الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
فمن أشهر كتب العلامة ابن القيم رحمه الله كتابه الموسوم بـ"الروح"، وقد ضمَّ الكتاب بين جوانبه فوائد متنوعة في فنون متعددة، لعل من أهمها ما كتبه عن الفروق بين الخصال المحمودة والمذمومة، وقد أثنى العلامة ابن القيم على ما كتبه حولها بقوله: "ولا تستطِلْ هذا الفصل؛ فلعله أنفع فصول الكتاب، والحاجة إليه شديدة".
وقد يسر الله الكريم لي فقمتُ بانتقاء فوائدَ من هذا الفصل ومن غيره من الفصول التي كتبها العلامة ابن القيم في كتابه، أسأل الله أن ينفع بها، ويبارك فيها.
عذاب القبر ونعيمه:
لتعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها: أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعَّمة أو معذَّبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانًا فيحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أُعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العالمين.
الأسباب المنجية من عذاب القبر:
من أنفعها: أن يجلس الإنسان عندما يريد النوم لله ساعةً، يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألَّا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلًا للعمل، مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقيل ربه، ويستدرك ما فاته.
وليس للعبد أنفع من هذه التوبة ولا سيما إذا عقَّب ذلك بذكر الله، واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم حتى يغلبَه النوم، فمن أراد الله به خيرًا وفقه لذلك، ولا قوة إلا بالله.
أصحاب القبور:
... ولما كان أكثر الناس كذلك، كان أكثر أصحاب القبور معذبين والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب، ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبينات، وفي باطنها الدواهي والبليَّات تغلي بالحسرات، كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها؛ وقد حِيل بينها وبين شهواتها وأمانيها.
تالله لقد وعظتْ، فما تركت لواعظٍ مقالًا، ونادت: يا عُمَّار الدنيا، لقد أعمرتم دارًا موشكة بكم زوالًا، وخربتم دارًا أنتم مسرعون إليها انتقالًا، عمرتم بيوتًا لغيركم منافعها وسُكناها، خربتم بيوتًا ليس لكم مساكن سواها.
عذاب القبر دائم ومنقطع:
عذاب القبر... نوعان:
نوع دائم: سوى ما ورد في بعض الحديث أنه يخفَّف عنهم ما بين النفختين، فإذا قاموا من قبورهم قالوا: ﴿ يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ﴾ [يس: 52]، ويدل على دوامه قوله تعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ﴾ [غافر: 46]، ويدل عليه ما تقدم في حديث سَمُرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ((فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة)).
النوع الثاني: إلى مدةٍ ثم ينقطع: وهو عذاب بعض العصاة الذين خفَّت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه، ثم يخفف عنه، كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب، وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب حَجٍّ...
النفس الأمَّارة:
... النفس الأمارة فهي المذمومة، فإنها تأمر بكل سوء، وهذا من طبيعتها إلا مَن وفقها الله وثبتها وأعانها، فما تخلص أحدٌ من شرِّ نفسه إلا بتوفيق الله له؛ كما قال تعالى حاكيًا عن امرأة العزيز: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]... وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم خطبة الحاجة: ((إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له))، فالشر كامن في النفس، وهو موجب سيئات الأعمال، فإن خلَّى اللهُ بين العبد وبين نفسه، هلك بين شرها وما تقتضيه من سيئات الأعمال، وإن وفقه وأعانه، نجَّاه من ذلك كله، فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
النفس اللوامة:
اللوامة: هي التي أقسم بها سبحانه في قوله: ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2]، فاختُلف فيها؛ فقالت طائفة: "هي التي لا تثبت على حال واحدة"، أخذوا اللفظة من التلوُّم وهو التردد، فهي كثيرة التقلب والتلون، وهي من أعظم آيات الله، فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة - فضلًا عن اليوم والشهر والعام والعمر - ألوانًا متلونةً، فتذكر وتغفل، وتُقبِل وتعرِض، وتلطُف وتكثُف، وتنيب وتجفو، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتعصي، وتتقي وتفجر، إلى أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها، فهذا قولٌ.
وقالت طائفة: "اللفظة مأخوذة من اللوم"... فإن كل أحد يلوم نفسه برًّا كان أو فاجرًا، فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته، والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها... وقالت فرقة أخرى: "هذا اللوم يوم القيامة، فإن كل أحد يلوم نفسه؛ إن كان مسيئًا على إساءته، وإن كان محسنًا على تقصيره".
