الإنسان والصراع بين المبادئ[1]
د. أحمد خليل






العصر الذي نعيش فيه عصرُ صراعٍ بين المذاهب والعقائد والمبادئ المُختلفة، قبل أن يكون صراعًا بين الجوانب المادية والمصالح الإستراتيجية.



وهذا الصراع يُوجب على المُفكرين إعادةَ آرائهم في الاعتقاد والمذاهب التي تُسيطر على البشر، وفي فلسفات الحياة المُختلفة، ويأتي في مُقدمة ميادين الصراعِ الإنسانُ نفسُه؛ في حقيقة تكوينه، وعلاقته بربِّه، وعلاقته بالآخرين.



ويرى قادة الفكر في العالم أن الوصول إلى إدراك حقيقة الإنسان، ووضوح معالم طريقه في الحياة، وتحديد غايته - أمرٌ على جانبٍ كبير من الأهمية في استقرار الإنسان، وتحقيقِ الأمن والطمأنينة البشرية.



ولكن هذا الأمل الذي يُداعب خيالَ المُفكرين، ويحتل مكان الصدارة في أحلامهم - يُصادفه عقباتٌ كثيرة، تجعل هذه الأُمنيةَ تغوص في أعماق الباطن، ويُسدل عليها ستارٌ كثيف من الهُموم والآلام، والمصاعب والأغلال التي يرزح تحتها الناس.



وأول هذه العقبات: تلك التغيرات السريعة التي يمر بها العالم، والتي لم يَشهد مثلَها من قبل؛ بسبب تطور وسائل المُواصلات والاتصالات، بحيث أصبح العالم وحدةً كبيرةً مُترابطة الأطراف، لا يستطيع أي قُطرٍ فيه أن يعيش بعيدًا عن غيره، وأصبحت المدنية المادية تغزو الناسَ في عُقر دارهم، وتُسيطر على أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهذه التحوُّلات المُفاجئة، والتغيرات السريعة، لا تدَع للناس فُرصةً لتمحيص الحقائق من غيرها.



وثانيها: ذلك التصادُم العنيف بين المذاهب الفكرية المُتصارعة والملل المُتقاتلة، وقد انحدرت هذه الصراعاتُ من روافدَ كثيرةٍ تنبُع من الوثنية المُخرفة، والمادية الزائفة، والكهانة المُنحرفة، والأحقاد المُتوارَثة، وكلها تصب في مُستنقعٍ آسنٍ من ظُلمات الفكر، وضلال الإلحاد، وزيغ العقيدة، فنبَتَ من ذلك شجرةُ العلمانية الخبيثة التي تفرعت منها الشيُوعية، والوجودية، وأثمرت ذلك الطوفانَ من الانحلال والانهيار في القيم.



وثالثُها: سيطرة الأنانية على السلوك، وهيمنة الغرائز على الفُنون لدى الأفراد والأُمم والجماعات، حتى غدا الهوى إلهًا معبودًا، والمصلحة دينًا مُقدسًا، وقيمة كل إنسانٍ بما يملك من رصيد وما يحوز من قوة مادية، ومع ذلك فهُناك رُوحٌ علمية مُتفشية بين ذوي العُقول المُتفتحة، تبحث عن عقيدةٍ سليمة لا تتناقض مع العقل، ولا تتنافس مع حقائق العلم، ولا تُحد من إرادة الإنسان، ولكن المبادئ والمذاهب المادية التي تُسيطر على اتجاه الفكر العالميِّ، وتصل إلى الشباب عن طريق وسائل الإعلام المُختلفة، وفي معاهد التعليم، والأساليب العملية الخبيثة التي تُشيع الدمارَ الخلُقي بين الناشئة؛ كالحانات، والمراقص، والملاهي - كل هذه لا تدَع بصيصًا من نور الإيمان ينفُذ إلى القُلوبِ التي ران عليها الكُفرُ، والعُقولِ التي سيطر عليها الضلالُ، والنفوسِ التي استولى عليها الإثمُ، ومن ثم؛ فإن هذه العقول سوف تظل محرومةً من هدي السماء، ما لم يقُم المسلمون بواجبهم.



ولا شك أن الإسلام بما انطوى عليه من عقيدةٍ سليمة، وأخلاقٍ قويمة، ونظام كامل صالح لكل زمان ومكان - يحتاج من أبنائه إلى تجلية حقائقه، وتوضيح معالمه، بأُسلوب يتفق مع تطور العصر وتقدُّمِ الإنسان في جوانب البحث العلمي.



المخرج الوحيد:

وإذا كان المخرج الوحيد للمُسلمين من أزمتهم الراهنة هو تربيةَ جيل إسلامي يتنفس القيم الإسلامية ملء رئتيه، ويُطبقها في واقع الحياة ودُنيا الناس، فإن هذا الجيل سوف يغرق في خضم المبادئ الزائفة، ويعشى بصرُه في ضوء الدعايات الكاذبة، إذا لم نستطع أن نُقيم الحُجج الواضحة على حقائق الإسلام، ونُقدم البينات الساطعة على زيف النظريات الإلحادية؛ ولذا فإن توضيح المفاهيم الإسلامية يُعتبر ضرورةً حتميةً يُوجبها واقعُ المُسلمين، وتُحتمها طبيعةُ العصر، وتَفرضها قواعدُ الإسلام وأصوله.



