرجه البخاري.

    فهذه الأحاديث تدل على أن الرضاع الذي تثبت به المحرمية هو الذي يكون في الصغر قبل الفطام؛ حيث يسد اللبن جوع الصغير، وينمو منه عظمه ولحمه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #69
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    من أ الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (69)
    - بعض الأحكام المستفادة من قصة موسى عليه السلام
    - الألفاظ الت
    د.وليد خالد الربيع

    قال -تعالى-: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (سورة القصص:27) من المسائل الفقهية المستفادة من الآية الكريمة (مسألة الألفاظ التي ينعقد بها النكاح). فمن المعلوم أن الرضا شرط لصحة العقود والتصرفات كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء: 29)، وفي الحديث:»إنما البيع عن تراض» أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني، ومن ضمن ذلك عقد النكاح بل هو أولى بهذا الشرط لما فيه من استباحة الأعراض والاطلاع على العورات وما يتبعه من آثار خطيرة تتعلق بالأفراد والأسر، والرضا أمر قلبي يعبر عنه اللسان بما يعرف بصيغة العقد.

    صيغة العقد

    فصيغة العقد: هي ما صدر من المتعاقدين من قول أو فعل يدل على الرضا بالعقد. ولها حالان:

    الحال الأولى

    أن يكون الإيجاب والقبول بلفظ الإنكاح أو التزويج وما اشتق منهما: كأن يقول الولي: زوجتك ابنتي أو أنكحتك ابنتي، فيقول الخاطب قبلت، أو يقول الخاطب: تزوجت ابنتك أو نكحت ابنتك، فيقول الولي: قبلت، وهذه الصيغة ينعقد بها الزواج بالإجماع، قال ابن قدامة:» وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا إجْمَاعًا». وعلل ذلك بأنهما اللفظان اللَّذَانِ وَرَدَ بِهِمَا نَصُّ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } (الأحزاب: 37)، وَقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (النساء: 22).

    الحال الثانية

    أن يكون الإيجاب والقبول بلفظ غير هذين اللفظين: كأن يقول الولي: ملكتك ابنتي، أو وهبتك ابنتي، أو أعطيتك ابنتي ونحو ذلك من ألفاظ، وهنا اختلف الفقهاء في انعقاد الزواج بمثل هذه الألفاظ:

    المذهب الأول

    لَا يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ

    وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَالشَّافِعِية والحنابلة، لخبر مُسْلِمٍ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَ ّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُ مْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ»، قَال في مغني المحتاج: «وَ(كَلِمَةُ اللَّهِ) هِيَ التَّزْوِيجُ أَوْ الْإِنْكَاحُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا فَوَجَبَ الْوُقُوفُ مَعَهُمَا تَعَبُّدًا وَاحْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْزَعُ إلَى الْعِبَادَاتِ لِوُرُودِ النَّدْبِ فِيهِ، وَالْأَذْكَارُ فِي الْعِبَادَاتِ تُتَلَقَّى مِنْ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظَيْ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ» .

    لفظ الهبة في النكاح

    وَذهب ابن قدامة إلى أن لفظ الهبة في النكاح خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما في قَوْله -تعالى-: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (الأحزاب: 50). فَذَكَرَ ذَلِكَ خَالِصًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم .

    وعلل بأَنَّ غير لفظ الإنكاح أو التزويج غير صريح في الدلالة على إرادة عقد النكاح ويحتمل غيره فلم ينعقد به، وَأيضا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ، وَالْكِنَايَةُ إنَّمَا تُعْلَمُ بِالنِّيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ الشَّهَادَةُ عَلَى النِّيَّةِ، لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهَا، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ، وَبِهَذَا فَارَقَ بَقِيَّةَ الْعُقُودِ وَالطَّلَاقَ.

    وذكر القرطبي أن أصحاب الشافعي استدلوا بقول الرجل الصالح لموسى -عليه السلام- في الآية:{إني أريد أن أنكحك} على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح، ورد عليهم بأنه لا حجة لهم في الآية؛ لأنه شرع من قبلنا، وهم لا يرونه حجة في شيء في المشهور عندهم.

    وقال ابن العربي في الرد عليهم:» هذه الآية فيها أن النكاح بلفظ الإنكاح وقع، وامتناعه بغير لفظ النكاح لا يؤخذ من هذه الآية ولا يقتضيه بظاهرها ولا ينظر منها، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال في الحديث:»قد ملكتكها بما معك من القرآن» وروي:»أمكناكها بما معك من القرآن» وكل منهما في البخاري، وهذا نص».

    وأما دعوى الخصوصية فالجواب أن الذي خص به النبي - صلى الله عليه وسلم - خلو النكاح من العوض لا النكاح بلفظ الهبة.

    المذهب الثاني

    يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ ما دام يقصد عقد النكاح الشرعي

    وَبه قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَدَاوُد والحنفية والمالكية، قال القرطبي:» وقال علماؤنا أي المالكية في المشهور: ينعقد النكاح بكل لفظ، وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد».

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:»إنَّ أصَحَّ قولَيِ العلماء أنَّه (أي: النكاح) ينعقِدُ بكلِّ لَفظٍ دَلَّ عليه، لا يختَصُّ بلفظِ الإنكاحِ والتزويجِ، وهذا مذهَبُ جمهورِ العلماءِ، كأبي حنيفة، ومالك، وهو أحدُ القولينِ في مذهبِ أحمدَ». ومما استدلوا به:

    1- أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - زَوَّجَ رَجُلًا امْرَأَةً، وقَالَ:» قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وهو ظاهر الدلالة على المقصود حيث عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد النكاح بلفظ التمليك وهو غير لفظ الإنكاح والتزويج مما يدل على جواز ذلك.

    2- وَلِأَنَّهُ أي التزويج بالهبة لَفْظٌ يَنْعَقِدُ بِهِ تَزْوِيجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كما دلت عليه الآية المتقدمة، فَانْعَقَدَ بِهِ نِكَاحُ أُمَّتِهِ، كَلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ.


    3- واستدل ابن القيم بأن ألفاظ العقود ليست توقيفية كألفاظ بعض العبادات، فقال:»كذلك عقدُ النِّكاح، وليس ذلك من العباداتِ التي تعبَّدَنا الشارعُ فيها بألفاظ لا يقومُ غيرُها مقامَها، كالأذانِ، وقراءة الفاتحةِ في الصلاة، وألفاظِ التشهد، وتكبيرة الإحرام، وغيرها، بل هذه العقودُ تقع من البَرِّ والفاجر، والمسلِم والكافِرِ، ولم يتعبَّدْنا الشَّارعُ فيها بألفاظٍ معينة، فلا فرقَ أصلًا بين لفظِ الإنكاح والتزويج وبين كلِّ لفظٍ يدُلُّ على معناها».

    وتمسك الشيخ ابن عثيمين بالإطلاق الوارد في النصوص الشرعية كقوله -تعالى-: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}(النساء:3) قال الشيخ: «فأطلق النكاح، وعلى هذا فكل ما سمي نكاحا عرفا فهو نكاح، ولم يقل: فانكحوا ما طاب لكم من النساء بلفظ الإنكاح أو التزويج»، وضرب مثلا لذلك بالبيع في قوله -تعالى-: {وأحل الله البيع}(البقرة:275) فهو مطلق، وهم يجيزون البيع بكل لفظ دل عليه عرفا وبالمعاطاة ولم يقيدوا ذلك بلفظ البيع كما جاء بالآية الكريمة، فكذلك النكاح.

    واستدل أيضا بالأصول المستقرة فقال: «ليس هناك دليلٌ، لا في القرآنِ، ولا في السُّنَّة أنَّه لا يصِحُّ النِّكاح إلا بهذا اللفظ» وقرر القاعدة الكلية وهي: أنَّ جميع العقود تنعَقِدُ بما دلَّ عليها عُرفًا، سواءٌ كانت باللفظ الوارد أو بغيرِ اللفظ الوارد، وسواءٌ كان ذلك في النِّكاحِ أو في غير النِّكاح، هذا هو القَولُ الصحيحُ».


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #70
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (70)
    - بعض الأحكام المستفادة من قصة لوط عليه السلام
    - اختلاف الفقهاء في

