مقامات القامات

حسّان والأصمعي

بشير عروس

حدّث حافظُ القيِّمُ، قال: أوصدتُ بابَ المكتبةِ ذاتَ ليل، بعد أن أزلتُ من الأترِبةِ ما أذاقَ صدري الويل، ثمّ استندتُ إلى جدارٍ من أسفارٍ يريدُ أن ينهارَ، ورُحتُ أتفكـَّـرُ في رايات المجدِ وزِحامِها، وخيلِها ولـُـغامِها، وفي الأممِ التي أمَّها النقصانُ عندَ تمامِها، فجبَّ غواربَ سنامِها، وخفضَ من أعلامِها وهامِها، ونفض جامَ القتام على أيّامِها.. وفي لطائفِ صُنعِ الله بمَن كانَ تولاّه، إذ ليس يضيعُ من عينُه ترعاه، وإن عرَاهُ ما عرَّاه..
وظلــَّـت نارُ أفكاري تتلظــّى، وشُواظـُـها يتشظـّـى، حتى لم أكد أنالُ منها حظــّـا.. اللهمّ إلاّ ما وقعَ في مسمعي، ومن كلام الأصمعي: «الشعرُ نكِدٌ بابُه الشرّ، فإذا دخل في الخير ضعُفَ ولان..»، وتعالت الجلبة في المكان: هذا حسّــان..، قلت: وما لِحسّان؟!.. ولا مَن أجاب، فثنّيتُ، وأصابعي تثني الكتاب: ألا من مجيب؟ فقالوا: دُونَك ابنُ قريب.. فالتفتُّ حيثُ أشاروا، لأنظُرَ من اختاروا، وإذا بشيخ كـُـبّار، معه أسفارٌ في أطمار، وهو ينشد:
تقوّلوا يا ويلُ لي
عن شيخِهم بالبَلبلِ
قصيدةً مطلعُها:
«صوتُ صفير البُلبل»
تقلقلت أوزانُها
والرقصُ فيها قد حَلي
عَلقتُ في أعلاقها
وعُلّقت بالأعقـُـل
بدا لقلبي قلبُها
لو يقبلون بدَلي
ونظمَها عن المَها
والعينِ والقلبِ الـْـبُلي
بكلّ حَرفٍ ضامِرٍ
أو ظاهرٍ مُبَجَّلِ
وعن غرائبِ اللــُّـغى
ومَن لـَغا وما غَلي
ومن قـَضَوْا وما انْقَضـَوْا
في الحلِّ والمُرتَحل...
حتى إذا تنبَّهَ لِغيبَتي في حُضوره، ورقصي على طُمبوره، قلت: يا أصمعيّ! أأنت قلت عن حسّان للناس؟.. ولا قياس!، فقال: يا لِلرجال! يقتفون أثرَ مَن غَبَر، ولا يسألون ما الخبر.. إنّما هي كلمةٌ قلتُها لِـما رأيتُ مِن كثرةِ الشعر قبل الإسلام، لمّـا أشرِبوا في قلوبهُم الأصنامَ والأزلامَ والآثام، فتوسّعوا فيه لِـهَوانِهـا، وازّينت دَوحتُه بأفنانِها.. ثمّ جاء الحقّ وزهق الباطل، وضاق الشِّـقّ على المُخاتِــل. ولمّا عَناني المثالُ والبرهان، حلّ المقالُ عند حسّان؛ وقد كان يَقدُم على الملوك فيُقدّم، ثمّ أسلم، وصارَ شاعرَ الرسول الأكرم "صلى الله عليه وسلم" .
قلتُ: فَلِــمَ لَم تبيّـن لمَن لا يتبيّن؟ لقد توكــّـأ المُغرِضون على كلامِك، واتـّـخذوا كِنانتَهم من سهامِك، يرمون بها الشعر في صدر الإسلام الأوّل، ويوهِمون أنّ الدينَ للإبداع يُعطــّـل..
فتراجع الشيخُ وتريّث، وتلبّث واسترجعَ وثلــّـث، ثم أنشأ:
ما كنتُ أحسبُ قولي
يُفضي إلى كلّ هذا !
والناس تَهتِفُ: وَبلٌ
إن أنفحَتـْهمْ رَذاذا
إمّا وجدتَ مَجالاً
بُنيَّ، فاهرُبْ لِواذا
