مغزى الحياة

تدبرت كثيرًا في مسألة قيام الأمم، فلاحظت أمرًا عجيبًا!
وهو أن فترة الإعداد تكون طويلة جدًّا، قد تبلغ عشرات السنين، بينما تقصر فترة التمكين حتى لا تكاد أحيانًا تتجاوز عدة سنوات!.
فعلى سبيل المثال بذل المسلمون جهدًا خارقًا لمدة تجاوزت ثمانين سنة؛ وذلكـ لإعداد جيش يواجه الصليبيين في فلسطين، وكان في الإعداد علماء ربانيون، وقادة بارزون..
لعل من أشهرهم عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي - رحمهم الله - جميعًا..
وانتصر المسلمون في حطين، بل حرروا القدس، وعددًا كبيرًا من المدن المحتلة،
وبلغ المسلمون درجة التمكين في دولة كبيرة موحدة..
ولكن ويا للعجب لم يستمر هذا التمكين إلا ست سنوات.. !.
ثم انفرط العقد بوفاة صلاح الدين، وتفتتت الدولة الكبيرة بين أبنائه وإخوانه،
بل كان منهم من سلم القدس بلا ثمن تقريبًا إلى الصليبيين.. !!.
كنت أتعجب لذلكـ، حتى أدركت السُّنَّة، وفهمت المغزى..
إن المغزى الحقيقي لوجودنا في الحياة ليس التمكين في الأرض، وقيادة العالم..
وإن كان هذا أحد المطالب التي يجب على المسلم أن يسعى لتحقيقها
ولكن المغزى الحقيقي لوجودنا هو عبادة الله:
قال - تعالى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ).
وحيث إننا نكون أقرب إلى العبادة الصحيحة لله في زمن المشاكل والصعوبات،
وفي زمن الفتن والشدائد أكثر بكثير من زمن النصر والتمكين
فإن الله - من رحمته بنا - يطيل علينا زمن الابتلاء والأزمات؛ حتى نظل قريبين منه فننجو..
ولكن عندما نُمكَّن في الأرض ننسى العبادة، ونظن في أنفسنا القدرة على فعل الأشياء،
ونفتن بالدنيا، ونحو ذلكـ من أمراض التمكين..
قال - تعالى -: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
ولا يخفى على العقلاء أن المقصود بالعبادة هنا ليس الصلاة والصوم فقط، إنما هو في الحقيقة منهج حياة..
إن العبادة المقصودة هنا هي:
صدق التوجه إلى الله..
وإخلاص النية له..
وحسن التوكل عليه..
وشدة الفقر إليه..
وحب العمل له..
وخوف البعد عنه..
وقوة الرجاء فيه..
ودوام الخوف منه..
إن العبادة المقصودة هي:
أن تكون حيث أمركـ الله أن تكون.
وأن تعيش كيفما أراد الله لكـ أن تعيش..
وأن تحب في الله..
وأن تبغض في الله..
وأن تصل لله..
وأن تقطع لله..
إنها حالة إيمانية راقية تتهاوى فيها قيمة الدنيا حتى تصير أقل من قطرة في يمٍّ،
وأحقر من جناح بعوضة، وأهون من جدي أَسَكَ ميت..
كم من البشر يصل إلى هذه الحالة الباهرة في زمان التمكين.. ؟!!
إنهم قليلون قليلون!
ألم يخوفنا حبيبي من بسطة المال، ومن كثرة العرض، ومن انفتاح الدنيا.. ؟!
ألم يقل لنا وهو يحذرنا: (فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ) !
إن المريض قريب من الله غالب وقته، والصحيح متبطر يبارز الله المعاصي بصحته..
والذي فقد ولده أو حبيبه يناجي الله كثيرًا، ويلجأ إليه طويلاً، أما الذي تمتع بوجودهما ما شعر بنعمة الله فيهما..
والذي وقع في أزمة، والذي غُيِّب في سجن، والذي طُرد من بيته،
والذي ظُلم من جبار، والذي عاش في زمان الاستضعاف
كل هؤلاء قريبون من الله..
فإذا وصلوا إلى مرادهم، ورُفع الظلم من على كواهلهم نسوا الله، إلا من رحم الله وقليل ما هم..
هل معنى هذا أن نسعى إلى الضعف والفقر والمرض والموت؟!
أبدًا، إن هذا ليس هو المراد.. !
إنما أُمرنا بإعداد القوة، وطلب الغنى، والتداوي من المرض، والحفاظ على الحياة..
ولكن المراد هو أن نفهم مغزى الحياة..
إنه العبادة، ثم العبادة، ثم العبادة، وبكل صورها..
ومن هنا، فإنه لا معنى للقنوط أو اليأس في زمان الاستضعاف، ولا معنى لفقد الأمل عند غياب التمكين، ولا معنى للحزن أو الكآبة عند الفقر أو المرض أو الألم..
إننا في هذه الظروف - مع أن الله طلب منا أن نسعى إلى رفعها - نكون أقدر على العبادة، وأطوع لله، وأرجى له وإننا في عكسها نكون أضعف في العبادة، وأبعد من الله.. إننا لا نسعى إليها، ولكننا (نرضى) بها..
إننا لا نطلبها، لكننا (نصبر) عليها..
إن الوقت الذي يمضي علينا حتى نحقق التمكين ليس وقتًا ضائعًا، بل على العكس، إنه الوقت الذي نفهم فيه مغزى الحياة والزمن الذي نعبد الله فيه حقًّا، فإذا ما وصلنا إلى ما نريد ضاع منا هذا المغزى
وصرنا نعبد الله بالطريقة التي نريد، لا بالطريقة التي يريد! أو إن شئت فقُلْ نعبد الله..