    د.وليد خالد الربيع

    تقدم في المقالة السابقة ذكر اختلاف الفقهاء في حكم صناعة التماثيل الكاملة لذوات الأرواح، وترجح القول بالحرمة، ويستثنى من ذلك لعب الأطفال فقط، وهو مذهب عامة الفقهاء، وقد اختلف الفقهاء في علة منع التصوير، على مذاهب لخصها د. محمد واصل في رسالته الجامعية (أحكام التصوير في الفقه الإسلامي) نذكرها في هذه المقالة.
    المذهب الأول
    العلة هي المضاهاة لخلق الله -تعالى-، وتشبيه فعل المخلوق بفعل الخالق، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله».
    المذهب الثاني
    العلة هي كون التصوير وسيلة إلى الغلو وعبادة غير الله، وذلك لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسرا، قال: «هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصابا وسموهم بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت».أخرجه البخاري، ولقوله - صلى الله عليه وسلم-: «إن أولئك كانوا إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا تلك الصور» متفق عليهقال الخطابي: «إنما عظمت عقوبة المصور؛ لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل».
    المذهب الثالث
    العلة هي المنع من دخول الملائكة، لقوله - صلى الله عليه وسلم-: «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل أو صورة»، والامتناع هنا بسبب الصور المحرمة التي يحرم اقتناؤها، بخلاف الصور الممتهنة أو الضرورية، لأن مثل هذه الصور وجدت في بيته - صلى الله عليه وسلم - كما قالت عائشة لما قطعت الستر وجعلته وسادتين توطآن قالت: «فقد رأيته متكئا على إحداهما، وفيها صورة».
    المذهب الرابع
    العلة هي التشبه بفعل المشركين الذين يصنعون الصور والتماثيل ويعبدونها من دون الله -تعالى-، ولو لم يقصد المصور ذلك، ولو لم تعبد الصور التي صورها؛ إذ يكفي أن الحال شبيهة بالحال، كما نهينا عن الصلاة في أوقات النهي؛ لأن الكفار يسجدون للشمس حينئذ؛ فنهينا عن الصلاة ولو لم نقصد ذلك؛ لما تجره المشابهة إلى الموافقة.
    الحالة الثانية: صناعة التماثيل الناقصة أو المشوهة
    ذهب عامة الفقهاء إلى جواز صناعة تماثيل ذوات الأرواح إذا كانت مقطوعة الرأس قطعا كاملا يزيل الرأس عن الجسد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم-: «الصورة الرأس، فإذا قطع فلا صورة»، وقول جبريل -عليه السلام- للنبي - صلى الله عليه وسلم-: «فمر برأس التمثال فيقطع فيصير كهيئة الشجرة».واختلفوا في حكم صناعة التماثيل إذا كان الرأس باقيا، وكانت الصورة ناقصة عضوا مما لا تبقى الحياة بفقده على مذهبين:
    المذهب الأول
    يحرم مطلقا ما دام الرأس باقيا، ودليلهم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الصورة إذا قطع رأسها كان باقيها كهيئة الشجرة، مما يدل على أن المسوغ لبقائها هو خروجها عن شكل ذوات الأرواح ومشابهتها للجمادات، والصورة إذا قطع أسفلها فقط لا تكون كذلك لبقاء الرأس فيها.
    المذهب الثاني
    تباح الصورة لو قطع منها أي عضو لا يمكن بقاء الحياة مع فقده، ودليلهم: قياس بقية الأعضاء على الرأس بجامع أن الحياة لا تبقى مع فقد كل منها. ويجاب: بأن الرأس فيه الوجه وهو أشرف الأعضاء ومجمع المحاسن، وهو أعظم فارق بين الحي والجماد، وبطمسه تذهب بهجة الصورة، فغير الرأس لا يساويه، وقياس غيره عليه قياس مع الفارق.
    وبهذا يظهر رجحان المذهب الأول لقوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة، ولاسيما وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصورة الرأس».
    الحالة الثالثة: صناعة الصور المسطحة مما يوطأ ويمتهن كالسجاد والفرش
    اختلف الفقهاء في هذه المسألة على مذهبين:
    المذهب الأول: التحريم مطلقا
    ودليلهم ما يلي:1-عموم الأحاديث الدالة على وعيد المصورين.2-عن جابر - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصورة في البيت، ونهى أن يصنع ذلك (أخرجه أحمد)، والإطلاق صريح ولم يرد ما يقيد ذلك بنية المضاهاة أو نية العبادة أو التعظيم.
    المذهب الثاني: يجوز ذلك وهو خلاف الأولى.
    ودليلهم ما يلي:1- حديث الشيخين عن بسر بن سعيد حدثه أن زيد بن خالد الجهني حدثه ومع بسر عبيد الله الخولاني أن أبا طلحة حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة»، قال بسر: فمرض زيد بن خالد، فعدناه فإذا نحن في بيته بستر فيه تصاوير، فقلت لعبيد الله الخولاني: ألم يحدنا في التصاوير؟ قال: إنه قال: «إلا رقما في ثوب» ألم تسمعه؟ قلت: لا، قال: بلى قد ذكر ذلك».فهذا الحديث مخصص للنصوص العامة في النهي عن التصوير.ويجاب: بأنه يحتمل أن المراد بالاستثناء ما كانت الصور فيه من غير ذوات الأرواح، أو أن الجواز كان قبل النهي عن التصوير. وهناك فرق بين الصناعة والاستعمال، فيحرم التصوير ويباح الاستعمال إذا كان مهانا، قال العلامة ابن باز: «الصورة التي تكون في البسط ونحوها فيداس ويمتهن كالوسائد فهذا معفو عنه؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عفا عنه، والمقصود العفو عن استعماله أما التصوير فلا يجوز».المسألة الرابعة: ما حكم اقتناء الصور؟ اقتناء الصور على أنواع:
    النوع الأول: أن تكون الصورة مجسمة
    أي ذات جسم فاقتناؤها حرام، وقد نقل ابن العربي الإجماع عليه، وقال: هذا الإجماع محله في غير لعب البنات. قال النووي: «وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقا على حائط أو ثوبا ملبوسا أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام، وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام». قال: «ولا فرق في هذا كله بين ماله ظل وما لا ظل له، هذا تلخيص مذهبنا في المسألة وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم».
    النوع الثاني: أن تكون الصورة غير مجسمة
    بأن تكون رقمًا على شيء، فهذه أقسام:
    1- أن تكون معلقة على سبيل التعظيم، فهذا حرام؛ لما فيه من الغلو بالمخلوق. 2- أن تكون معلقة على سبيل الذكرى، فهذه محرمة أيضا لحديث البخاري عن أبي طلحة قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة».
    3- أن تكون معلقة على سبيل التجميل والزينة، فهذه محرمة أيضا لحديث عائشة قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هتكه وقال: «أشد الناس عذبا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله» قالت: فجعلته وسادة أو وسادتين. 4- أن تكون ممتهنة كالصورة التي تكون في البساط والوسادة، فنقل النووي عن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين جوازها. 5- أن تكون مما تعم به البلوى ويشق التحرز منه كالصور المنقوشة على النقود وغيرها، فالذي يظهر أن هذا لا حرج فيه.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #71
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (71)
    - بعض الأحكام المستفادة من قصة داود وسليمان -عليهما السلام
    - حكم صلاة الضحى


    قال -تعالى-: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} (سورة ص: 17-18)، قال الشيخ ابن سعدي: «لما أمر اللّه رسوله بالصبر على قومه، أمره أن يستعين على الصبر بالعبادة للّه وحده، ويتذكر حال العابدين، ومن أعظم العابدين، نبي اللّه داود عليه الصلاة والسلام {ذَا الْأَيْدِ} أي: القوة العظيمة على عبادة اللّه -تعالى-، في بدنه وقلبه {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي: رجَّاع إلى اللّه في جميع الأمور بالإنابة إليه. ومن شدة إنابته لربه وعبادته، أن سخر اللّه الجبال معه، تسبح معه بحمد ربها {بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} أول النهار وآخره»، فمن المسائل المستفادة من الآية الكريمة (حكم صلاة الضحى)
    قال ابن العربي في قوله -تعالى-: (العشيّ والإشراق): «والأصح ها هنا أنها صلاة الضحى والعصر».
    تعريف صلاة الضحى
    الضحى يطلق على الوقت ما بين ارتفاع الشمس إلى زوالها، وصلاة الضحى: الصلاة التي تؤدى في هذا الوقت تطوعا. فعن عبد الله بن الحارث: «أن ابن عباس كان لا يصلي الضحى. قال: فأدخلته على أم هانئ، فقلت: أخبري هذا بما أخبرتني به فقالت أم هانئ: دخل عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح في بيتي، فأمر بماء، فصب في قصعة، ثم أمر بثوب، فأخذ بيني وبينه، فاغتسل، ثم رش ناحية البيت، فصلى ثمان ركعات، وذلك من الضحى، قيامهن وركوعهن وسجودهن وجلوسهن سواء، قريب بعضهن من بعض. فخرج ابن عباس وهو يقول: لقد قرأت ما بين اللوحين، ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن: {يسبحن بالعشي والإشراق}، وكنت أقول: أين صلاة الإشراق؟ ثم قال بعد: هن صلاة الإشراق «. أخرجه الطبري في تفسيره. والإشراق: طلوع الشمس، وقد ذهب عامة العلماء إلى أن الإشراق والضحى صلاة واحدة، خلافا للغزالي الذي ذهب في الإحياء إلى إنَّ صلاة الإشراق غير الضحى فهي صلاة ركعتين عند ارتفاعِ الشمس. ويؤيد الأول حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى صلاة الصبح في جماعة، ثم ثبت فيه حتى يسبح لله سبحة الضحى؛ كان له كأجر حاج ومعتمر تاماً حجه وعمرته «. أخرجه الطبراني وحسنه الألباني. ويوضحه رواية: «ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم قام فصلى ركعتين» الحديث أخرجه الطبراني. وصححه الألباني، فظاهر الحديثين أن صلاة الإشراق هي صلاة الضحى.
    حكم صلاة الضحى
    جاء بعض الآثار عن بعض الصحابة ظاهرها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل الضحى، مما قد يفهم منه أنها غير مشروعة، فقد أخرج الشيخان عَنْ مُوَرِّقٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَر: أَتُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ: لاَ إِخَالُهُ. (أَيْ لَا أَظُنهُ). وأخرج البخاري عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ الضُّحَى فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صلَاتهم فَقَالَ: بِدعَة. وعن عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا» . متفق عليه، وأخرج مسلم عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعَائِشَةَ: هل كان النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الضُّحَى؟ قالت: «لا، إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ»، وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ رَأَى نَاسًا يُصَلُّونَ الضُّحَى فَقَالَ: مَا صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا عَامَّةُ أَصْحَابِهِ.
    قول ابن حجر
    أجاب ابن حجر عن هذا فقال: «وَفِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ فِي أَحَادِيث ابن عُمَرَ هَذِهِ مَا يَدْفَعُ مَشْرُوعِيَّةَ صَلَاةِ الضُّحَى؛ لِأَنَّ نَفْيَهُ مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَتِهِ لَا عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ فِي نَفْسِ الْأَمْر،ِ أَوِ الَّذِي نَفَاهُ صِفَةٌ مَخْصُوصَةٌ. قَالَ عِيَاضٌ وَغَيره: إِنَّمَا أنكر ابن عُمَرَ مُلَازَمَتَهَا وَإِظْهَارَهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَصَلَاتَهَا جَمَاعَةً، لَا أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابن أبي شيبَة عَن ابن مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَهَا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَفِي بُيُوتِكُمْ».
    أثر عائشة -رضي الله عنها
    وأما الأثر عن عائشة فأجاب عنه النووي بقوله: «إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّيهَا بَعْضَ الْأَوْقَاتِ لِفَضْلِهَا وَيَتْرُكُهَا فِي بَعْضِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ كَمَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ، وَيُتَأَوَّلُ قَوْلُهَا: «مَا كَانَ يُصَلِّيهَا إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ» عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ مَا رَأَيْتُهُ، كَمَا قَالَتْ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى» وَسَبَبُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَا كَانَ يَكُونُ عِنْدَ عَائِشَةَ فِي وَقْتِ الضُّحَى إِلَّا فِي نَادِرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُسَافِرًا وَقَدْ يَكُونُ حَاضِرًا وَلَكِنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ نِسَائِهِ فَإِنَّمَا كَانَ لَهَا يَوْمٌ مِنْ تِسْعَةٍ، فَيَصِحُّ قَوْلُهَا: «مَا رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهَا» وَتَكُونُ قَدْ عَلِمَتْ بِخَبَرِهِ أَوْ خَبَرِ غَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّاهَا، أَوْ يُقَالُ: قَوْلُهَا: «مَا كَانَ يُصَلِّيهَا» أَيْ: مَا يُدَاوِمُ عَلَيْهَا فَيَكُونُ نَفْيًا لِلْمُدَاوَمَةِ لَا لِأَصْلِهَا».
    صلاة الضحى سنة مؤكدة
    وذهب جمهور الفقهاء إلى أن صلاة الضحى سنة مؤكدة لما جاء فيها من أحاديث كثيرة تحث على فعلها والمحافظة عليها، منها: عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة؛ فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى». أخرجه مسلم قال النووي: «وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ فَضْلِ الضُّحَى وَكَبِيرِ مَوْقِعِهَا وَأَنَّهَا تَصِحُّ رَكْعَتَيْن». وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أنه قال: «أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت؛ صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر». قال ابن حجر: «وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَأَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ، وَعَدَمُ مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فِعْلِهَا لَا يُنَافِي اسْتِحْبَابَهَا ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِدَلَالَةِ الْقَوْلِ». وأفضل وقت لصلاة الضحى ما ذكره زيد بن أرقم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ» أخرجه مسلم قال النووي: «أَيْ: حِينَ يَحْتَرِقُ أَخْفَافُ الْفِصَالِ وَهِيَ الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِ الْإِبِلِ جَمْعُ فَصِيلٍ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ الرَّمْلِ، وَالْأَوَّابُ: الْمُطِيعُ، وَفِيهِ فَضِيلَةُ الصَّلَاةِ هَذَا الْوَقْتَ قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ أَفْضَلُ وَقْتِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَإِنْ كَانَتْ تَجُوزُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ».
    عدد ركعات صلاة الضحى
    لا خلاف أن أقلها ركعتان لقوله: «ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى». ويجوز أن تصلى أربع ركعات؛ للحديث القدسي قال -تعالى-: «يا ابن آدم! لا تعجزني من أربع ركعات من أول النهار؛ أكفك آخره». أخرجه الترمذي وصححه الألباني
    ويمكن أن تصلى ست ركعات لحديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الضحى ست ركعات «. أخرجه الترمذي في «الشمائل وصححه الألبانيويدل حديث أم هانئ المتقدم على جواز صلاة ثمان ركعات. ويدل حديث أبي الدرداء على أنها اثنتا عشرة ركعة فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى الضحى ركعتين؛ لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعاً؛ كتب من العابدين، ومن صلى ستاً؛ كفي ذلك اليوم، ومن صلى ثمانياً كتبه الله من القانتين، ومن صلى ثنتي عشرة ركعة، بنى الله له بيتاً في الجنة، وما من يوم ولا ليلة إلا لله من يمن به على عباده صدقة، وما من الله على أحد من عباده أفضل من أن يلهمه ذكره». أخرجه الطبراني.وحسنه الألباني. وذهب الطبري وابن العربي وابن عثيمين إلى أنه لا حد لأكثرها لحديث عائشة عند مسلم: «كان يصلي الضحى أربعا، ويزيد ما شاء الله»، قال ابن حجر: «وهذا الإطلاق قد يحمل على التقييد فيؤكد أن أكثرها اثنتا عشرة ركعة». د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #72
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (72)
    - بعض الأحكام المستفادة من قصة داود وسليمان -عليهما السلام
    - جواز



