من معالم الانحراف الأصولي
مشاري بن سعد الشتري
ثمَّة إشارات مبكرة تستشرف وجود انحرافٍ في التعامل مع الملف الأصولي، من ذلك ما جاء في سنن أبي داود من حديث أبي رافعٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لاَ أُلفِيَنَّ أَحَدَكُم مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأتِيهِ الأَمرُ مِن أَمرِي مِمَّا أَمَرتُ بِهِ أَو نَهَيتُ عَنهُ فَيَقُولُ لاَ نَدرِي مَا وَجَدنَا فِى كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعنَاهُ)).
هذا التوجيه النبوي المبكر يقضي بصيانة مصدرٍ من مصادر الاستدلال من أي محاولة تحجِّر من وظيفته، وعلى ذلك - أعني صيانة مصادر الاستدلال - درج أهل العلم، فأقاموا علم (أصول الفقه) وجدُّوا في إحكامِ فصوله ومسائله، وسأسعى هنا - بإيجاز - في تقييد بعض معالم الانحراف الأصولي.
علم أصول الفقه من أجلِّ علوم الشريعة، إذ به يُتوصَّل إلى معرفة أدلة الشريعة وكيفية استثمارها لكشف الأحكام الشرعية وتوليدها، ولولاه "لم يثبت من الشريعة قليل ولا كثير، فإن كل حكم شرعي لا بُدَّ له من سبب موضوع ودليلٍ يدل عليه وعلى سببه، فإذا ألغينا أصول الفقه ألغينا الأدلة، فلا يبقى لنا حكمٌ ولا سبب، فإن إثبات الشرع بغيرِ أدلته وقواعدِها بمجرد الهوى خلافُ الإجماع"[1]، ومن هنا تبرز ضرورة صيانة هذا العلم من كل دخيل، فإنه بمنزلة المقدمات لبيان مراد الله ورسوله، وإذا فسدت المقدمات اعوجَّت النتائج.. وللخلل إلى هذا العلم مداخل، من أخصِّها:
1- إقامة أدلةٍ محدثةٍ لم يرد في الوحي ما يدل على اعتبارها.
2- توظيف الأدلة المعتبرة توظيفًا فاسدًا.
3- تضييق العمل بالأدلة المعتبرة وإبطالها.
وبين هذه الثلاثة قدرٌ من التداخل، فمن الأول جَعلُ الخلاف دليلاً على الإباحة، وعدُّ الإلهام والمنامات من أدلة الأحكام، ومن الثاني إسراف بعض أهل الرأي في استعمال دليل القياس، ومبالغة بعض الـمُحدَثين في إعمال المقاصد حتى أفضى بهم الحال إلى إبطال جملةٍ من الأحكام المنصوصة، ومن الثالث حسرُ النصِّ بمسلك التأويل، وإبطال القياس والإجماع.. ولدفع غائلة هذه المداخل عُني أهل العلم ببيان ما كان معتبراً من الأدلة، وأقاموا شروط إعمالها؛ ليستقيم بناء الحكم الشرعي عليها، كما أوضحوا مراتب الأدلة وخطوا سبيل النظر حال تعارضها، وفصَّلوا القول فيمن يسوغ له التكلم في دين الله، ورسموا حدود الاجتهاد وبينوا المشروع منه والممنوع.
ينبوع الانحراف الأصولي:
الجهلُ بالأدلة المعتبرة ومراتبها - وأسُّها: الكتاب والسنة والإجماع والقياس - ينبوع الانحراف الأصولي، فمهما قصَّر الناظر في دراية واحدٍ منها فقد اقتبس شعبة من الانحراف، واضطرَّه الحال إلى سوء استثمارها، أو اجترار ما ليس معتبراً، وفي المقابل فإن من استحوذ عليها أغناه ذلك عن غيرها، ووُقي زلَّةَ النظر، فـ "مَن كان متبحراً في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص والأقيسة"[2]، ولم يحتج معها إلى تكلُّفٍ في الرأي أو استحداثِ أدلةٍ لم يعتبرها الشارع.. وهذا المعنى طاف حوله الإمام الشافعي - رحمه الله - في صدر رسالته حين قال: "فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها"، وليس يعني - رحمه الله - دلالةَ النص القرآني على عين النازلة، ولكنه يشير إلى مركزية القرآن الكريم في تقرير الأحكام، وذلك أن المسألة تكتسب حكمها من كتاب الله بتنصيصه على خصوصها، أو بإلحاقها بما كان منصوصاً، أو باندراجها في مدلول نصٍّ عام، أو من خلال دليل آخر دلَّ الكتاب الحكيم على اعتباره.
والمراد أن العلم بدلائل الوحي يعصم من الزيغ، والجهل بها جسر موصل إلى سلسلة انحرافات يتفاوت خطرها بقدر بعدها عن رحاه، فكلما ابتعد المرء عن دائرة الوحي سارت به أهواؤه، ليبني أحكامه على أنقاض النصوص، وهكذا ترى العلاقة بين الحق والباطل علاقةَ مدافعة ومغالبة، وليس للحق الخالص قَرارٌ بجوار الباطل الخالص، فكما أن ضمور السنن قاضٍ بظهور البدع، فكذا الأدلة الصحيحة إذا انطمرت صالت الأدلة الفـــاسدة وراجت سوقها.. قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "لو جاز تعطيل القياس جاز لأهل العقول من غير أهل العلم أن يقولوا فيما ليس فيه خبرٌ بما يحضرهم من الاستحسان"[3].
والاستحسان - في اصطلاح الشافعي - من القول بالباطل، إذ هو تشريع من قائله، ولما قصرت طوائف من أهل السلوك عن درك بعض دلائل الوحي نزع أصحابها إلى الاعتماد على الأذواق والمواجيد والمنامات، ولما بعدت الشقة بين أهل الكلام والسنن المروية كان من سمت مقالاتهم الشطط عن نهج السابقين الأولين.
من النص إلى المقاصد:
وثمة إشكالية أخرى تتعلق بسوء التوظيف الدلالي، تتولَّد من إجراء الدليل المعتبر في غير سياقه - وفي ضمن ذلك إبطالٌ لأدلة معتبرة أخرى - ولفقه ذلك يحسن التنبيه على مقدمةٍ ضرورية، وهي أن الدليل الشرعي إنما يؤتي ثمرته بإعماله في موقعه، وإلا كان أرضاً خصبة لأحكام باطلة، فدراية مراتب الأدلة من أجلِّ مقامات الناظر في مسائل الشريعة، وذلك لئلا تضطرب آراؤه ويضرب بعضها بعضاً، فالوحي من كتابٍ وسنةٍ أساس الأدلة، وبه تُعلم أحكام المسائل، والإجماع متكئ على أحدهما فلا استقلال له، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فلا يوجد قط مسألة مجمعٌ عليها إلا وفيها بيان من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلَّها منصوصة"[4].
ثم إن عُدِم النصُّ الدال على حكم عين المسألة نُظر في شمول مدلول النصوص للمسألةِ محلِّ البحث، فإن لم يلح للفقيه هذا الشمول بحث لها عن حكم منصوص يضارعها في مناط الحكم حتى تمدَّ حبالها إليه، وذلك القياس، فالقياس إنما يستقيم تركيبه بعد انتفاء النص المعين، ولذا قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلافهم ولسان العرب"[5]، ثم هو مفتقر بعد ذلك إلى فهم مخارج كلام الشارع، وقابليته لاستخراج العلل من عدمه، ثم في إمكان تعديتها أو يُصار إلى قصرها على محلها[6].
فإن لم يك للمسألة أصلٌ تشاركه العلة الجزئية انتُقِل بها إلى إطار أوسع، وهو ما كان من المسائل مشاركاً لها في جنس المعنى، وذلك ما يدعونه بالمصلحة المرسلة، فالمصالح معتبرةٌ فيما لا يزاحم النص، إذ إنه ينطوي ضرورةً على المصلحة المعتبرة المقصودة، فإعمال النظر لتلمس حكمٍ مبني على مصلحةٍ ما؛ مع وجود النص ضربٌ من العبث، ولتقرير ذلك يقول الطوفي الحنبلي في نصٍّ عزيزٍ مخبوء: "ولا شك أننا وغيرنا من المذاهب وإن قلنا باعتبار المصالح والمناسبات لكنها مناسبات شهد لها الشرع ودلَّ عليها الدليل، فأما مجاوزة الحد في اعتبار المناسبات إلى أن يعتبر منها ما لاشاهد له أو لا دليل عليه بل قد يخالف النصوص، فليس ذلك من اعتبار المصالح"[7].
فإن تعذَّر قياس الجنس نُظر في المعاني الكلِّية المحصَّلة من مجموع نصوص الشريعة، فيسعى المجتهد في ردِّ تلك المسألة إلى أقرب معنى كلِّيٍّ يطوِّقها، وتلكم المعاني هي مقاصد الشريعة.. فإعمالُ المقاصد مقيَّدٌ بشروط ثقال، من تَخلُّفِ النص - جزئياً كان أو عاماً - وتعذر القياسِ على المنصوص، وقياسِ الجنس (المصلحة المرسلة)، فتُدفع المسألة بعد انعدام هذه الأُطُر لتُطوى في ظرفِ مقاصد الشريعة، وكلما تأخرت مرتبة الدليل كان إعماله أكثر عُرضة للخطأ، ولذا قال ابن عاشور: "حقُّ العاميِّ أن يتلقَّى الشريعة بدون معرفة المقصد؛ لأنه لا يُحسِن ضبطه ولا تنزيلَه، ثم يُتوسَّع للناس في تعريفهم المقاصدَ بمقدار ازدياد حظهم من العلوم الشرعية، لئلا يضعوا ما يُلقَّنون من المقاصد في غير مواضعه فيعود بعكس المراد"[8].
يتبع