وهذه الأقوال كلها حق ولا تنافي بينها؛ فإن النفس موصوفة بهذا كله، وباعتباره سُميَّت لوامة، ولكن اللوامة نوعان:
لوامة ملومة: وهي النفس الجاهلة الظالمة التي يلومها الله وملائكته.
ولوامة غير ملومة: وهي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده، فهذه غير ملومة.
وأشرف النفوس مَن لامت نفسها في طاعة الله، واحتملت ملام اللائمين في مرضاته؛ فلا تأخذها فيه لومة لائم، فهذه قد تخلصت من لوم الله لها، وأما من رضيت بأعمالها... ولم تحتمل في الله ملام اللُّوَّام، فهي التي يلومها الله عز وجل.
النفس المطمئنة:
النفس المطمئنة هي أقل النفوس البشرية عددًا، وأعظمها عند الله قدرًا، وهي التي يقال لها: ﴿ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 28 - 30]، والله سبحانه المسؤول المرجوُّ الإجابة أن يجعل نفوسنا مطمئنةً إليه، عاكفةً بهمتها عليه، راهبةً منه، راغبةً فيما لديه، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وألَّا يجعلنا ممن أغفل قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فُرُطًا.
فرح القلب وابتهاجه:
ابتهاج القلب وسروره وفرحه بالله وأسمائه وصفاته وكلامه ورسوله ولقائه - أفضل ما يُعطاه، بل هو أجلُّ عطاياه، والفرح في الآخرة بالله ولقائه بحسب الفرح به ومحبته في الدنيا، فالفرح بالوصول إلى المحبوب يكون على حسب قوة المحبة وضعفها، فهذا شأن فرح القلب.
وله فرح آخر، وهو فرحه بما منَّ الله به عليه من معاملته والإخلاص له، والتوكل عليه والثقة به، وخوفه ورجائه، وكلما تمكن في ذلك، قويَ فرحه وابتهاجه.
القلب الرقيق:
رقة القلب... ناشئة من صفة الرحمة التي هي كمال، والله إنما يرحم من عباده الرحماء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرق الناس قلبًا... فرِقَّةُ القلب رحمة ورأفة.
والقلب... إذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد، وامتلأ من محبة الله وإجلاله - رقَّ وصارت فيه الرأفة والرحمة، فتراه رقيقًا رحيمًا رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، يرحم النملة في جحرها، والطير في وكرها، فضلًا عن بني جنسه، فهذا أقرب القلوب من الله تعالى.
قال أنس: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالعيال)).
والله سبحانه إذا أراد أن يرحم عبدًا، أسكن في قلبه الرأفة والرحمة، وإذا أراد أن يعذبه، نزع من قلبه الرحمة والرأفة، وأبدله بهما الغلظة والقسوة.
القلب المطمئن:
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج والاضطراب عنه، وهذا لا يتأتى بشيء سوى ذكر الله البتة، وأما ما عداه فالطمأنينة إليه وبه غرور، والثقة به عجز.
قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا مرد له أن من اطمأن إلى شيء سواه، أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته كائنًا من كان، بل لو اطمأن العبد إلى علمه وحاله وعمله، سُلِبَهُ وزايله.
وقد جعل الله سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضًا لسهام البلاء؛ ليعلم عباده وأولياؤه أن المتعلق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.
وها هنا سرٌّ لطيف يجب التنبيه عليه والتنبه له والتوفيق له بيدِ مَن أَزِمَّة التوفيق بيده، وهو أن الله سبحانه جعل لكل عضو من أعضاء الإنسان كمالًا إن لم يحصل له، فهو في قلق واضطراب وانزعاج؛ بسبب فقد كماله الذي جعل له... وجعل كمال القلب ونعيمه وسروره ولذته وابتهاجه في معرفته سبحانه وإرادته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والشوق إليه والأنس به، فإذا عُدم القلب ذلك كان أشد عذابًا واضطرابًا من العين التي فقدت النور الباصر، ومن اللسان الذي فقد قوة الكلام والذوق، ولا سبيل له إلى الطمأنينة بوجه من الوجوه، ولو نال من الدنيا وأسبابها ومن العلوم ما نال، إلا بأن يكون الله وحده هو محبوبه وإلهه ومعبوده وغاية مطلوبه، وأن يكون هو وحده مستعانه على تحصيل ذلك.