    قال -تعالى-:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (ص:21-24)
    تناول الشيخ ابن سعدي بالبيان مناسبة هذه الآيات لما تقدم من فضائل داود -عليه السلام- فقال: «لما ذكر -تعالى- أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس، وكان معروفا بذلك مقصودا، ذكر -تعالى- نبأ خصمين اختصما عنده في قضية جعلهما اللّه فتنة لداود، وموعظة لخلل ارتكبه، فتاب اللّه عليه، وغفر له، وقيض له هذه القضية».
    وقد أطال بعض المفسرين في ذكر هذه الخصومة وما فيها من اختلاف المفسرين، والأظهر في هذا عدم الخوض في التفاصيل؛ حيث لا دليل نقلي صحيح عليها، قال ابن كثير: «قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ويزيد - وإن كان من الصالحين - لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة؛ فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله -عز وجل-؛ فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضا».
    وقال الشنقيطي: «اعلم أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة مما لا يليق بمنصب داود عليه وعلى نبيينا الصلاة والسلام، كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به، ولا معوّل عليه، وما جاء منه مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصح منه شيء».
    والآيات الكريمة فيها جملة من الفوائد الفقهية منها:
    - جواز إطلاق لفظ (الأخ) على غير الأخ النسبي:

    قال ابن مسعود في قوله -تعالى-: {إن هذا أخي} أي: على ديني، وعلل الشيخ ابن سعدي استعمال هذا اللفظ فقال: «نص على الأخوة في الدين أو النسب أو الصداقة، لاقتضائها عدم البغي، وأن بغيه الصادر منه أعظم من غيره».
    ومعلوم أن الله -تعالى- قطع الأخوة الإيمانية بين المسلم وغير المسلم وقصرها على المسلمين فقال -سبحانه-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)
    قال القرطبي: «{إخوة} أي: في الدين والحرمة لا في النسب؛ ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب؛ فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم».
    وقد جاءت آيات تدل في ظاهرها على جواز إطلاق لفظ (الأخ) على غير المسلم إذا كان من جهة النسب أو الانتماء إلى ذات القبيلة كما قال -تعالى-: {وإلى عاد أخاهم هودا} وقال: {وإلى ثمود أخاهم صالحا} وقال: {وإلى مدين أخاهم شعيبا}.
    قال القرطبي مبينا وجه جواز الإطلاق بأنه مقيد بسبب غير الدين: «قال ابن عباس: أي: ابن أبيهم. وقيل: أخاهم من القبيلة. وقيل: أي: بشرا من بني أبيهم آدم».
    وقال أيضا في تفسير قوله -تعالى-: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (الشعراء: 106): «أي: ابن أبيهم، وهي أخوة نسب لا أخوة دين وقيل: هي أخوة المجانسة».
    وقال ابن حجر عند قول البخاري:( باب قول الله -تعالى-: وإلى عاد أخاهم هودا): «وسماه أخا لكونه من قبيلتهم لا من جهة أخوة الدين».
    - جوجواز الشركة أخذا من قوله -تعالى-: {وإن كثيرا من الخلطاء}:

    الشركة في اللغة: الاختلاط.
    وفي الاصطلاح: هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف
    فالاستحقاق: بمعنى أن يكون شيء بين شخصين فأكثر اشتركا فيه باستحقاق، وهذه تسمى شركة الأملاك. كاشتراك الورثة في تملك التركة كما قال -سبحانه-: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (النساء:12)، ومثله اشتراك الموصى لهم في تملك الموصى به، بغير كسب منهم ولا عقد.
    وأما الاجتماع في تصرف: فهو شركة العقد، وهي أن يتعاقد شخصان في شيء يشتركان فيه.
    قال ابن حجر معرفا الشركة بأنها: «ما يحدث بالاختيار بين اثنين فصاعدا من الاختلاط لتحصيل الربح، وقد تحصل بغير قصد كالإرث».
    والشركة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع:

    فمن الكتاب قوله -تعالى-: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} قال طاووس وعطاء: «لا يكون الخلطاء إلا الشركاء»، وقال الطبري: «يقول: وإن كثيرا من الشركاء ليتعدَّى بعضهم على بعض».
    قال الشيخ ابن عثيمين مبينا دليلا آخر على مشروعية الشركة: «قال الله -تعالى-: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} (الكهف:19) فأضاف الوَرِق إليهم جميعاً، وهذا لا شك أنه اشتراك في تصرف؛ لأن الظاهر أنهم ليسوا ورثة ورثوا هذه الدراهم».
    وقال -تعالى-: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} (الروم:28) قال القرطبي: «قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض».
    ومن السنة المطهرة حديث أبي هريرة قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله -تعالى-: أنا ثالث الشريكين، ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما» رواه أبو داود.
    جواز أنواع الشركات كلها

    قال الشيخ ابن سعدي: «يدل هذا الحديث بعمومه على جواز أنواع الشركات كلها: شركة العنان، والأبدان، والوجوه، والمضاربة، والمفاوضة وغيرها من أنواع الشركات التي يتفق عليها المتشاركان، ومن منع شيئاً منها فعليه الدليل الدال على المنع، وإلا فالأصل الجواز، لهذا الحديث، وشموله، ولأن الأصل الجواز في كل المعاملات».
    وأخرج أحمد عن أبى المنهال: «أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه وما كان بنسيئة فردوه «ورواه البخاري بلفظ قريب منه.
    قال ابن قدامة: «وأجمع المسلمون على جواز الشركة في الجملة».


    د.وليد خالد الربيع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #73
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية


    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (73)
    - الفوائد الفقهية المستفادة من قوله -تعالى-: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأ




    لا نزال مع الفوائد الفقهية المستفادة من قوله -تعالى-:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (سورة ص:21) والآيات التي بعدها، وهي: جواز الشكوى من الخصم عند المفتي أو القاضي، والمساواة بين الخصوم في مجلس القضاء.
    1- جواز الشكوى من الخصم عند المفتي أو القاضي
    الأصل حفظ اللسان عن قول السوء إلا في أضيق الحدود وللحاجة؛ لقوله -سبحانه-: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ} (سورة النساء:148)، قال ابن عباس: «يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: (إلا من ظلم) وإن صبر فهو خير له».
    قال الشيخ ابن سعدي: «يخبر -تعالى- أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، أي: يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه، ويشمل ذلك الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك؛ فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله.
    قوله -تعالى-: {إِلَّا مَن ظُلِمَ}
    وقوله -تعالى-: {إِلَّا مَن ظُلِمَ} أي: فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ويتشكى منه، ويجهر بالسوء لمن جهر له به، من غير أن يكذب عليه ولا يزيد على مظلمته، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه، ومع ذلك فعفوه وعـدم مقابلته أولى، كما قـال -تعالى-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (سورةالشورى:40). فالآية تدل على جواز الشكوى من الخصم والتصريح بالمظلمة، قال الشيخ ابن سعدي -في بيان فوائد الآية-: «ومنها جواز قول المظلوم لمن ظلمه: «أنت ظلمتني» أو «يا ظالم» أو «باغ علي» ونحو ذلك لقولهما: {خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ}».
    وفي الحديث عن الشريد بن سويد قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليُّ الواجدِ يحلُّ عرضَهُ وعقوبتَهُ» قالَ ابنُ المبارَكِ: «يحلُّ عرضَهُ: يغلَّظُ لَهُ، وعقوبتَهُ: يحبسُ لَهُ». أخرجه أبو داود وحسنه الألباني.
    وذكر البخاري عن سفيان أنه شرح الحديث فقال: «عرضه: يقول: مطلتني، وعقوبته: الحبس». وقد بيـّن النووي مواضع تجوز فيها الغيبة، وذكر أدلة جواز ذلك فقال: «اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو ستة أسباب، الأول منها: التظلم: فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول: ظلمني فلان بكذا».
    2- المساواة بين الخصوم في مجلس القضاء
    من أصول القضاء في الفقه الإسلامي التسوية بين الخصمين، ووجوب العدل بينهما في كل ما يمكن التسوية فيه، كالنظر ولين الكلام والبشاشة والاهتمام ومزيد الإصغاء، ولا يكلم أحدهما بلغة لا يفهمها الآخر، وغير ذلك من أوجه المساواة.
    والتسوية ضرورية لحسن التقاضي؛ لأنها تبعث على الطمأنينة، وأن يقدم كل من الخصمين ما عنده دون خوف؛ مما يساعد على إظهار الحق، ولهذا وصى عمر أبا موسى -رضي الله عنهما- بقوله: «آس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك».
    وقال ابن القيم: «نهى عن رفع أحد الخصمين عن الآخر، وعن الإقبال عليه، وعن مشاورته، والقيام له دون خصمه، لئلا يكون ذريعة إلى انكسار قلب الآخر، وضعفه عن القيام بحجته، وثقل لسانه بها».
    من أوجه العدل بين الخصوم
    ومن أوجه العدل بين الخصوم منح كل طرف فرصة ليدلي بحجته، والرد على حجة خصمه، ولو طلب وقتا لإعداد ذلك فيجاب طلبه، مع مراعاة المدة المناسبة والتنبه لحيل الخصوم للتهرب من القضاء؛ لقول عمر - رضي الله عنه -: «ومن ادعى حقا غائبا فاضرب له أمدا ينتهي إليه، فإن بينه أعطيته بحقه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى».
    وفي الآية الكريمة يظهر أن داود -عليه السلام- حكم للمدعي قبل أن يسمع من الطرف الآخر، قال القرطبي: «قوله -تعالى-: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} قال النحاس: فيقال إن هذه كانت خطيئة داود -عليه السلام-؛ لأنه قال: «لقد ظلمك» من غير تثبت ببينة، ولا إقرار من الخصم، هل كان هذا كذا أو لم يكن».
    محاولة توجيه الآية بما يتفق مع قواعد العدل
    وقد حاول بعض العلماء توجيه الآية بما يتفق مع قواعد العدل، فقالوا: «وإنما تقدير الكلام: أن أحد الخصمين ادعى والآخر سلم في الدعوى، فوقعت بعد ذلك الفتوى. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر»، وقيل: إن داود لم يقض للآخر حتى اعترف صاحبه بذلك. وقيل: تقديره: لقد ظلمك إن كان كذلك.
    تأويلات لا دليل عليها
    لكن هذه التأويلات لا دليل عليها، ونقل القرطبي عن الحليمي أنه حمل الآية على ظاهرها فقال: «أخبر الله -عز وجل- عن داود -عليه السلام- أنه سمع قول المتظلم من الخصمين، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر، إنما حكى أنه ظلمه، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول، ودعاه ذلك إلى ألا يسأل الخصم، فقال له مستعجلا: لقد ظلمك مع إمكان أنه لو سأله لكان يقول: كانت لي مائة نعجة ولا شيء لهذا، فسرق مني هذه النعجة، فلما وجدتها عنده قلت له ارددها، وما قلت له أكفلنيها، وعلم أني مرافعه إليك، فجرني قبل أن أجره، وجاءك متظلما من قبل أن أحضره، لتظن أنه هو المحق وأني أنا الظالم. ولما تكلم داود بما حملته العجلة عليه، علم أن الله -عز وجل- خلاه ونفسه في ذلك الوقت، وهو الفتنة التي ذكرناها، وأن ذلك لم يكن إلا عن تقصير منه، فاستغفر ربه وخر راكعا لله -تعالى- شكرا على أن عصمه، بأن اقتصر على تظليم المشكو، ولم يزده على ذلك شيئا من انتهار أو ضرب أو غيرهما، مما يليق بمن تصور في القلب أنه ظالم، فغفر الله له ثم أقبل عليه يعاتبه».
    من فوائد القصة
    قال الشيخ ابن عثيمين: «من الفوائد في القصة: أن داود -عليه السلام- حكم بينهم دون أن يسمع دفاع الخصم الآخر، ولعل داود -عليه السلام- أراد السرعة في إنهاء القضية ليتفرغ لما احتجب له عن الناس من عبادة الله».
    قال -رحمه الله-: «ومن فوائدها أن الحاكم لا يحكم حتى يستوعب حجج الخصمين لقوله:{وظن داود أنما فتناه}».
    ومما يجب على القاضي، ألا يحكم بين خصمين حتى يسمع كلامهما جميعاً، فعن علي بن أبي طالب قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول، حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي»، قال علي: فما زلت قاضياً بعد». أخرجه الترمذي وحسنه الألباني.



    د.وليد خالد الربيع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #74
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (74)
    - الفوائد الفقهية المستفادة من قوله -تعالى-: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَن




    لا نزال مع قوله -تعالى-: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (سورة ص:24)، قال الشيخ ابن سعدي: «{وَظَنَّ دَاوُدُ} حين حكم بينهما {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أي: اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} لما صدر منه، {وَخَرَّ رَاكِعًا} أي: ساجدا {وَأَنَابَ} للّه -تعالى- بالتوبة النصوح والعبادة».
    والمراد بالركوع المذكور في الآية (السجود)، قال القرطبي: «أي خر ساجدا، وقد يعبر عن السجود بالركوع.
    قال الشاعر :
    فخر على وجهه راكعا
    وتاب إلى الله من كل ذنب
    قال ابن العربي: «لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هاهنا السجود، فإن السجود هو الميل، والركوع هو الانحناء، وأحدهما يدخل على الآخر، ولكنه قد يختص كل واحد بهيئته، ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر، فسمي السجود ركوعا».
    سجود التلاوة
    وسجود التلاوة: هو السجود الذي يؤدى عند قراءة آية من آيات السجدة.
    واتفق الفقهاء على أن سجود التلاوة مشروع، وذهب الجمهور إلى أن سجود التلاوة سنة مؤكدة، ودليلهم:
    1- عن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والنجم) فلم يسجد فيها متفق عليه، فلم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أمره بالسجود، فدل على عدم الوجوب.
    2- روى البخاري عن عمر أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد، فسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: «يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه»، ولم يسجد عمر - رضي الله عنه - وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكروا عليه.
    مواضع السجود في القرآن الكريم
    وأما مواضع السجود في القرآن الكريم، فقد اتفق الفقهاء على عشرة مواضع يشرع فيها سجود التلاوة، وهي في السور الآتية : (الأعراف الرعد النحل الإسراء مريم الحج في قوله -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} النمل الفرقان السجدة فصلت).
    واختلفوا في مواضع:
    الموضع الأول: سجدة سورة الحج الثانية
    وهي قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} على مذهبين:
    المذهب الأول: ليست من عزائم السجود، وهو قول أبي حنيفة والمالكية، ودليلهم:
    أنه جمع فيها بين الركوع والسجود فلم تكن سجدة كقوله لمريم -عليها السلام-: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (سورة آل عمران:43)
    المذهب الثاني: هي من عزائم السجود، وهو قول الجمهور، ودليلهم: عن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان. أخرجه أبو داود وابن ماجه.
    وهو الأظهر لقوة دليله ولأنه قول جمع من الصحابة كعمر وعليّ وابن عمر قال ابن قدامة: «ولا نعرف لهم مخالفا في عصرهم»، وأما دليل المذهب الأول فيرد عليه أن ذكر الركوع مع السجود لا يقتضي ترك السجود كما ذكر البكاء مع السجود في قوله: {خروا سجدا وبكيا}.
    الموضع الثاني: سجدة سورة
    وقد اختلف الفقهاء في سجدة سورة هل هي من مواضع سجود التلاوة أم لا؟ على مذهبين:
    المذهب الأول: هي ليست من عزائم السجود، وهو قول الشافعية والحنابلة، ودليلهم: أنها سجدة شكر، وليست تلاوة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «سجدها داود توبة ونسجدها شكرا» أخرجه النسائي وصححه الألباني.
    المذهب الثاني: هي من عزائم السجود، وهو قول الحنفية والمالكية، ودليلهم: عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها. روَاهُ الْبُخَارِيُّ.
    قال الصنعاني: «أي: ليست مما ورد في السجود فيها أمر ولا تحريض ولا تخصيص ولا حث، وإنما ورد بصيغة الإخبار عن داود -عليه السلام- بأنه فعلها، وسجد نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيها اقتداء به لقوله -تعالى-: {فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ}(سورة الأنعام:90)».
    ونقل البخاري عن مجاهد قال: سألت ابن عباس: من أين سجدت؟ فقال: أوما تقرأ: {ومن ذريته داود وسليمان}؟ ( الأنعام : 84 ) إلى قوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} ( الأنعام : 90) فكان داود -عليه السلام- ممن أمر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي به فسجدها داود -عليه السلام- فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم ».
    وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزَّن الناس للسجود، فقال: «إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم» فنزل وسجد وسجدوا. وصححه الألباني
    وهو الأظهر لقوة دليله، ولأنه ثبت عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قرأ في الصلاة فسجد وسجد الناس معه وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، ولو لم يكن مشروعا لما جاز إدخالها في الصلاة.
    الموضع الثالث: سجدات المفصل
    سجدات المفصل، وهي آخر سورة النجم، وسورة الانشقاق، وسورة العلق، وقد اختلف الفقهاء فيها على مذهبين:
    المذهب الأول: هي من عزائم السجود، وهو قول الجمهور ودليلهم:
    1- عن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتان. أخرجه أبو داود وابن ماجه.
    2- عن أبي هريرة قال: «سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في (إذا السماء انشقت) و(اقرأ باسم ربك)» رواه مسلم.
    3-عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم فسجد بها، وما بقي أحد من القوم إلا سجد «متفق عليه
    المذهب الثاني: لا سجود في شيء من المفصل، وهو قول المالكية في المشهور ودليلهم:
    1- عن زيد قال: قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم فلم يسجد.
    2- عن أبي الدرداء قال: سجدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى عشرة سجدة ليس فيها من المفصل شيء. رواه ابن ماجه.
    والأول أظهر لقوة دليله أما حديث زيد فقد يكون تركه لعدم وجوبه لا لأنه ليس موضع سجود، قال أبو داود: “كان زيد الإمام فلم يسجد فيها». ومعلوم أن المستمع إنما يسجد إذا سجد من يقرأ القرآن. وقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها، أما حديث أبي الدرداء فهو ضعيف.


