الاحتساب على العلماء الساكتين عن الحق
فهد بن ناصر الجديد


الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول الدين الإسلامي الحنيف، حتى إن بعض أهل العلم قد جعلوه الركن السادس من أركان الإسلام، وقد ميّز الله - تعالى - الأمة الإسلامية عن الأمم السابقة بهذا الأصل العظيم، وإذا كانت العقوبات التي حلّت بنا من كوارث طبيعية، وأمراض بيئية يعود أكثرها إلى تفشي الفساد الإداري والمالي لدى بعض المسؤولين، فإن سكوت العلماء واتخاذهم المسوّغات أشدّ خطرًا من هذا الفساد. وقد ذكر العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في أعلام الموقعين: " أن رجلاً يصوم النهار، ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع ذلك لا يغضب، ولا يتمعّر وجهه ويحمَرّ لله، فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله، وأقلّها دينًا، وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله منه". ا. هـ. ولنتذكر قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: "من أفضل الجهاد: جهاد المنافقين زمن الغربة". (الدرر السنية: 8/6). وجاء عن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله – "إن المنكرات قسمان: الأول: لا يختص إنكاره بأحد، والثاني يختص بالعلماء" ا. هـ.
لذ يجب على العلماء أن يتقوا الله، وأن يقوموا بواجبهم في الاحتساب على الحكام والولاة، كما يجب علينا معشر الدعاة الاحتساب على العلماء الساكتين وفق ما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما قام به السلف الصالح، ومن أهم الأدلة على ذلك:
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم:
قال الله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (البقرة: 159- 160)
قال الشيخ السعدي - رحمه الله -: " هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب؛ فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم؛ بأن يبينوا للناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين، كتْم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، فأولئك (يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)"، إلى أن قال: "ولا يكفي ذلك في الكاتم أيضًا، حتى يبين ما كتمه، ويبدي ضد ما أخفى، فهذا يتوب الله عليه" ا. هـ. باختصار.
وقال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). (آل عمران: 155).
قال الشيخ السعدي - رحمه الله -: "يخبر - تعالى - عن حال الذين انهزموا يوم أحد، وما الذي أوجب لهم الفرار، وأنه من تسويل الشيطان، وأنه تسلّط عليهم ببعض ذنوبهم. فهم الذين أدخلوه على أنفسهم، ومكنوه بما فعلوا من المعاصي؛ لأنها مركبه ومدخله، فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان" ا. هـ.
وقال - تعالى -: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). (المائدة: 7879-).
ثانيًا: الأدلة من الأحاديث الشريفة:
وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ.. ). (المائدة: 105). وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه)). (حديث صحيح رواه الترمذي: 1761).
وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه فتدعونه فلا يستجيب لكم)). (حديث حسن، رواه الترمذي: 1762).
وفي مراسيل الحسن البصري - رحمه الله - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وفي كنفه مالم يمالئ قراؤها أمراءها)).
ثالثًا: نماذج من التاريخ الإسلامي:
وقد ورد في التاريخ الإسلامي مواقف عديدة تؤكد أهمية الاحتساب العلني في حفظ المجتمع، من أهمها:
1- يُعدّ موقف الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في صلح الحديبية من أهم المواقف التي سجلها لنا التاريخ الإسلامي، لما اعترض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتراضًا علنيًا أمام الصحابة، وقال: " فعلامَ نُعطي الدنية في ديننا؟"، ورغم أن عمر ندم فيما بعد، إلاّ أن الرسول لم يخطّئه في أسلوبه العلني.
2- موقف شباب الصحابة بعد معركة مؤتة؛ إذ ورد عن ابن إسحاق بعد عودة الجيش الإسلامي من معركة مؤتة: ((لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون، وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يا فُرّار، فررتم في سبيل الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليسوا بالفُرّار، ولكنهم الكُرّار، إن شاء الله تعالى-)). كما ورد عن ابن إسحاق أيضًا: "أن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت لامرأة سلمة بن هشام بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع المسلمين؟ قالت: والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس: يا فرّار، أفررتم في سبيل الله - عز وجل - حتى قعد في بيته فما يخرج". (السيرة النبوية لابن هشام: 2/382).