ما إن أردتُ والله الغـَـضَّ من شأنه كما يزعمون، فشعرُه غَضّ ولكنّهم عَــمون؛ لقد أخذوا عِنبي طيّباً حلالا، فعصروه وخمّروه وشربوه انتِهالا، فباءوا بذنبهم، بُعداً لهم.
إنما أردتُ أنّ حسّــان لم يعُد يُحسِنُ أن يَقول قولَه في أولاد جفنةَ في جاهليّته:
يمشونَ في الحُلَل المُضاعَف نسجُها
مَشي الجِمال إلى الجمال البُزّل ِ
يسقون مَن وَردَ البَريصَ عليهــمُ
بَردى يُصفـّقُ بالرحيقِ السلسل ِ
قلتُ: هذه القصيدةُ عجوز عقيم، وتالله إنّكَ لفي ضلالِكَ القديم، لا تزالُ تـَخِـفُّ للبيتِ وإن تفرّد، وتَحُفُّ بالصورة وتُخطئُ المقصِد.. ما كانَ شعرُ حسّان في جاهليّته إلاّ بُكاءً وتـَـكـدِية، ولا كانَ دُعاؤهُ إلاّ مُـكــاءً وتصدية.. فلمّا استنّ الإسلامُ ذُبــابَهُ، واعتصرَ إهابَهُ؛ تكشـّـف عن بحرٍ زخّــار، وجيشٍ جرّار، ينضـَـحُ الكفرَ نبلــُـهُ فيُصمي، ويُلزِمُـه الجُحرَ وَبْلــُــه إذ يَهمي.
تمَــلَّ يا أصمَعي معي في هذا الألمعي.. الذي باعَ لِيومِ إسلامِه ستـِّيــنَ قضاها، فنفحَهُ اللهُ ستــِّينَ سِواها.. ونفسٍ ما سوّاها! لقد رَبح حسّانُ البَيــعَ إذ شراها.. فدخلَ في الاستثناء من الشــُّعَراء، وتطايرت عنهُ الخطايا تطايُر الشــَّــعْراء.
قال، وقد اكتنفه سيلٌ سَرب، واكتسحَهُ جيشٌ لَجب: هذا مِن دينِه وقد صحب، فأين في تفنينِه مِن العجب؟!
قلت: أرضٌ مَجهَلٌ تـــألــّـفها، وبئرٌ مَنهلٌ استكشفَها، سلك الطريق الجَدَد اللاحِب، فكانَ الشهاب الرَّصَــدَ الثاقب، يَذبّ عن الإسلام، ويعُبُّ من هديِ خيرالأنام.
شهدت له تميمُ يومَ وُفودِها، وصدورُها عن الحوض دونَ وُرودِها..
وقد بلغَ قولُ النبيّ "صلى الله عليه وسلم" مَسمَعك: «اهجُهم وروحُ القدسِ معك».
والله لولا الإسلامُ لـَـكانَ حسّانُ نِسيًا مَنسيّا، ولنبذناه وراءنا ظهريّا.. ألم تره يصبُّ على الشركِ النـّــكال، وهو يستعجلُ الفتحَ في المقال:
عدِمنا خيلنا إن لم تروْها
تثيرُ النـَّـقعَ، مَوعِدُها كـَداءُ
يبارين الأسنـَّـةَ مُصعِداتٍ
على أكتافِها الأسَلُ الظـِّـماء
فتُرعَدُ قريشُ قبل البطش، ويقعُدُ بهم السَّيرُ، كأنّ على رؤوسِهم الطــّـير..
ولم يبلغك يا أصمَعيّ ما استنـَّــه في مدح النبي ّ "صلى الله عليه وسلم" ، وقد كان يحفظـُـه كما عينه في أهـدابـِــه، حتى صار مثلاً يُتــهدّى بــه...
كلّ ذلك، والأصمعيّ يتخاذل ويتخامل، وأنــا أجادل ولا أجامــل، ثمّ تراجـــع القهقرَى، وقد جمعتُ عليه الورى، ممّن كانوا يسمعون.. ولو كانوا يعون، لما أمسكون.. حتى أبلـّغ حُجّتي وأبلـُغ حاجتي، على لـَجــاجتي.. وأنا أصارعهم: ما لكم عليّ تتكأكأون؟.. اتركوا هذا اللباس..
ثمّ انقطع الباس، وانتفض عن عينيّ النعاس، وعن قلبي الهـُـلواس.. فطفقتُ أقرا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}.