    د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #75
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (75)
    - الأحكام المستفادة من قصة داود وسليمان -عليهما السلام - الحكم بال






    قال -تعالى-: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب} (سورة ص:26)، تقدم في الآيات السابقة أن الله -تعالى- اختبر داود -عليه السلام- في تلك القضية ليتنبه لما صدر منه، وأنه -عليه السلام- خَرَّ ساجدا وَأَنَابَ للّه -تعالى- بالتوبة النصوح والعبادة، ثم أرشده -سبحانه- والمكلفين من بعده إلى أساس العدل وهو الحكم بالحق واجتناب الهوى وحظوظ النفس.
    قال ابن كثير:» هذه وصية من الله -عز وجل- لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده -تبارك وتعالى-، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيله، وقد توعد الله -تعالى- من ضل عن سبيله، وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد».
    الأمور التي يتحقق بها العدل
    وبيّن الشيخ ابن سعدي أن العدل يتحقق بأمور منها: العلم بالواجب، والعلم بالواقع، والقدرة على تنفيذ الحق.
    وقد يطرأ على ذهن شخص شبهة وهي: هل يمكن أن يحكم نبي بالهوى؟ والجواب كما قال الشنقيطي: «ومعلوم أن نبي الله داود لا يحكم بغير الحق، ولا يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله، ولكن الله -تعالى- يأمر أنبياءه -عليهم الصلاة والسلام- وينهاهم ليشرع لأممهم».
    وقال -أيضا مؤكدًا هذه القاعدة-: «من أصرح الأدلة القرآنية الدالة على أن النبي يخاطب بخطاب والمراد بذلك الخطاب غيره يقينا قوله -تعالى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} الآية (سورة الإسراء:23) ومن المعلوم أن أباه - صلى الله عليه وسلم - توفي قبل ولادته، وأن أمه ماتت وهو صغير. فتبين أن أمره -تعالى- لنبيه ونهيه له إنما يراد به التشريع على لسانه لأمته».
    شروط تولي القضاء
    وأبرز من يحكم بين الناس هم القضاة؛ لذا يشترط في القاضي شروط تضمن جدارته لهذا المنصب الخطير؛ فيشترط: الإسلام، والبلوغ والعقل، والحرية، والعدالة، والذكورة، والعلم، وسلامة الحواس؛ وذلك ليحصل له معرفة الحق الحكم به مع القدرة على تنفيذه؛ ولهذا قال عمر: «فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له».
    وقد أثار القرطبي مسألة فقهية أخذها من الآية الكريمة تتعلق بعلم القاضي فقال:» هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه؛ لأن الحكام لو مكنوا أن يحكموا بعلمهم لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليه ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به».
    نوعان من العلم
    تقدم أنه يشترط في القاضي نوعان من العلم: العلم بالأحكام الشرعية، والعلم بحقيقة الواقعة، وهو المراد هنا، وهو نوعان:
    الأول: القاضي يحكم بموجب علمه
    إذا علم القاضي بحقيقة الواقعة في مجلس القضاء من خلال الحجج القضائية كالبينات التي يقيمها المدعي، أو إقرار المدعى عليه، أو حلفه اليمين مع إنكاره، ونحو ذلك فإن القاضي يحكم بموجب علمه؛ لأن هذا علم مستند إلى أدلة وحجج معتبرة ليست من عنده، ولا يتهم في حكمه إذا استند إليها.
    الثاني: علم القاضي بغير حجج قضائية
    إذا علم القاضي بحقيقة الواقعة بغير الحجج القضائية، كما لو سمع شخصًا يطلق امرأته ثلاثا خارج مجلس القضاء، أو رأى القاضي شخصًا أتلف مال شخص خارج القضاء ثم رفعت الدعوى إليه فهل يحكم بالطلاق إذا طلبت الزوجة ذلك؟ ويحكم بالضمان على المتلف؟ استنادا إلى علمه فقط دون الحجج القضائية، هنا اختلف الفقهاء:
    المذهب الأول: يقضي القاضي بعلمه
    وهو مذهب الظاهرية والصاحبين والشافعية في الأظهر ورواية عن أحمد، ومما استدلوا به:
    1- قوله -تعالى-: {كونوا قوامين بالقسط}(سورة النساء:135)، وليس من القسط أن يترك الظالم على ظلمه لا يغيره وهو عالم بظلمه، وأن يعلم طلاق المرأة ويترك مطلقها يعاشرها.
    2- قوله - صلى الله عليه وسلم - لهند زوجة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه، فقضى لها بناء على علمه بشح أبي سفيان دون أن يطلب بينة أو إقراره بذلك.
    وأجيب عن هذا الاستدلال:
    1- بأن الآية في حق الشهود، فهم مأمورون بالقسط في الشهادة، ولو قلنا بالعموم فهي مخصوصة في حق القاضي؛ لأن الأدلة تلزمه القضاء بالحجج.
    2- أما قصة هند كانت إفتاء وليست قضاء؛ لأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد ولم يستدعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لسماع أقواله ومعلوم أنه لا يجوز الحكم على الغائب في البلد حتى يعلن.
    المذهب الثاني: لا يقضي بعلمه
    وهو مذهب المالكية والحنابلة والمتأخرين من الحنفية وقول للشافعية، ومما استدلوا به:
    1- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ» الحديث أخرجه البخاري، فدل على أنه يقضي بما يسمع لا بما يعلم.
    2- في قصة اختصام الأشعث بن قيس مع رجل في بئر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «شاهداك أو يمينه» متفق عليه، وفي رواية مسلم:» ليس لك إلا ذاك»، فحصر الحجة في البينة واليمين دون علم الحاكم.
    3- استدلوا بآثار عن الصحابة منها قول أبي بكر: «لو رأيت رجلا على حد من حدود الله لم أحده حتى يكون معي غيري» أخرجه البيهقي. أي: لم أعاقبه بعقوبة الحد حتى تقوم البينة عندي.
    وتداعى رجلان عند عمر فقال له أحدهما: أنت شاهدي. فقال عمر: «إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد»، وهو القول الأظهر سدا للذريعة أمام قضاة السوء من الحكم على البريء بغير حجة، ونقل الشوكاني عن الكرابيسي أنه قال: «لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة؛ إذ لا يؤمن على التقي أن تتطرق إليه التهمة» وقال: «ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه مطلقا أنه لو عمد إلى رجل مستور لم يعهد منه فجور قط أن يرجمه ويدعي أنه رآه يزني، أو يفرق بينه وبين زوجته ويزعم أنه سمعه يطلقها، فإن هذا الباب لو فتح لوجد كل قاض السبيل إلى قتل عدوه وتفسيقه والتفريق بينه وبين من يحب، ومن ثم قال الشافعي: لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه».
    قال ابن القيم: «ولقد كان سيد الحكام -صلوات الله وسلامه عليه- يعلم من المنافقين ما يبيح دماءهم وأموالهم، ويتحقق من ذلك، ولا يحكم فيهم بعلمه مع براءته عند الله وملائكته وعباده المؤمنين من كل تهمة».
    وقال ابن عثيمين:» لو فتح الحكم للقاضي بعلمه لفسدت أحوال الناس؛ لأنه ليس كل إنسان ثقة، فسدّ الباب هو الأولى، فإذا تحاكم إليّ خصمان وأنا أعلم أن الحق مع المدعي علم اليقين فماذا أعمل؟ أحول القضية إلى قاض آخر وأكون شاهدا».


    د.وليد خالد الربيع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #76
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (76)
    - بعض الأحكام المستفادة من قصة أيوب -عليه السلام - حكم تأديب الزوج


    قال الله -تعالى-: {وَخُـذْ بِيَدِكَ ضِغْـثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}(سورة ص:44)، قال ابن كثير: «يُذكِّر -تعالى- عبده ورسوله أيوب -عليه السلام-، وما كان ابتلاه -تعالى- به من الضر في جسده وماله وولده، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه، ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه، غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله ورسوله، فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة».

