همة التحصيل عند السلف
حميد بن خيبش

تشكو العديد من الأسر المسلمة اليوم ضعف التحصيل الدراسي لدى أبنائها، ورغم حرصها على تأثيث فضاء الطفل بكل اللوازم التي تيسر له الأداء الفاعل داخل حجرة الدرس، إلا أن النتائج تكون في الكثير من الحالات مخيبة للآمال، أو لا تحقق الثمرة المرجوة نظير الجهد المبذول.
والحق أننا إذا قارنا عزوف الطفل عن التحصيل المدرسي إزاء إقباله الشديد على الوسائط التكنولوجية الحديثة، نخلص حتماً إلى السبب الرئيسي ممثلاً في افتقاد التعليم المدرسي لعنصر الجذب والإغراء، وتردده في اعتماد مناهج تعليمية أكثر استجابة لحاجيات الطفل واهتماماته.
إن ناشئتنا اليوم تُعوزها نماذج للاقتداء تغذي رغبتها في الإقبال على التعلم، وتضمن لها الحفز المعنوي الدائم لتحمل مشقة التحصيل والمعرفة، فاكتساب القيم والمثل والمعارف لا يمكن أن يتحقق بالشكل المطلوب سوى في ظل نموذج يُحتذى به.
ولعل من أسوأ ما ابتليت به نظم التعليم الحديثة هو خلو مقرراتها الدراسية من النماذج المشرقة التي يزخر بها تاريخ الأمة في شتى المجالات، فنشأ جيل لا يعرف عن ابن خلدون أو الزهراوي أو ابن البيطار سوى أنه اسم لشارع، أو يافطة مثبتة على واجهة مدرسة!
وفي المقابل، يقف المرء مندهشا أمام ما أبداه السلف من همة عالية في التحصيل، وتحمل للمكاره والمشاق في سبيل تنقيح حديث أو تحقيق سند، بل إن منهم من نقض سقف بيته لطلب العلم، ومن افتقر بعد غنى سعياً وراء المشايخ في كل قطر! ولم تكن بغية أحدهم طلب الرئاسة والجاه والملذات بقدر ما كانت استجابة لداعي القرآن، والتماسا لطلب الأجر والثواب، ولهذا يلحظ كل دارس لأخبارهم وسيرهم أن منشأ سعيهم لتحصيل العلم هو امتثالهم لوجوب طلبه كم حثت على ذلك نصوص القرآن والسنة النبوية.
يقول ابن الجوزي ناصحاً ولده: " ما تقف همة إلا لخساستها، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون، وقد عرفت بالدليل أن الهمة تولد مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات فإذا حثت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزاً فسل المنعم، أو كسلاً فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيراً إلا بطاعته، ولا يفوتك خير إلا بمعصيته " (1).
ومما يُؤثر عنهم في هذا الباب أن أغلبهم كان لا يقنع بما يُحصله من علم في بلده، فيبذل زهرة شبابه مرتحلاً من بلد إلى آخر، يلقى الشيوخ والعلماء ليُباشر السماع والأخذ عنهم مشافهة، وذاعت الرحلة كمسلك تعليمي حتى عدها ابن خلدون في مقدمته من كمال التعليم، ورسوخ الملكات وتفتحها! ومن أعجب الأخبار في هذا المسلك ما أورده البخاري في "الأدب المفرد" عن رحلة جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى الشام لسماع حديث من عبد الله بن أنيس - رضي الله عنهما-، ومن أشهرها كذلك رحلة الإمام أحمد بن حنبل التي باشرها وهو ابن ست عشرة سنة، يقول الإمام " رحلت في طلب العلم والسنة إلى الثغور، والشامات، والسواحل، والمغرب، والجزائر، ومكة، والمدينة، والحجاز، واليمن، والعراقين جميعاً، وفارس، وخراسان، والجبال، والأطراف ثم عدت إلى بغداد " (2).
ومن همتهم في التحصيل أنهم كانوا لا يأنفون من التعلم والنهل من كل صنوف المعرفة، حتى مع شهرتهم وذيوع صيتهم بين الناس، ومما يُحكى في هذا الباب عن شيخ المفسرين الإمام محمد بن جرير الطبري أنه كان لا يرضيه الجهل بعلم تسعه الإحاطة به، فاتفق ذات يوم أن سُئل عن شيء في علم العروض، قال: " جاءني يوماً رجل فسألني عن شيء من العروض، ولم أكن نشطت له قبل ذلك، فقلت له: إذا كان غد فتعال إلي، وطلبت من صديق لي العروض للخليل بن أحمد، فجاء به، فنظرت فيه ليلتي، فأمسيت غير عروضي و أصبحت عروضيا " (3)
ومن دلائل همتهم كذلك انشغالهم بطلب العلم عن سائر الملذات، فكانوا يتحملون مشقة الجوع والعطش والعري، ومنهم من امتهن حرفاً يأنف منها اليوم حتى الجاهل! لا لشيء سوى لسد الرمق وشراء الكتب.
فقد باع أبو حاتم الرازي ثيابه لما أقام بالبصرة طلباً للعلم حتى نفد كل ما معه، فكان يقضي يومه في مجالس العلم، وليس بين يديه ما يسد جوعه غير الماء!
ومما يحكيه ابن الجوزي عن حاله زمان خروجه لطلب الحديث أنه كان يأخذ معه أرغفة يابسة، فلا يقدر على أكلها حتى يبلها بالماء.
ولم يحل ضيق ذات اليد دون إقبال الإمام الشافعي على تلقي العلم، فكان - رحمه الله- لا يجد ما يكتب عليه إلا عظام الشاء وأكتافها حتى امتلأت الدار بها.
وضاقت النفقة على الإمام الحافظ أبي علي الوخشي وهو بعسقلان يطلب الحديث، فبقي أياماً بلا أكل حتى عجزت يده عن الكتابة! فكان -رحمه الله- يقعد بجوار دكان خباز ليشم رائحة الخبز ويتقوى بها!
وقد أجاد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -رحمه الله- وأفاد في كتابه الماتع " صفحات من صبر العلماء"، حين جمع من أخبارهم وأحوالهم ما يبعث في نفوس الناشئة فضيلة التأسي بهم، ففيه غنية لمن رام الاستزادة.
إن تخلي نظم التعليم الحديثة، بموجب التبعية، عن تضمين المناهج الدراسية ما يبعث على علو الهمة في التحصيل سواء من سير السلف وأخبارهم، أو مما يفرض رفع التحدي الحضاري، قد زج بناشئتنا في متاهة البحث عن نماذج الاقتداء في الحياة العامة، وبالتالي أتيحت للإعلام المنحل فرصة من ذهب لتوجيه العقول والنفوس صوب الاقتداء بنماذج سيئة، تمعن في فصل أبنائنا عن هويتهم وعقيدتهم، وتستنفد قواهم وطموحاتهم في هوامش إلهاء مقيتة.
إن من جنايات التعليم الحديث على أبناء المسلمين أنه أضعف روحهم المعنوية، وجفف منابع الرجولة في نفوسهم حين أعاد تشكيل آمالهم وتصوراتهم بشكل يقطع صلتهم بأسئلة الحاضر وتطلعات المستقبل، لذا فإن التربية على القدوة وعلو الهمة تستمد ضرورتها اليوم من حراك تطمح الأمة من خلاله وصل ما انقطع، واستكمال مسيرة البناء الحضاري.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
(1) أبو الفرج بن الجوزي: لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. مكتبة الإمام البخاري. ط1. 1412هـ. ص 31
(2) عبد الفتاح أبوغدة: صفحات من صبر العلماء. مكتب المطبوعات الإسلامية. ط2. 1394هـ. ص 25
(3) د.أحمد الحوفي: الطبري.المؤسسة المصرية العامة للتأليف و النشر.1963. ص 71 *