وسوف نبدأ في هذا المجال بالحديث عن الإنسان في نظر الإسلام، وحين نستعرض آيات القُرآن الكريم في هذا الموضوع نجدها تتحدث عن جانبين:

أحدهما: الجانب المادي.

وثانيهما: الجانب الروحي.



فأما الجانب الأول، فتراه واضحًا في الآيات:

﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ [الرحمن: 14].



﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۞ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۞ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 19 - 21].



﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34].



﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ۞ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7].



﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ۞ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ۞ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [العاديات: 6 - 8].



﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54].



وأما الجانب الروحي؛ فيذكُره الحق بقوله:

﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 29].



﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ﴾ [السجدة: 9].



المدح، والذم:

ومن هُنا نجد أن القرآن ذَكَر الإنسان بالذمِّ حين ينحرف به الجانبُ المادي عن جادة الصواب، وذَكَرَه في مُقابل ذلك بالمدح بحُكم النفحة الإلهية، وإذا كان الجانب المادي تُسيطر عليه الغرائز الكثيرة والدوافع المُختلفة، فإن الجانب الروحي منحه الله العقل؛ ليستكشف به الصوابَ من الخطأ، وزوده بالعاطفة والشعور؛ ليدفعا إدراكه العقليَّ إلى التمحيص والعُمق، ووهب له الإرادة الحرة؛ ليتصرف بها وَفق ما يُمليه العقلُ الذي تُغذيه العاطفة ويُقويه الوجدان، وقبل هذا كله منحةُ الله على هذا الإنسان بنور الإيمان، وشُفوف الروح، وسلامة الفطرة.



ومن هُنا يُعبر العلماء عن طبيعة الإنسان بأنها طبيعة ثُنائية، تجمع بين هذين الجانبين المُتقابلين، ويرى الإمام محمد عبده - رحمه الله - أن الإنسان مُدركٌ، نفسُه قد خُلقت مُستعدةً لقَبول معلومات غير مُتناهية، وأنه ينطلق إلى لذائذ غير محدودة، ولا واقفة عند غاية، وأن قُدرته على السمو لدرجات الكمال لا تحدها أطراف المراتب والغايات، ولكن الإنسان مُعرض كذلك لمُقاساة جُموح الشهوات، ومُغالبة الأهواء، ونزوات الأمراض على الأجساد، وعُرضة لمُكافحة شتى المطالب والحاجات، والإنسان يبحث عن الحق بدافعٍ من فطرته، ولكنه بدافعٍ من إرادته الذاتية يقلب الباطلَ حقًّا أحيانًا، وهكذا، هو مخلوق عجيب في شأنه؛ فهو يصعد بقُوة عقله إلى أعلى مراتب الملكوت، ثم يصغُر ويتضاءل وينحط إلى أدنى دركٍ من الاستكانة والخُضوع.



على أن هذه الطبيعة الثنائية لا يُمكن النظر إلى جانب منها دون آخر؛ لأنه لا يُمكن التفريق بين الجانبين؛ المادي والروحي، ما دام الإنسان يعيش على ظهر هذه الأرض، وسوف يظل الناس يقولون: الجانب المادي والروحي، كما يقولون: أشرقت الشمس، وغربت الشمس، والحقيقة أن الشمس لم تُشرق بعد غُروب، أو تغرُب بعد شُروق، وكذلك حقيقة الإنسان المادية والروحية لا يُمكن الفصلُ بينهما، ولكن سوف يظل الناسُ يُعبرون بالجانب المادي والجانب الروحي عن حقيقة الإنسان، وما أجملَ تعبيرَ القُرآن عن هذه الحقيقة بقوله:

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۞ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ۞ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [التين: 4 - 6]!



والتقويم الحسن: جمالُ المظهر والمخبر، وتوافُق الظاهر والباطن في الشخصية الإنسانية، والتكامُل بين الجانبين المادي والروحي.



والتقويم الحسن: هو تلك الصفات الكريمة، التي جُبل عليها الإنسان، وفيها قبسٌ من نور الحق، يتزود به الإنسان على قدر الطاقة البشرية، ويسمو به على نوازع الأرض، ودنس المادة، ورجس الشيطان، ويتنزَّه عن انحراف الغرائز.



فالرحمة والحلم والقُدرة والإبداع وغيرها - صفات مُشتركة تجب للحق بحسب الكمال اللائق بذاته، ويُجاهد الإنسان في التجمل بها على استحياء من ضعفه، وجُهد من طاقته، وفي الأثر: ((خلق اللهُ آدم على صورته)).