    قال ابن كثير مبينا سبب هذا التوجيه الإلهي لأيوب -عليه السلام-: «وَذَلِكَ أَنَّ أَيُّوب -عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- كَانَ قَدْ غَضِبَ عَلَى زَوْجَته وَوَجَدَ عَلَيْهَا فِي أَمْر فَعَلَتْهُ، قِيلَ: بَاعَتْ ضَفِيرَتهَا بِخُبْزٍ فَأَطْعَمَتْهُ إِيَّاهُ فَلَامَهَا عَلَى ذَلِكَ وَحَلَفَ إِنْ شَفَاهُ اللَّه -تعالى- لَيَضْرِبَنهَا مِائَة جَلْدَة، وَقِيلَ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَاب، فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- وَعَافَاهُ مَا كَانَ جَزَاؤُهَا مَعَ هَذِهِ الْخِدْمَة التَّامَّة وَالرَّحْمَة وَالشَّفَقَة وَالْإِحْسَان أَنْ تُقَابَلَ بِالضَّرْبِ، فَأَفْتَاهُ اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا وَهُوَ الشِّمْرَاخ فِيهِ مِائَة قَضِيب فَيَضْرِبهَا بِهِ ضَرْبَة وَاحِدَة وَقَدْ بَرَّتْ يَمِينه، وَخَرَجَ مِنْ حِنْثه وَوَفَّى بِنَذْرِهِ، وَهَذَا مِنْ الْفَرَج وَالْمَخْرَج لِمَنْ اِتَّقَى اللَّه -تعالى- وَأَنَابَ إِلَيْهِ».
    حكم ضرب الزوج لزوجته
    فمعنى قوله -تعالى-: {ضِغْـثًا}: قال اِبْن عَبَّاس: حُزْمَة. وعَنْه قَال: أُمِرَ أَنْ يَأْخُذ ضِغْثًا مِنْ رُطَبَة بِقَدْرِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَيَضْرِب بِهِ، وقَالَ عَطَاء: عِيدَانًا رُطَبَة، وقد تضمنت الآية الكريمة مسألة فقهية هي (حكم ضرب الزوج لزوجته): قال القرطبي: «تضمنت هذه الآية جواز ضرب الرجل امرأته تأديبا؛ وذلك لأن امرأة أيوب -عليه السلام- أخطأت فحلف ليضربنها مائة».
    أساس العلاقة الزوجية
    قال الجصاص: «في هذه الآية دلالة على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديبا، لولا ذلك لم يكن لأيوب ليحلف عليها ويضربها، ولما أمره الله -تعالى- بضربها بعد حلفه»، ومعلوم أن العلاقة الزوجية تقوم على المودة والرحمة والمحبة والاحترام، وقيام كل طرف بواجباته قبل المطالبة بحقوقه كما قال -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21).
    اتَّقوا اللهَ في النساءِ
    وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع موصيا بالنساء خيرا: «اتَّقوا اللهَ في النساءِ؛ فإنَّكم أخذتُموهنَّ بأمانةِ الله، واستحلَلْتُم فروجَهنَّ بكلمةِ الله، وإنَّ لكم عليهنَّ ألَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحًدا تكرهونَه، فإنْ فعَلْنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ مُبَرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رِزقُهنَّ وكِسوتُهنَّ بالمعروفِ» أخرجه مسلم.
    حقوق الزوجة المادية والمعنوية
    وأرشد - صلى الله عليه وسلم - إلى حقوق الزوجة المادية والمعنوية في النفقة الزوجية بالمعروف، وترك الإيذاء النفسي بالضرب والتقبيح، فلما سئل: يا رسولَ اللَّهِ نساؤنا ما نأتي منْهنَّ وما نذرُ؟ قالَ: «ائتِ حرثَكَ أنَّى شئتَ، وأطعِمْها إذا طعِمتَ، واكسُها إذا اكتسيتَ، ولا تقبِّحِ الوجْهَ ولا تضرِبْ». أخرجه أبو داود وصححه الألباني، وقال -تعالى- مبينا حق الزوج على زوجته بالقوامة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم} ثم أثنى -سبحانه- على الزوجات الصالحات بأنهن مطيعات لأزواجهن بالمعروف فقال -سبحانه-: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء:34)، قال ابن عباس: (قانتات): مطيعات لأزواجهن، و(حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ) قال السدي وغيره: أي: تحفظ زوجها في غيبته في نفسها، وماله.
    وعن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت» أخرجه ابن حبان وصححه الألباني. والأدلة كثيرة في بيان حقوق الزوجين وواجباتهما.
    سبل علاج سوء خلق الزوجة
    وبيّن القرآن الكريم أن بعض المؤمنات قد تتعالى على زوجها وتسوء أخلاقها معه فأرشد إلى سبل العلاج في قوله -تعالى-: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (النساء:34)، قال ابن عباس: «تلك المرأة تنشز وتستخف بحق زوجها ولا تطيع أمره».
    وقد اتفق الفقهاء على أن للزوج تأديب زوجته إذا نشزت، وهذا التأديب على الترتيب كما قال القرطبي: «أَمَرَ اللَّه أَنْ يَبْدَأ النِّسَاء بِالْمَوْعِظَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْهِجْرَانِ، فَإِنْ لَمْ يَنْجَعَا فَالضَّرْب، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصْلِحُهَا لَهُ وَيَحْمِلهَا عَلَى تَوْفِيَة حَقّه».
    قال ابن عباس مبينا الخطوة الأولى: «عظوهن بكتاب الله. قال: أمره الله إذا نشزت أن يعظها ويذكرها الله ويعظم حقه عليها».
    وقال عن الخطوة الثانية إذا لم تنفع الأولى: «الهجران أن يكون الرجل وامرأته على فراش واحد لا يجامعها».
    وقال عن الخطوة الثالثة: «تهجرها في المضجع فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح، ولا تكسر لها عظما».
    تجنب الضرب أفضل
    ومع أن الضرب وسيلة علاجية مشروعة إلا أن تجنبه أفضل قدر الإمكان، قال الشافعي: «الضرب مباح وتركه أفضل» قَالَ: قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَضْرِبُوا إِمَاء اللَّه» فَجَاءَ عُمَر إِلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ذَئِرَتْ النِّسَاء عَلَى أَزْوَاجهنَّ فَرَخَّصَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فِي ضَرْبهنَّ فَأَطَافَ بِآلِ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نِسَاء كَثِير يَشْتَكِينَ أَزْوَاجهنَّ فَقَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ أَطَافَ بِآلِ مُحَمَّد نِسَاء كَثِير يَشْتَكِينَ مِنْ أَزْوَاجهنَّ لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ». أخرجه أَبُو دَاوُد وحسنه الألباني.
    الضرب مقيد كما وكيفًا
    وقد ذكر الفقهاء أن هذا الضرب مقيد من حيث الكيفية والكمية:
    قال القرطبي: «فَالضَّرْب فِي هَذِهِ الْآيَة هُوَ ضَرْب الْأَدَب غَيْر الْمُبَرِّح، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكْسِر عَظْمًا، وَلَا يَشِين جَارِحَة كَاللَّكْزَةِ وَنَحْوهَا؛ فَإِنَّ الْمَقْصُود مِنْهُ الصَّلَاح لَا غَيْر، فَلَا جَرَمَ إِذَا أَدَّى إِلَى الْهَلَاك وَجَبَ الضَّمَان، كما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فَاضْرِبُوهُنَ ّ ضَرْبًا غَيْر مُبَرِّح»، قَالَ عَطَاء: قُلْت لِابْنِ عَبَّاس: مَا الضَّرْب غَيْر الْمُبَرِّح؟ قَالَ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوه».
    وقال الخلال: سألت أحمد قال: «غير الشديد».
    وعلى الزوج أن يجتنب الوجه والمواضع المخوفة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تضرب الوجه ولا تقبح».
    وأما الكمية فلا يزيد على عشر ضربات لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله». أخرجه مسلم.
    التحذير من ظلم الزوجات
    وقد حذرنا الله -تعالى- من الظلم للزوجات أو التعسف في استعمال هذا الحق فختم الآية بقوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (النساء:34)، قال القرطبي مبينا مناسبة ختام الآية أن فيها «إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب، أي: إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله؛ فيده بالقدرة فوق كل يد. فلا يستعلي أحد على امرأته؛ فالله بالمرصاد».


    د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #77
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (77)
    - بعض الأحكام المستفادة من قصة أيوب عليه السلام «حكم الحيل وأنواعها




    لا نزال مع قوله -تعالى-: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (سورة ص:44)، من المسائل الفقهية المستفادة من الآية الكريمة مسألة (حكم الحيل وأنواعها)، قال الجصاص: «وفيها أي الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى ما يجوز فعله، ومنع المكروه بها عن نفسه وعن غيره؛ لأن الله -تعالى- أمره بضربها بالضغث ليخرجه من يمينه، ولا يصلإليها كثير ضرر».
    من المقرر أن الدين الإسلامي يدعو إلى الصدق والأمانة والوفاء بالالتزامات، ويحرم الكذب والخديعة والغدر، والأدلة على ذلك كثيرة، و(الحيلة) كلمة في عرف الناس تدل على المكر والخديعة، فكيف يقول الجصاص إن هذه الآية تدل على جواز الحيلة؟
    مفهوم الحيلة
    والجواب: أن الحيلة في اللغة معنى يدل على الحذق في تدبير الأمور، والتوصل به إلى المطلوب في خفية؛ فهي تدل على الذكاء والحذق فقط، وأما في الاصطلاح الفقهي فالحيلة نوعان (مشروعة، وممنوعة)، قال ابن القيم: «ليس كل ما يسمى حيلة حراما».
    الحيل نوعان
    وقال: «الحيل نوعان:
    النوع الأول: ما يتوصل به إلى فعل ما أمر الله -تعالى- به وترك ما نهى الله عنه
    النوع الأول: وهو نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله -تعالى- به وترك ما نهى الله عنه، والتخلص من الحرام وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه، وهو ما يعرف بالمخارج الشرعية، وهو مرادف للحيل المشروعة عند بعض الفقهاء كما قال ابن نجيم: «واختلف مشايخنا -رحمهم الله تعالى- في التعبير عن ذلك؛ فاختار كثير التعبير بكتاب الحيل، واختار كثير كتاب المخارج». وفرق بينهما بعضهم كما قال ابن القيم: «ونسميه وجوه المخارج من المضائق، ولا نسميه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها»؛ لأن الأسماع تنفر من كلمة (حيل) لدلالتها العرفية الدالة على الخديعة عندهم.
    النوع الثاني: يتضمن إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات
    وهو نوع يتضمن إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالما والظالم مظلوما، والحق باطلا والباطل حقا، فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، وقال الإمام أحمد: «لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم».
    الحيل المشروعة
    فالحيل التي تؤدي إلى الحق وتعين عليه (مشروعة)، ويشهد لهذا أدلة منها:
    1- قوله -تعالى-: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا} (النساء:98) أي: التحيل على التخلص من الكفار، وهذه حيلة محمودة يثاب عليها فاعلها.
    2- قوله -تعالى-: {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث} (ص:44)، قال ابن القيم: «وهذا يدل على أن كفارة اليمين لم تكن مشروعة بتلك الشريعة، بل ليس في اليمين إلا البر والحنث»، فأذن الله لنبيه أن يتحلل من يمينه بالضرب بالضغث، وهو كان قد حلف أن يضربها ضربات معدودة، وهي في المتعارف الظاهر إنما تكون متفرقة، فأرشده الله إلى طريقة للخروج من يمينه.
    3- قوله -تعالى-: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} (يوسف:76)، قال ابن تيمية: «فيه ضروب من الحيل الحسنة».
    4- وعن أَبُي أُمَامَةَ بْن سَهْل أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بَعْض أَصْحَاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْأَنْصَار أَنَّهُ اِشْتَكَى رَجُل مِنْهُمْ حَتَّى أَضْنَى فَعَادَ جِلْدَة عَلَى عَظْم، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَارِيَة لِبَعْضِهِمْ فَهَشَّ لَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رِجَال قَوْمه يَعُودُونَهُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَالَ: اِسْتَفْتُوا لِي رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنِّي قَدْ وَقَعْت عَلَى جَارِيَة دَخَلَتْ عَلَيَّ. فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا بِأَحَدٍ مِنْ النَّاس مِنْ الضُّرّ مِثْل الَّذِي هُوَ بِهِ، لَوْ حَمَلْنَاهُ إِلَيْك لَتَفَسَّخَتْ عِظَامه، مَا هُوَ إِلَّا جِلْد عَلَى عَظْم، فَأَمَرَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ مِائَة شِمْرَاخ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَة وَاحِدَة. أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
    الحيل الممنوعة
    وأما إذا كانت الحيل تؤدي إلى الباطل وتعين عليه فهي ممنوعة، قال ابن القيم: «فهذه الحيل وأمثالها لا يستريب مسلم في أنها من كبائر الإثم وأقبح المحرمات، وهي من التلاعب بدين الله، واتخاذ آياته هزوا، وهي حرام من جهتها في نفسها؛ لكونها كذبا وزورا، وحرام من جهة المقصود بها، وهو إبطال حق وإثبات باطل».
    ويدل على هذا أدلة منها:
    1- قوله -تعالى-: {يخادعون الله وهو خادعهم} (النساء:142) قال ابن القيم: «فذم الله -تعالى- المنافقين؛ لأنهم يخادعون الله والمؤمنين، مما يدل على أن مخادعة الله -تعالى- محرمة، والحيل في حقيقتها مخادعة لله -تعالى- فهي حرام من هذه الجهة».
    2- أخبر -تعالى- عن أهل الجنة في سورة القلم أنهم لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين، دمر الله جنتهم، قال ابن القيم: «فكان في ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله أو حقوق عباده».
    3- ما قصه الله -تعالى- عن أصحاب السبت لما احتالوا على ما حرم الله بنصب الشباك يوم الجمعة ورفعها يوم الأحد فمسخهم الله -تعالى- قردة وخنازير، قال بعض السلف: «ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه، إذا الفقيه من يخشى الله بحفظ حدوده وتعظيم حرماته، ليس المتحيل على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه».
    5- عن جابر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: «لا، هو حرام» ثم قال: «قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» متفق عليه.
    قال الخطابي: «في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه».
    6- إن تجويز الحيل يناقض مبدأ (سد الذرائع) الذي جاءت به الشريعة، وذلك أن الشرع يسد الطرق المؤدية إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيله، فأين من يمنع الجائز خشية الوقوع في الحرام ممن يعمل الحيل للوصول إليه؟