3- الإنكار علانية على مروان بن الحكم. قال ابن كثير في البداية والنهاية عن حوادث عام (65هـ): "أول من قدّم الخطبة على الصلاة يوم العيد مروان، فقال له رجل: خالفت السنة، فقال له مروان: إنه قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))". ومن المعلوم أن مروان بن الحكم - رحمه الله - لم يُبايع بالخلافة، وإنما استولى عليها بالسيف. وكان فقيهًا، وعندما خطب يوم العيد، اجتهد فجعل الخطبة قبل الصلاة، فأنكر عليه علانية أحد الحاضرين، ومع ذلك لم ينتصر مروان لنفسه، ولم ينتقم من الرجل، وكان الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري حاضرًا، فلم يوبّخ الرجل، ولم يطلب منه أن ينكر سرًّا؛ خوفًا عليه من الفتنة، بل قال: أما هذا فقد قضى ما عليه.
4- موقف العز بن عبد السلام مع الملك الصالح إسماعيل. قال ابن كثير عن حوادث عام (638هـ): "فيها سلّم الصالح إسماعيل صاحب دمشق حصن سعيف أربون لصاحب صيدا الفرنجي، فاشتد الإنكار عليه بسبب ذلك من الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب البلد" (البداية والنهاية: 13/155).
رابعًا: مواقف في التاريخ المعاصر:
وفي تاريخنا المعاصر حدثت مواقف عظيمة من العلماء كان لها دور كبير في حفظ المجتمع من التمزّق والانهيار بسبب قيامهم بالاحتساب على الحكام، ومن أهمها:
1- موقف الإمام محمد بن عبد الوهاب مع الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود بعد فتح الرياض؛ إذ جاء في إحدى رسائل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: " وكذلك ما قاله إمام هذه الدعوة النجدية، الشيخ محمد - رحمه الله تعالى -، لما أراد عبد العزيز أن يجعل أخاه عبد الله، أميرًا على الرياض بعد فتحها، أنكر ذلك وأعظمه، وقال: هذا قدح وغيبة لإمام المسلمين، وعضده ونصيره؛ لأنه رأى ذلك وسيلة إلى الفرقة، مع أن عبد الله ما يظنّ به إلاّ خيرًا، وحسبك به - رحمه الله –"ا. هـ (الدرر السنية: 9/80).
2- نصيحة الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله - إلى الإمام فيصل بن تركي - رحمه الله - يحثّه على تعيين الصالحين وعزل الفاسقين، ومما جاء فيها: "فلو وُفّق الإمام بالاهتمام بالدين واختار من كل جنس أتقاهم وأحبهم وأقربهم إلى الخير لقام بهم الدين والعدل، فإذا أشكل عليه كلام الناس رجع إلى قوله - صلى الله عليه وسلم – ((دعْ مايريبك إلى مالا يريبك)).. فلو حصل ذلك لثبت الدين، وبثباته يثبت الملك، وباستعمال أهل النفاق والخيانة والظلم يزول الملك ويضعف الدين". (مجموعة الرسائل والمسائل: 1/321-325).
3- نصيحة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن - رحمه الله - إلى الإمام عبد الله بن فيصل - رحمه الله - في رسالة أرسلها إلى الشيخ حمد بن عتيق، فتأمّل أن الرسالة لم تكن سرية بل علنية، وتأمّل ما فيها من شدة الإنكار: "فخاطبته شفاهًا بالإنكار والبراءة، وأغلظت له بالقول أن هذا هدم لأصول الإسلام وقلع لقواعده، وفيه مما لا يحضرني تفصيله الآن، فأظهر التوبة، والندم، وأكثر الاستغفار". (الدرر السنية: 8/391).
4- نصيحة الشيخ حمد بن عتيق - رحمه الله - إلى الإمام سعود بن فيصل - رحمه الله - في وقت كان الإمام سعود شاهرًا سيفه، وغاضبًا للملك: " وأما ما ذكرت من المزاعيل والتخويفات، فجوابه: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). [هود: 56] ونصدع بالحـق إن شـاء الله، ولا قوة إلاّ به، ولا يمنعنا من ذلك تخويف أحد" (الدرر السنية: 9/53).
5- موقف الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف - رحمه الله - مع الأمير عبد العزيز بن رشيد - رحمه الله - لمّا أرسل له رسولاً، وقال له: "أخبره إنا في غنًى عن تدريسه"، أجاب الشيخ: "أخبر الحاكم إني سأدرس، وأعلم، وأخبره أن الأمر من ههنا وأشار إلى السماء (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)". (آل عمران: 126). (تذكرة أولي النهى والعرفان: 2/278).