اليقظة أول مفاتيح الخير:
اليقظة أول مفاتيح الخير؛ فإن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة النائم، بل أسوأ حالًا منه؛ فإن الغافل يعلم وعد الله ووعيده، وما تتقاضاه أوامر الرب تعالى ونواهيه وأحكامه من الحقوق، ولكن يحجبه عن حقيقة الإدراك ويقعده... سِنَة القلب وهي غفلته التي رقد فيها، فطال رقوده وركد وأخلد إلى نوازع الشهوات، فاشتد إخلاده وركوده وانغمس في غمار الشهوات، واستولت عليه العادات، ومخالطة أهل البطالات... فهو في رُقاده مع النائمين، وفي سكرته مع المخمورين، فمتى انكشفت عن قلبه سِنةُ هذه الغفلة بزجرةٍ من زواجر الحق في قلبه، استجاب فيها لواعظ الله في قلب عبده المؤمن، أو همة عليه أثارها معمول الفكر في المحل القابل، فضرب بمعمول فكره، وكبَّر تكبيرة أضاءت له منها قصور الجنة... فأثارت له تلك الفكرة نورًا رأى في ضوئه ما خُلق له وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى دخول دار القرار، ورأى سرعة انقضاء الدنيا وعدم وفائها لبنيها، وقتلها لعشاقها، وفعلها بهم أنواع المثُلاتِ، فنهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلًا: ﴿ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 56]، فاستقبل بقية عمره التي لا قيمة لها مستدركًا ما فات، محييًا ما أمات، مستقيلًا بها ما تقدم له من العثرات، منتهزًا فرصة الإمكان التي إن فاتت فاته جميع الخيرات، ثم يلحظ في نور تلك اليقظة نعمة ربه عليه من حين استقر في الرحم إلى وقته وهو يتقلب فيها ظاهرًا وباطنًا، ليلًا ونهارًا، يقظةً ومنامًا، سرًّا وعلانيةً، فلو اجتهد على إحصاء أنواعها لَما قدر، ويكفي أن أدناها نعمة النفس، ولله عليه في كل يوم أربعة وعشرون ألف نعمة، فما ظنك بغيرها؟
ثم يرى في ضوء ذلك النور أنه آيسٌ من حصرها وإحصائها، عاجز عن أداء حقها، وإنَّ المنعم بها إنْ طالبه بحقوقها استوعب جميع أعماله حق نعمةٍ واحدة منها، فيتيقن حينئذٍ أنه لا مطمع له في النجاة إلا بعفو الله ورحمته وفضله.
ثم يرى في ضوء تلك اليقظة أنه لو عمِل أعمال الثَّقَلين من البر، لاحتقرها إلى جنب عظمة الرب تعالى وما يستحقه بجلال وجهه وعظيم سلطانه، هذا لو كانت أعماله منه، فكيف وهي مجرد فضل الله ومنته وإحسانه؛ حيث يسرها له، وأعانه وهيأه لها؟
ثم يبرق له في نور تلك اليقظة بارقة أخرى، يرى في ضوئها عيوب نفسه وآفات عمله، وما تقدم له من الجنايات والإساءات وهتك الحرمات، والتقاعد عن كثير من الحقوق والواجبات، فإذا انضم ذلك إلى شهود نعم الله عليه وأياديه لديه، رأى أن حق المنعم عليه في نعمه وأوامره لم يُبقِ له حسنة واحدةً يرفع بها رأسه، فيطمئن قلبه، وانكسرت نفسه، وخشعت جوارحه، وسار إلى الله ناكس الرأس بين مشاهدة نعمه، ومطالعة جناياته وعيوب نفسه وآفات عمله.
ثم تبرق له بارقة أخرى يرى في ضوئها عزة وقته وخطره وشرفه، وأنه رأس مال سعادته، فيبخل به أن يضيعه فيما لا يقربه إلى ربه، فإن في إضاعته الخسران والحسرة والندامة، وفي حفظه وعمارته الربح والسعادة، فيشح بأنفاسه أن يضيعها فيما لا ينفعه يوم معاده.