    د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #78
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (78)
    - بعض الأحكام المستفادة من قصة نبي الله صالح عليه السلام - مسألة ا



    قال -تعالى-: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} (سورة القمر:28)، من القصص القرآنية التي تكررت في سور عديدة؛ -لما فيها من المواعظ والحكم- قصة نبي الله صالح -عليه السلام- مع قومه ثمود؛ حيث دعاهم إلى الله -تعالى-، فسألوه آية تدل على صدقه، قال ابن كثير: «واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر، يقال لها: الكاتبة، فطلبوا منه أن يخرج لهم منها ناقة عشراء (حامل) تمخض، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه، فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح -عليه السلام- إلى صلاته ودعا الله –عزوجل-، فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء، يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، فعند ذلك آمن رئيس القوم ومن كان معه على أمره، وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم صاحب أوثانهم.
    فأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة، تشرب ماء بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملؤون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} (القمر: 28) وقال -تعالى-: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} (الشعراء: 155) وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فج وتصدر من غيره ليسعها؛ لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت - على ما ذكر - خلقا هائلا ومنظرا رائعا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها، فلما طال عليهم واشتد تكذيبهم لصالح النبي -عليه السلام- عزموا على قتلها، ليستأثروا بالماء كل يوم، فيقال: إنهم اتفقوا كلهم على قتلها.
    توافقهم على قتل الناقة
    قال قتادة: بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم، أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن، وعلى الصبيان أيضًا، وقال ابن كثير: وهذا هو الظاهر؛ لأن الله -تعالى- يقول: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا} (الشمس: 14) وقال: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} (الإسراء: 59) وقال: {فعقروا الناقة} فأسند ذلك على مجموع القبيلة، فدل على رضا جميعهم بذلك».
    لا تسألوا الآيات
    وأخرج الإمام أحمد عن جابر قال: لما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات؛ فقد سألها قوم صالح فكانت -يعني الناقة- ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة، أهمد الله من تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله». فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: «أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه». قال ابن كثير: «وهو على شرط مسلم».
    مسألة المهايأة أو قسمة المنافع
    فمن المسائل المستفادة من الآية الكريمة (مسألة المهايأة أو قسمة المنافع): من المعلوم أن الملكية قد تكون خاصة لفرد واحد، وقد تكون لأفراد عدة على جهة الشيوع؛ بحيث لا تتميز أنصبتهم، كأفراد اشتركوا في ملكية أرض على الشيوع، وتسمى شركة أملاك.
    وهذه الملكية المشتركة قد ترد على عين معينة كعقار (أرض أو بناء) أو منقول كسيارة مثلا، وقد ترد على منفعة، كالاشتراك في سكنى دار، أو زراعة أرض، أو حق الشرب والسقي من مورد ماء مشترك، فإذا تعذر قسمة العين بينهم، وتراضى الشركاء على قسمة المنافع بينهم بطريقة معينة، واتفقوا عليها فيلزمهم العمل بحسب الاتفاق، وليس لأحد أن يغير شيئا مما اتفقوا عليه؛ لأن الحق لهم، وقد رضوا به، والله -تعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة:1)
    أما إذا لم يتفق الشركاء على طريقة معينة لقسمة المنافع، فإن كان لأحدهم بينة على حقه بالانتفاع مدة معينة فيعمل بالبينة.
    أما إذا لم يكن هناك بينة فمن طرق قسمة المنافع ومنها حق الشِرب والسقي من مصادر المياه المملوكة قسمة المهايأة.
    معنى المهايأة
    والمهايأة: مفاعلة مشتقة من الهيئة، وهي الحالة الظاهرة وحالة الشيء وكيفيته، يقال: هيأت الأمر أعددته، وتهايأ القوم: جعلوا لكل واحد هيئة معلومة، والمراد: النوبة، وعرفها الفقهاء بقسمة المنافع على التعاقب والتناوب؛ وتكون في قسمة المياه المشتركة بأن ينفرد أحدهم بالماء مدة معلومة، قال ابن قدامة:» وإن قسموا ماء النهر المشترك بالمهايأة جاز إذا تراضوا به وكان حق كل واحد منهم معلومًا، مثل أن يجعلوا لكل حصة يوما وليلة أو أكثر من ذلك أو أقل، وإن قسموا النهار فجعلوا لواحد من طلوع الشمس إلى وقت الزوال، وللآخر من الزوال إلى الغروب ونحو ذلك جاز». وهو قول الجمهور، ومما استدلوا به:
    جواز المهايأة على الماء
    1- قوله -تعالى-: {لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} (الشعراء:155)، وقوله -تعالى-: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} (سورة القمر:28)، قال الجصاص: «يدل على جواز المهايأة على الماء؛ لأنهم جعلوا شرب الماء يوما للناقة، ويوما لهم، ويدل أيضا على أن المهايأة قسمة منافع؛ لأن الله -تعالى- قد سمى ذلك قسمة، وإنما هي مهايأة على الماء لا قسمة الأصل».يعني ليست قسمة أعيان.
    قال القرطبي:» قوله -تعالى-: {كل شرب محتضر} الشِرب - بالكسر-: الحظ من الماء؛ وفي المثل: (آخرها أقلها شربا) وأصله في سقي الإبل، لأن آخرها يرد وقد نزف الحوض. ومعنى محتضر أي: يحضره من هو له؛ فالناقة تحضر الماء يوم وردها، وتغيب عنهم يوم وردهم قاله مقاتل. وقال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحتلبون»، قال ابن سعدي: {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} أي: يحضره من كان قسمته، ويحظر على من ليس بقسمة له.»
    القاعدة العامة في قسمة الأملاك المشتركة
    2- أن قسمة الماء في القناة المشتركة بين الشركاء إنما يتبع القاعدة العامة في قسمة الأملاك المشتركة في قسمة العين إن أمكن، وإلا تقسم منافعها عليهم، وهكذا في هذه الصورة، لأنه ربما يكون الماء قليلا لا يكفي الجميع دفعة واحدة، فلا يمكن الانتفاع به إلا بالمهايأة الزمانية.
    وإن تنازعوا فيمن يبتدئ بالسقي أقرع بينهم حتى يستقر لهم ترتيب؛ الأول فمن يليه، ويختص كل منهم بنوبته لا يشاركه غيره فيها، ثم هم من بعدها على ما ترتبوا.
    وإذا كانت نوبة أحدهم فله أن يختص بالتصرف بالماء بأن يسقي ما شاء من أرض أو بهائم أو يعطي الماء من يسقي به؛ لأن حق الشرب من قبيل ملك المنفعة، ومن ثبت له ملك المنفعة فله أن يتصرف فيها بالاستعمال والاستغلال وسائر التصرفات المشروعة، ولا يمنع إلا في حالة الإضرار بالآخرين.

    د.وليد خالد الربيع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #79
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (79)
    - بعض الأحكام المستفادة من قصة نوح عليه السلام
    - مسألة فضل الاستغفار






    قال -تعالى-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (سورة نوح:10-12)، هذه الآيات الكريمة في سياق قصة نبي الله نوح -عليه السلام- وامتثاله أمر الله -تعالى- بإنذار قومه وما جرى له معهم من الحوار والمجادلة، وكان من جملة ما قاله لهم ما ذكره الله -سبحانه- في هذا السياق.