والتقويم الحسن: هو بذْل الوُسع لحمل الأمانة التي عجزتْ عنها السمواتُ والأرض والجبال؛ لما فيها من سر التكليف، والتزام بالأمر والنهي؛ لأن فطرة الإنسان بحُكم التكوين والاستعداد والترقي في معارج الكمال - تختلف عن فطرة الكائنات التي لم تؤهل لذلك.



ولذا؛ عُرف الإنسان بأنه مخلوق مُكلف.



وأداة التقويم الحسن: الإيمان، وعمل الصالحات، ووسيلة الارتداد إلى أسفل سافلين: مُطاوعة الهوى، والغُرور، والسرف، وطُغيان الغنى، وسيطرة الحقد والرياء والحسد والنفاق على الإنسان، والإنسانُ بذلك يجمع بين النقيضين دون غيره من سائر المخلوقات التي نعرفها.



يقول الشيخ أبو الحسن الندوي:

"فليس هُناك مخلوق - على كثرة المخلوقات والموجودات - أدقَّ وأعمق منه صُنعًا، وأكثر منه غرابةً وغُموضًا، وأعظم منه تناقُضًا وتضارُبًا؛ فهو ضعيف يُحب القوة والغلبة، فقير يُحب الغنى والخير، خاضع لناموس الموت والفناء مُحب للخلود والبقاء، مُتعرض للأمراض والأخطار، وَلُوع بالصحة والسلامة، هلوع جزوع طموحٌ، كثيرُ الحاجات، دقيق الرغبات، عميق الهواجس والخواطر، بعيد الآمال والنظرات، لا تُروى غُلَّتُه، ولا تُشبع جوعتُه، ملولٌ طرف، سؤوم ضجر، يكره القديم التليد، ويطلُب المزيد الجديد، ويزهد في الميسور الموجود، ويرغب في المعدوم المفقود، حاجاته ومطامعه أكثر من أنفاسه، وأطولُ من حياته، وأوسع من أن يسعها هذا العالمُ المحدود".



ولهذا؛ كان الإنسان - سواء من جانب الإنسان نفسه، أو من جانب غيره - يضع أيديَنا على السر في الخلق، والغاية من الوجود الإنساني، والحكمة في التشريع الإلهي، ويُوضح لنا السبب في ارتباط الدنيا بالآخرة، وفصْم أحد الجانبين عن الآخر يؤدي إلى انحراف الفكر، وانحدار الإنسان إلى الدرك الأسفل، وانحرافه عن الرسالة.



وقديمًا نظر إبليس إلى الجانب المادي وحدَه في الإنسان، فقال حين أُمر بالسجود لآدم: ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12]، فكان ذلك سببَ غُروره وحقده، وانحرافِه وطرده.



ولم تُدرك الملائكة الحكمةَ الكُبرى والسرَّ الأعظم في خلق الإنسان، فقالوا بادئ ذي بدء: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، ولكنهم عندما انكشفت لهم الحقائقُ، ووضَحت أمامهم الدقائقُ، امتثلوا أمر الحق وسجدوا؛ أداءً لفريضة الأمر.



ولقد ضلت الفلسفات الأرضية ضلالاً كبيرًا في إدراكها لحقيقة الإنسان؛ فبينما تذهب البرهمية والبُوذية إلى إنكار الغرائز المادية، والمُكابرة في سُلطان الدوافع والنوازع الشهوانية، وتدَّعي القُدرة على محْوها وإبادتها، يرى أرباب التلمود واليسوعية المُنحرفة عن تعاليم السيد المسيح، والجبريةُ من كل ملة ونحلة، والدهريةُ من كل جنس ولون أن الجانب الغَرَزِي هو الأساس في التكوين، والغاية من الحياة، وقالوا: ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [المؤمنون: 37].



أما الإسلام، فإنه يقف على الجادة الوسطى، مُشرفًا بعُمقه وشُموله على جانبي الطريق؛ فيعترف بالنزعات الجِبلية، والنزوات الطبعية إلى حد محدود، ثم يترُك المجال لاستكشاف العقل، وهِمم العزائم، ونور الإيمان؛ للحدِّ من تلك النزعات، ومُقاومة الاسترسال معها في غير ضرورة مُلحة أو تنعم بخير مُباح، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].



والْتقاء الإرادة بالغرائز، والعقلِ بالدوافع، والعقيدةِ بظُلمات النفس، ونورِ الإيمان بغشاوة الطبع - هو مجال الجهاد النفسي، وميدانُ الصراع بين الخير والشر.



والإسلام نظامٌ عالمي امتاز بالشمول والعُمق؛ فهو يوجِّه الإنسانَ في الحياة ويُساعده على تنمية مواهبه، والكف من غُلواء غرائزه، ويأخُذ بعضُده؛ لكي يُحصل لنفسه وللجماعة الإنسانية أسمى درجات الكمال الإنساني في الروح والخلق والعقل والمادة، وكل لحظة يقضيها الإنسانُ على هذا الوجهِ تُعتبر عبادةً من أجلِّ العبادات.






[1] من بحوث ومقالات مؤتمر: مشكلات العالم الإسلامي المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية مصر.