ثم يلحظ في ضوء تلك البارقة ما تقتضيه يقظته من سِنَةِ غفلته؛ من التوبة والمحاسبة والمراقبة، والغيرة لربه أن يؤثر عليه غيره، وعلى حظه من رضاه وقربه وكرامته أن يبيعه بثمن بخس في دار سريعة الزوال، وعلى نفسه أن يملك رِقَّها لمعشوقٍ لو فكر في منتهى حسنه ورأى آخره بعين بصيرة، لأنف لها من محبته.
فرح التائب بتوبته فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة:
الفرحة التي تحصل... بالتوبة... فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة، فلو علم العاصي أن لذة التوبة وفرحتها تزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافًا مضاعفة، لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية.
وها هنا فرحة أعظم من هذا كله، وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله، إذا أرسل إليه الملائكة فبشروه بلقائه، وقال له ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، اخرجي راضية مرضية عنك: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30]، ولكن ها هنا أمر يجب التنبيه عليه، وهو أنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد ترحاتٍ ومضضٍ ومحنٍ لا تثبت لها الجبال، فإن صبر لها ظفر بلذة الفرح، وإن ضعف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء.
فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها، لكان العقل يأمره بإيثارها، فكيف ومن بعدها أنواع من الفرح؛ منها: صلاة الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه، ومنها: فتح أبواب السماء له، ومنها: وصلاة ملائكة السماء عليها، وتشييع مقربيها لها إلى السماء الثانية فتُفتح لها، ويصلي عليها أهلها، ويشيعها مقربوها هكذا إلى السماء السابعة، فكيف يُقدَّر فرحها وقد استؤذن لها على ربها ووليها وحبيبها فوقفت بين يديه، وأذِن لها بالسجود فسجدت، ثم سمعته سبحانه وتعالى يقول: اكتبوا كتابه في عليين، ثم يذهب به فيرى الجنة ومقعده فيها وما أعده الله له، ويلقى أصحابه وأهله فيستبشرون به ويفرحون به ويفرح بهم فرح الغائب يقدم على أهله، فيجدهم على أحسن حال، ويقدم عليهم بخير ما قدم به مسافر.
هذا كله قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد، بجلوسه في ظل العرش، وشربه من الحوض، وأخذه كتابه بيمينه، وثقل ميزانه، وبياض وجهه، وإعطائه النور التام، والناس في الظلمة، وقطعه جسر جهنم بلا تعويق، وانتهائه إلى باب الجنة وقد أُزلفت له في الموقف، وتلقِّي خزنتها له بالترحيب والسلام والبشارة، وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه وسراريه.
وبعد ذلك فرح آخر لا يُقدَّر ولا يعبر عنه، تتلاشي هذه الأفراح كلها عنده، وإنما يكون لأهل السنة المصدِّقين برؤية وجه ربهم تبارك وتعالى من فوقهم، وسلامه عليهم، وتكليمه إياهم ومحاضرته لهم.
الخشوع:
الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق: أن خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله وجناياته هو؛ فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوع الجوارح.
وأما خشوع النفاق، فيبدو على الجوارح تصنعًا وتكلفًا، والقلب غير خاشع، وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يُرى الجسد خاشعًا، والقلب غير خاشع.
الفرق بين الجود والسرف:
الفرق بين الجود والسرف: أن الجواد حكيم يضع العطاء مواضعه، والمسرف مبذر قد يصادف عطاؤه موضعه، وكثيرًا لا يصادفه.
وإيضاح ذلك أن الله سبحانه بحكمته جعل في المال حقوقًا... فالجواد يتوخي بماله أداء هذه الحقوق على وجه الكمال، طيبة بذلك نفسه، راضية مؤملة للخلف في الدنيا والثواب في العقبى، فهو يُخرِج ذلك بسماحة قلب وسخاوة نفس وانشراح صدر، بخلاف المبذر فإنه يبسط يده في ماله بحكم هواه وشهوته جزافًا، لا على تقدير ولا مراعاة مصلحة، وإن اتفقت له.
الفرق بين المهابة والكبر:
الفرق بين المهابة والكبر: أن المهابة أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله ومحبته وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك حلَّ فيه النور، ونزلت عليه السكينة، وأُلبس رداء الهيبة، فاكتسى وجهه الحلاوة والمهابة، فأخذ بمجامع القلوب محبةً ومهابةً، فحنَّت إليه الأفئدة، وقرَّت به العيون، وأنست به القلوب، فكلامه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، وعمله نور، وإن سكت علاه الوقار وإن تكلم أخذ بالقلوب والأسماع.
وأما الكبر: فأثر من آثار العُجْبِ والبغي من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، ترحلت منه العبودية ونزل عليه المقت، فنَظْرُهُ إلى الناس شَرْز، ومشيه بينهم تبختر، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار لا الإيثار ولا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيهًا، لا يبدأ من لقيه بالسلام، وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ في الإنعام عليه، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه، لا يرى لأحد عليه حقًّا، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه ويرى فضله عليهم، لا يزداد من الله إلا بعدًا، ولا من الناس إلا صَغارًا وبغضًا.
الفرق بين الرجاء والتمني:
الفرق بين الرجاء والتمني: أن الرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ الطاقة في الإتيان بأسباب الظفر والفوز، والتمني: حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه.
الفرق بين المدارة والمداهنة:
المدارة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما: أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق ويرده عن الباطل، والمُداهِن يتلطف به ليقره على باطله ويتركه على هواه، فالمدارة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق.
الفرق بين الشجاعة والجرأة:
الفرق بين الشجاعة والجرأة: أن الشجاعة من القلب، وهي ثباته واستقراره عند المخاوف... أما الجرأة، فهي إقدام سببه قلة المبالاة وعدم النظر في العاقبة، بل تُقدِم النفس في غير موضع الإقدام، معرِضةً عن ملاحظة العارض، فإما عليها وإما لها.
الفرق بين النصيحة والغيبة:
الفرق بين النصيحة والغيبة: أن النصيحة يكون القصد فيها تحذير المسلم من مبتدعٍ أو فتان أو غاشٍّ أو مفسد، فتذكر ما فيه إذا استشارك في صحبته ومعاملته والتعلق به.
فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين، فهي قربة إلى الله من جملة الحسنات، وإذا وقعت على وجه ذمِّ أخيك وتمزيق عرضه، والتفكُّهِ بلحمه والغض منه، لتضع منزلته من قلوب الناس، فهي الداء العضال، ونار الحسنات التي تأكلها كما تأكل النار الحطب.
الفرق بين العفو والذل:
الفرق بين العفو والذل: أن العفو إسقاط حقك جودًا وكرمًا وإحسانًا مع قدرتك على الانتقام، فتؤثر الترك رغبةً في الإحسان ومكارم الأخلاق، بخلاف الذل، فإن صاحبه يترك الانتقام عجزًا وخوفًا ومهانة نفس، فهذا مذموم غير محمود، ولعل المنتقم بالحق أحسن حالًا منه.
العفو من المخلوق ظاهره ضَيْمٌ وذلٌّ، وباطنه عز ومهابة، والانتقام ظاهره عز، وباطنه ذل، فما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًا، ولا انتقم أحد لنفسه إلا ذلَّ، ولو لم يكن إلا بفوات عز العفو؛ ولهذا ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط.
الفرق بين التواضع والمهانة:
الفرق بين التواضع والمهانة: أن التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه، ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله، وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه ونقائصها وعيوب عمله وآفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خُلُقٌ هو التواضع، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة لعباده، فلا يرى له على أحد فضلًا، ولا يرى له عند أحد حقًّا، بل يرى الفضل للناس عليه والحقوق لهم قبله، وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه.
أما المهانة: فهي الدناءة والخسة، وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضع السفل في نيل شهواتهم.
الفرق بين المنافسة والحسد:
الفرق بين المنافسة والحسد: أن المنافسة المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده من غيرك، فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه، فهي من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر؛ قال تعالى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُو نَ ﴾ [المطففين: 26]، وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلبًا ورغبةً، فتنافس فيه كل من النفسين الأخرى، وربما فرحت إذا شاركتها فيه، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافسون في الخير، ويفرح بعضهم ببعض باشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضًا عليه مع تنافسهم فيه، وهي نوع من المسابقة؛ وقد قال تعالى: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148].
والحسد خلقُ نفسٍ ذميمةٍ وضيعةٍ ساقطةٍ، ليس فيها حرص على الخير، فلعجزها ومهانتها؛ تحسد من يكسب الخير والمحامد ويفوز بها دونها، وتتمنى أن لو فاته كسبها حتى يساويها في العدم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ [النساء: 89]، وقال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109]، فالحسود عدو النعمة، متمنٍّ زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو، والمنافس مسابق النعمة، متمنٍّ تمامها عليه وعلى من ينافسه.