    قال ابن كثير: «{فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا} أي: ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه، وتوبوا إليه من قريب، فإنه من تاب إليه تاب عليه، ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك؛ ولهذا قال: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا} أي: متواصلة الأمطار؛ ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية، وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: أنه صعد المنبر ليستسقي، فلم يزد على الاستغفار، وقرأ الآيات في الاستغفار. ومنها هذه الآية (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا) ثم قال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي ستنزل بها المطر»، فمن المسائل المستفادة من الآية الكريمة: (مسألة فضل الاستغفار).
    قال القرطبي: «في هذه الآية التي في (هود)، يعني قوله -سبحانه-: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (سورة هود:3) دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والمطر» وذكر كيفية الاستغفار باختصار، وهو أن ذلك يكون عن إخلاص وإقلاع من الذنوب وهو الأصل في الإجابة.
    أولا: تعريف الاستغفار
    الاستغفار في اللغة: مصدر الفعل استغفر، وأصل المادة اللغوي: (غ ف ر) يدل على الستر والتغطية.
    وفي الاصطلاح: قال الراغب: «الغفران والمغفرة من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب. والاستغفار: طلب ذلك بالمقال والفعال».
    وقال ابن القيم: «الاستغفار إذا ذكر مفردا يراد به التّوبة مع طلب المغفرة من اللّه، وهو محو الذّنب وإزالة أثره ووقاية شرّه، والسّتر لازم لهذا المعنى، كما في قوله -تعالى-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّه كَانَ غَفَّارَاً}، فالاستغفار بهذا المعنى يتضمّن التّوبة.
    أمّا عند اقتران إحدى اللّفظتين بالأخرى، فالاستغفار: طلب وقاية شرّ ما مضى، والتّوبة: الرّجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل من سيّئات أعماله، كما في قوله -تعالى-: {وَأَن اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثمَّ تُوبُوا إليه} (سورة هود:4).
    ثانيا: فضل الاستغفار
    أمر الله -تعالى- بالاستغفار في آيات كثيرة، وحث عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عديدة، ومن ذلك عن أنسٍ قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «قال الله: يا ابن آدم، إنَّك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنان السماء ثمَّ اسْتغفرتني غفرت لك ولا أُبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرةً». رواه الترمذي. وحسنه الألباني.
    وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم- قال: «قال إبليسُ: وعَزِّتك لا أبرح أُغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم؛ فقال: وعِزَّتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما اسْتغفروني». رواه أحمد والحاكم وصححه، وعن عبد الله بن بسرٍ قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: «طوبى لمن وُجد في صحيفته استغفارٌ كثير» رواه ابن ماجه. وحسنه الألباني.
    وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ العبدَ إذا أخطأ خطيئةً نَكَتَتْ في قلبه نُكْتَةٌ، فإن هو نَزَعَ واستغفرَ صقُلَتْ، فإن عاد زيد فيها حتى تعلوَ قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله -تعالى-: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} «. رواه الترمذي وحسنه الألباني.
    عن بلال بنِ يَسار بن زَيدٍ قال: حدَّثني أبي عن جدِّي، أنه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنْ قال: «أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيُّومُ وأتوبُ إليه»، غُفِرَ لَهُ وإنْ كان فَرَّ مِنَ الزَّحف». رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني.
    مواضع الاستغفار
    مطلوب من المسلم أن يديم الاستغفار في كل أحيانه، كما قال الحسن: «أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طُرقاتكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة»، وهناك مواضع عديدة يتأكد فيها الاستغفار منها:
    - عقب الخروج من الخلاء فعنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَرَجَ مِن الخَلَاءِ قَالَ: «غُفْرَانَكَ». أخرجه الترمذي وحسنه.
    - وبعد الوضوء فعن أبي سعيد الخدري -موقوفا عليه- قال: «مَن توضَّأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أنْ لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كُتِب في رَقٍّ، ثم جُعِل في طابع، فلم يُكْسَر إلى يوم القيامة».
    - وعند دخول المسجد والخروج منه فعن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قالتْ: كان رسول الله إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلَّم، وقال: «رب اغفر لي ذنوبي، وافتَحْ لي أبواب رحمتك»، وإذا خرَج صلى على محمد وسلَّم، وقال: «رب اغفر لي، وافتَحْ لي أبواب فضْلك».
    - وبين السجدتين فعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- َكَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ : «رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي». رواه النسائي وصححه الألباني، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ : «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي» رواه الترمذي وصححه الألباني.
    - وبعد التشهد قال عليّ في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم-: «ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ» أخرجه مسلم.
    - وعقب الصلاة بعد السلام فعن ثوبان قال: كان رسول الله إذا انْصَرف من صلاته استغفَر ثلاثًا، وقال: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركْتَ يا ذا الجلال والإكرام»، قال الوليد: فقلتُ للأوزاعي: كيف؟ قال: تقول: «أستغفر الله، أستغفر الله». أخرجه مسلم
    - وعند النوم فعن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن قال حين يأوي إلى فراشه: أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات، غَفَر الله له ذنوبَه، وإنْ كانتْ مثل زَبَد البحر» أخرَجه الترمذي وحسَّنه الألباني
    - وفي ختْم المجالس فعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن جلَس مجلسًا كَثُر فيه لَغطُه، فقال قبل أن يقوم: سبحانك ربَّنا وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كان كفَّارة لما كان في ذلك المجلس» أخرَجه أحمد وقال شعيب الأرنؤوط: «إسناده صحيح على شرْط مسلم».

    د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #80
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

    الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (80)
    - بعض الأحكام المستفادة من قصة أصحاب الجنة
    - أثر القصد في صحة العمل




    قال الله -تعالى-: {إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (القلم:17-20)، ذكر الله -تعالى- قصة أصحاب الجنة - كما ذكر بعض السلف- الذين كان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة -وكانوا من أهل الكتاب-، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة؛ فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليها، ويدخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل، فلما مات ورثه بنوه، وقالوا: لقد كان أبونا أحمق؛ إذ كان يصرف من هذه شيئا للفقراء، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا؛ فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية: رأس المال، والربح، والصدقة، فلم يبق لهم شيء.

    قال ابن كثير: «هذا مثل ضربه الله -تعالى- لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعم الجسيمة، وهو بعثه محمدا - صلى الله عليه وسلم - إليهم؛ فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة»، فمن المسائل الفقهية التي تستفاد من هذه الآية (أثر القصد في صحة العمل وجزائه).
    هوم لقصد

    والقصد في اصطلاح الفقهاء: هو العزم المتجه نحو إنشاء فعل، أو الدوافع التي تجعل المكلف يتوجه إلى الفعل، وقد قرر الفقهاء أن أحكام تصرفات الإنسان تختلف باختلاف قصده؛ فبالنية يكون الفعل عبادة أو عادة، وبالنية يكون التصرف طاعة أو مباحا أو معصية، وبالنية يكون العقد صحيحا أو فاسدا، ونحو ذلك.
    ثير المقاصد في أحكام الأفعال


    ومثال تأثير المقاصد في أحكام الأفعال، أن القتل يختلف حكمه باختلاف القصد؛ فيجب القصاص إن كان القتل عمدا، وفيه الدية المغلظة والكفارة إن كان قتلا شبه عمد، وفيه الدية المخففة والكفارة إن كان قتلا خطأ، ودفع المال للآخر يختلف حكمه باختلاف قصد الدافع؛ فإن كان بغير عوض كان هبة، وإن كان على أن يرجعه الآخذ كان قرضا، وإن كان على يدفع الآخذ عوضا له كان هبة الثواب وتأخذ أحكام البيع.
    الأدلة على هذا الأصل
    وقد دل على هذا الأصل أدلة كثيرة منها قوله -عليه السلام-: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» متفق عليه، ومعناه: أن التصرفات تابعة للنيات؛ فنتيجة تصرفات المكلف والأحكام المترتبة عليها تختلف باختلاف نية المكلف.
    النية الصادقة عمل صالح
    ودلت النصوص الصحيحة على أن النية الصادقة عمل صالح يؤجر عليه الإنسان ولو لم يعمل شيئا، كقوله -تعالى-: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 100)، قال ابن كثير: «أي: ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق، فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر، ثم ذكر حديث: «إنما الأعمال بالنيات».
    وقال ابن سعدي: «{فقد وقع أجره على الله} أي: فقد حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده بضمان الله -تعالى-؛ وذلك لأنه نوى وجزم، وحصل منه ابتداء وشروع في العمل، فمن رحمة الله به وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كاملاً ولو لم يكملوا العمل، وغفر لهم ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها».
    وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من همّ بحسنة فلم يعملها فعلم الله منه أنه قد أشعر قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة «أخرجه أحمد وهو صحيح، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه» أخرجه النسائي وحسنه الألباني.
    وقال شيخ الإسلام: «‏ من نوى الخير، وعمل منه مقدوره، وعجز عن إكماله، كان له أجر عامل‏،‏ كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم‏»‏‏.‏ قالوا‏:‏ وهم بالمدينة‏؟‏ قال‏: «‏وهم بالمدينة، حبسهم العذر».‏
    المكلف قد يؤاخذ بقصده السيء
    وقد صحح الترمذي حديث أبي كَبْشَة الأنماري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ أنه ذكر أربعة رجال‏:‏ «‏رجل أتاه اللّه مالًا وعلمًا، فهو يعمل فيه بطاعة اللّه‏.‏ ورجل أتاه اللّه علمًا ولم يؤته مالًا، فقال‏:‏ لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان‏.‏ قال‏:‏ فهما في الأجر سواء‏.‏ ورجل آتاه اللّه مالًا ولم يؤته علمًا، فهو يعمل فيه بمعصية اللّه‏.‏ ورجل لم يؤته اللّه مالًا ولا علمًا، فقال‏:‏ لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان‏.‏ قال‏:‏ فهما في الوزر سواء‏».‏
    وفي هذا الحديث وحديث ابن عباس الآتي دليل على أن المكلف قد يؤاخذ بقصده السيء، قال القرطبي: «في هَذِهِ الْآيَةِ (من سورة القلم) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ الْإِنْسَانُ؛ لِأَنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يَفْعَلُوا؛ فَعُوقِبُوا قَبْلَ فِعْلِهِمْ».
    فقوله -تعالى-: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} (القلم:25) يدل على عزمهم الأكيد على حرمان الفقراء من ثمار الحديقة، قال القرطبي: «الحرد: القصد»، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ -تعالى- عن المسجد الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25).
    مراتب الهمّ بالسيئة
    وأخرج الشيخان عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل- أنه قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّـن ذلك؛ فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة».
    يبين الشيخ ابن عثيمين مراتب الهمّ بالسيئة وأثر ذلك:
    الأولى: العزم على فعل المعصية
    أن يعزم على فعل المعصية ويقصدها جازما ثم يتركها لله -تعالى-، فهذا الذي يؤجر ويكتب الله له حسنة كاملة، كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة» قال ابن رجب: «لأن تركه المعصية بهذا القصد عمل صالح».
    الثانية: العزم على المعصية لكن يعجز عنها دون سعي لها
    أن يعزم على فعل المعصية لكن يعجز عنها دون أن يسعى في أسبابها، كالرجل الذي أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ليت لي مثل مال فلان فأعمل فيه بعمله، وكان فلان يسرف على نفسه في تصريف ماله، فهذا يكتب عليه سيئة، ولكن ليس كعامل السيئة، بل يكتب وزر نيته كما جاء في الحديث بلفظ: «فهو بنيته فهما في الوزر سواء».
    الثالثة: العزم على المعصية لكن
    يعجز عنها مع سعيه لها
    أن يعزم على المعصية ويسعى في الحصول عليها ولكن يعجز، فهذا يكتب عليه وزر السيئة كاملا، دليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قال: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «لأنه كان حريصا على قتل صاحبه «فكتب عليه عقوبة القاتل»، ومثاله: لو أن إنسانا تهيأ وأتى ليسرق وأتى بالسلم ليتسلق ولكن عجز، فهذا يكتب عليه وزر السارق؛ لأنه هم بالسيئة وسعى في أسبابها ولكن عجز».
    الرابعة: الهم بالمعصية ثم يعزف
    عنها لا لله ولا للعجز
    أن يهم الإنسان بالمعصية ثم يعزف عنها لا لله ولا للعجز، قال الشيخ ابن عثيمين: «فهذا لا له ولا عليه، وهذا يقع كثيرا، يهم الإنسان بالسيئة ثم تطيب نفسه ويعزف عنها، فهذا لا يثاب؛ لأنه لم يتركها لله، ولا يعاقب؛ لأنه لم يفعل ما يوجب العقوبة».
    الخامسة: الهم بالمعصية ثم تركها خوفًا من المخلوقين
    قال ابن رجب: «إن همّ بمعصية ثم ترك عملها خوفا من المخلوقين أو مراءاة لهم فقد قيل: إنه يعاقب على تركها بهذه النية؛ لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرم، وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرم، فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله عوقب على ذلك الترك».


    د.وليد خالد الربيع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •