من معاني بعض الحروف
حتى وإلى للغاية
نحو: بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة، أو سرت حتى دخلت مكة، واختلف العلماء في ابتداء الغاية وانتهائها، هل يندرجان في المُغَيَّا أم لا؟ على أربعة أقوال:
ثالثها: الفرق بين أن تكون الغاية من الجنس، فتندرج أم لا تندرج؟ فإن كان المبيع رماناً والشجر كان رمانتان .. اندرجتا، وإلا .. فلا.
الرابع: الفرق بين أن يكون الفصل بينهما أمراً حسياً كما في قوله تعالى: {...ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ...} (البقرة: 187). فلا يندرج؛ لأن الظلام متميز عن النهار بالبصر، أو لا .. فيندرج كما في قوله تعالى: {...وَأَيْدِيَكُم إِلَى الْمَرَافِقِ...} (المائدة: 6). هذه الأربعة أنقلها في انتهاء الغاية، وأما ابتداؤها .. فلا أنقل فيه إلا قولين.
فائدة:
المُغَيَّا لا بد أنه يتكرر فبل الغاية بعد ثبوته، فإذا قلت: سرت إلى مكة من مصر .. فلا بد أن تثبت حقيقة السير قبل مكة، ويتكرر قبلها، أما ما لا يتكرر .. فلا تتصور فيه الغاية، فلذلك قال بعض علماء الحنفية: "إن العامل في قوله تعالى: {...وَأَيْدِيَكُم إِلَى الْمَرَافِقِ...}، ليس هو (اغسلوا أيديكم)؛ لأن غسل اليد لا يثبت إلا بعد غسل المرافق؛ لأن اليد اسم لها من الإبط إلى الأصابع، وغسل هذا لا يثبت إلا قبل المرافق فضلاً عن تكراره، بل الثابت قبل المرفق بعض اليد، فيكون تقدير الآية (اغسلوا أيديكم): اتركوا من آباطكم إلى المرافق، فإلى المرافق غاية للترك لا للغسل، والترك ثبت قبل المرافق وتكرر إلى المرافق في الترك، فيغسل مع المغسول، وهذا بحث حسن.
فائدة:
حكاية العلماء الخلاف في اندراج الغاية ينبغي أن يحمل على (إلى) دون (حتى) بسبب تضافر قول النحاة على أن (حتى) لها شروط: أن يكون ما بعدها من جنس ما قبلها، وداخلاً في حكمه آخر جزء منه، أو متصلاً به فيه معنى التعظيم أو التحقير، فنصوا على اندراجه معنى، بل يندرج ليس إلا، ويحمل الخلاف على (إلى)، فإنه ليس فيها نقل يعارضنا.
و(في) للظرفية والسببية: نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في النفس المؤمنة مئة من الإبل". كونها للسببية أنكره جماعة من الأدباء، والصحيح ثبوته؛ فإن النفس ليست ظرفاً للإبل، وكذلك قوله - عليه الصلاة والسلام – في حديث الإسراء "فرأيت في النار امرأة حميرية عُجَّل بروحها إلى النار؛ لأنها حبست هرة حتى ماتت جوعاً وعطشاً، فدخلت النار فيها". معناه: بسببها؛ لأنها ليست في الهرة.
ومنه "أحب في الله ، وأبغض في الله"، أي: أحب بسبب طاعة الله، وأبغض بسبب معصية الله.
واللام:
للتمليك: نحو: الماء لزيد.
والاختصاص: نحو: هذا ابن لزيد.
والاستحقاق: نحو: السرج للدابة.
والتعليل: نحو: هذه العقوبة للتأديب.
وللتأكيد: نحو: إن زيداً لقائم.
وللقسم: نحو قوله تعالى: {...لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (العلق: 15).
ضابط التمليك: أن يضاف ما يقبل الملك لمن يقبله، فيفيد الملك لمن يقبله، ومنه قلنا: العبد يملك؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: "من باع عبداً وله مال ... ".
والمواطن في ذلك ثلاثة، فموطن لا يقبل الملك، نحو: المال للجمل، وموطن يقبل الملك وهو معين، نحو: المال لزيد، فيفقد الملك في الثاني إجماعاً، وعدمه في الأول إجماعاً، وموطن غير معين، نحو قوله تعالى: {ِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء...} (التوبة: 60). فمن لاحظ قبول النوع للملك .. قال: اللام للملك، ومن لاحظ عدم التعيين، وعدم الحصر، وقال: تمليك غير المحصور لا يتصور .. جعلها للاختصاص.
فالواحد والعدد المحصور متفق عليهما في إفادة الملك، وغير المحصور مختلف فيه، وقولنا في الاختصاص: هذا ابن لزيد، أولى من قولنا: أب لزيد؛ فإن الأب لا يلزم اختصاصه بهذا الابن، فقد يكون له أولاد أخر، وأما الابن .. فلا يكون له إلا أب واحد.
والفرق بين الاستحقاق والاختصاص: أن الاستحقاق أخص، فإن ضابطه ما شهدت به العادة، كما شهدت للفرس بالسرج، وللحمار بالبرذعة، وللدار بالباب، فهذا هو الاستحقاق، وقد يختص الشيء بالشيء من غير شهادة عادة، فإنه ليس من لوازم الشيء أن يكون له ولد، كما نقول في الفرس مع السرج.
الباء:
للالصاق، نحو: مررت بزيد.
والاستعانة، نحو: كتبت بالقلم.
والتعليل، نحو: سعدت بطاعة الله.
والتبعيض عند بعضهم، وهو منكر عند بعض أئمة اللغة.
وهي للمصاحبة، نحو: خرج زيد بثيابه.
وبمعنى(في)، نحو: سكنت بمصر.
والقائلون بالتبعيض اشترطوا أن تكون مع فعل يتعدى بنفسه حتى لا تكون للتعدية، وزعموا أن من ذلك قوله تعالى: {...وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ...} (المائدة: 6). فإن العرب تقول: مسحت رأسي، ومسحت برأسي، فلم يبق فرق إلا التبعيض، وليس كذلك، بل نقول: (مسح) له مفعولان يتعدى لأحدهما بنفسه، وللآخر بالباء، ولم تخير العرب بين المفعولين في هذه الباء، بل عينتها لما هو آلة المسح، فإذا قلت: مسحت يدي بالحائط، فالرطوبة الممسوحة على يدك، والحائط هو الآلة التي أزيلت بها عن يدك، وإذا قلت: مسحت الحائط بيدي، فالشيء المُزال هو على الحائط، ويدك هي الآلة المزيلة، وكذلك: مسحت يدي بالمنديل، المنديل آلة، والمنديل بيدي، فالتنظيف إنما وقع في المنديل لا في يدك، هذه قاعدة عربية، ولم تخبر العرب ذلك، وحيث قالت: برأسي، فالشيء المزال عن غيرها، وقد أزيل بها.
ولنا قاعدة أخرى إجمالية، وهي: أن الأئمة أجمعت على أن الله تعالى لم يوجب علينا إزالة شيء عن رؤوسنا، ولا عن جميع الأعضاء، بل أوجب علينا أن ننقل رطوبة أيدينا لرؤوسنا، وجميع أعضاء الوضوء، وعلى هذا .. يتعين أن يكون الرأس آلة مزيلة عن غيرها، لا أنها مزال عنها، فيتعين الباء فيها للتعدية؛ لأن العرب لا يتعدي(مسح) للألة بنفسها بل بالباء، فالباء ليست للتبعيض في الآية بل للتعدية؛ لأنها على زعمهم لا تكون للتبعيض إلا حيث يتعدى الفعل بنفسه.
و(أو):
إما للتخيير، نحو: قوله تعالى: {...هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} (المائدة: 95). أو للإباحة، نحو: أصحب الفقهاء أو الزهاد، وله الجمع بينهما بخلاف الأول.
أو للشك، نحو جاءني زيد أو عمرو.
أو للإبهام، نحو: جاءني زيد أو عمرو، وكنت عالماً بالآتي منهما، وإنما أردت التلبيس على السامع، بخلاف الشك.
أو التنويع، نحو: العدد إما زوج أو فرد، أي: متنوع إلى هذين النوعين.
يصح: الإبهام والإيهام بالباء موحدة من تحتها، والياء باثنتين من تحتها؛ لأن المقصود التلبيس على السامع، وأنت في الشك لا تعلم الآتي منهما، وهذه فروق بحسب كل واحدة منها على حدتها.
والفرق بين التخيير والإباحة لا يكونان إلا في الأمر فهذا فرق عام، والفررق الأول خاصة، ومن التنويع قولنا: العالَم: إما جماد أو نبات أو حيوان، أي: هو متنوع إلى هذه الأنواع الثلاثة.