الفرق بين الحب في الله والحب مع الله:
الفرق بين الحب في الله والحب مع الله، وهذا من أهم الفروق، وكلٌّ محتاج بل مضطر إلى الفرق بين هذا وهذا؛ فالحب في الله هو من كمال الإيمان، والحب مع الله هو عين الشرك.
والفرق بينهما: أن الحب في الله تابع لمحبة الله، فإذا تمكنت محبته من قلب العبد أوجبت تلك المحبة أن يحب ما يحبه الله، فإذا أحب ما أحبه ربه ووليه، كان ذلك الحب له وفيه، كما يحب رسله وأنبياءه وملائكته وأولياءه لكونه تعالى يحبهم، ويبغض من يبغضه لكونه تعالى يبغضه.
وعلامة هذا الحب والبغض في الله: أنه لا ينقلب بغضه لبغيضِ اللهِ حبًّا لإحسانه إليه، وخدمته له، وقضاء حوائجه، ولا ينقلب حبه لحبيبِ اللهِ بغضًا إذا وصل إليه من جهته ما يكرهه ويؤلمه، إما خطأً وإما عمدًا، مطيعًا لله فيه، أو متأولًا ومجتهدًا، أو باغيًا نازعًا تائبًا.
الفرق بين الاحتياط والوسوسة:
الفرق بين الاحتياط والوسوسة: أن الاحتياط الاستقصاء والمبالغة في اتباع السنة وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من غير غلوٍّ ومجاوزة، ولا تقصير ولا تفريط، فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله.
وأما الوسوسة: فهي ابتداع ما لم تأتِ به السنة، ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، زاعمًا أنه يصل بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه، كمن يحتاط - بزعمه - ويغسل أعضاءه في الوضوء فوق الثلاثة، فيسرف في صبِّ الماء في وضوئه وغسله، ويصرح بالتلفظ بنية الصلاة مرارًا أو مرة واحدة، ويغسل ثيابه مما لا يتيقن نجاسته احتياطًا، ويرغب عن الصلاة في نعليه احتياطًا، إلى أضعاف أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون دينًا، وزعموا أنه احتياط، وقد كان اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أولى بهم.
الفرق بين النصيحة والتأنيب:
الفرق بين النصيحة والتأنيب: أن النصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة له، والشفقة عليه، والغيرة له وعليه... ومراد الناصح بها وجه الله ورضاه، والإحسان إلى خلقه، فيتلطف في بذلها غاية التلطف، ويتحمل أذى المنصوح ولائمته.
وأما المؤنب: فهو رجل قصده التعيير والإهانة، وذمُّ من يؤنبه، وشتمه في صورة النصح... وعلامة هذا أنه لو رأى من يحبه ويحسن إليه على مثل هذا، عمل هذا، أو شر منه لم يعرض له، ولم يقل له شيئًا، ويطلب له وجوه المعاذير.
ومن الفروق بين الناصح والمؤنب: أن الناصح لا يعاديك إذا لم تقبل نصيحته، وقال: قد وقع أجري على الله، قبلت أو لم تقبل، ويدعو لك بظهر الغيب، ولا يذكر عيوبك ويبثها في الناس، والمؤنب بضد ذلك.
فوائد متفرقة:
♦ ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: فإما إلى غلو ومجاوزة، وإما إلى تفريط وتقصير، وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك أقوال الناس وآراءهم لِما جاء به، لا مَن ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم.
♦ أولياء الرحمن هم: المخلصون لربهم، المحكِّمون لرسوله في الدِّق والجِلِّ، الذين يخالفون غيره لسنته، ولا يخالفون سنته لغيرها، فلا يبتدعون، ولا يدعون إلى بدعة، ولا يتحيزون إلى فئة غير الله ورسوله وأصحابه، ولا يتخذون دينهم لهوًا ولعبًا، ولا يستحبون سماع الشيطان على سماع القرآن، فأولياء الرحمن: المتلبسون بما يحبه وليهم، الداعون إليه، المحاربون لمن خرج عنه، وأولياء الشيطان المتلبسون بما يحبه وليهم قولًا وعملًا، يدعون إليه، ويحاربون من نهاهم عنه.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/137209/#ixzz65YskCLxq