الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين (1/4)
الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
* غربة الإسلام الأولى: ولكن مع بزوغ شمس الإسلام للوهلة الأولى وإشراقها على أرض الجزيرة المظلمة القاتمة بالشرك والضلال، وبزوغ رسالة الدعوة الإسلامية لهداية الخلق إلى توحيد خالقهم وإفراده بالعبادة وحده، بدأت الجاهلية الأولى بإعلان العداوة لهذا الدين، وإعلان الحرب الكبيرة على هذه الدعوة الإسلامية الجديدة، التي تريد هدم صرح الجاهلية، وهدم كل معتقداتها وتشريعاتها الباطلة وما تحمله من تصورات وأفكار، فبدأت قريش أولاً وهم أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان رفضها وعنادها لهذه الدعوة التي جاء بها ابنها، مع أنهم جميعاً كان بينهم بقايا من الحنفاء ومن أهل الكتاب أمثال زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، ولكن هؤلاء ما كانوا يلقوا شيئاً من أذاهم ولا عنادهم ومكابرتهم، لكن الموقف هذا تغيراً تماماً تجاه دعوة الإصلاح والهداية دعوة الإسلام، فشعر المسلمون الذي آمنوا بهذا الدعوة واتبعوا رسولها، بشيء كبير من الغربة بين هؤلاء القوم فلم يعودوا لهم أولياء ولا أنصاراً، بل تحولت إلى نوع من العداء والاعتداء على الأموال والأبدان بالتنكيل والتعذيب المفرط.
وبدأ المشركون في طريق جديد من الغضب والمقت على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه وآمن به وبرسالته، لقد سلكوا كل طريق لصد الناس عن الإيمان بالله ورسوله، وما تركوا أسلوباً ولا طريقاً إلا سلكوه ضد دعوة الإسلام، فمن ذلك: ما جاء في تاريخ السيرة النبوية وكتبها من السخرية والاستهزاء والتكذيب بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبأتباعه وأصحابه رضي الله عنهم، وتصور معي هذه الغربة الموحشة في قلوب الصحابة، حيث السخرية بهم وبنبيهم ورسالته وكتابه، والقرآن ذكر شيئاً كثيراً من ذلك كما في قوله تعالى:" وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون" ( الحجر:6)، وقوله تعالى:" وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب "(ص:4)، وقوله تعالى:" وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون "(القلم:51)، ولا ريب أن كل هذا سنة من سنن الله تعالى التي وقعت في الأمم الخالية قبلنا كما قال تعالى:" ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون"(الأنعا م:10).
ومن ذلك: صد الناس عن سماع القرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم ولما جاء به، واتهام القرآن والرسول بأنه ساحر وكذاب وكاهن وشاعر إلى آخر هذه السلسلة البائسة من التهم العريضة لأهل الإيمان والحق، قال تعالى:" وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون"(فصلت:26)، ومن ذلك: التعذيب والتنكيل لأصحابه والمؤمنين به المتبعين له، فلقد عذب كثير من الصحابة رضي الله عنهم، من أمثال سيدنا بلال بن رباح، وعمار بن ياسر وأبيه وأمه الذين قضوا نحبهم في سبيل الله تعالى، ومصعب بن عمير، وصهيب بن سنان الرومي، وأبو فكيهة أفلح الذي كان مولىً لبني عبد الدار، وخباب بن الأرت، وزنيرة أمة رومية التي أسلمت ثم عمي بصرها، ثم شفيت فقالوا سحر محمد، وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً وغيرهم كثير ممن آمنوا في طليعة الدعوة الإسلامية.
ومن ذلك أيضاً: إثارة الشبهات الباطلة الكاذبة حول القرآن والرسول، وأنه ما هو إلا بشر مثلهم، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج وينام، كما حكى القرآن عنهم ذلك قال تعالى:" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُورا ً، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيما ً، وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا ً، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُورا ً، انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً" (الفرقان:4-9)، واتهموه بالسحر والشعر والكهانة والجنون، وما كل ذلك إلا ليصدوا عنه الناس وعن أتباعه وتصديقه في رسالته ونبوته، وكذبوا البعث بعد الموت والخروج من القبور، وغير ذلك مما حكاه الله لنا في كتابه العزيز.
ومنها أيضاً: تقديمهم الإغراء والعروض الرخيصة من تولية الملك والسلطان عليهم، وجلب المال له ولأصحابه وجعلهم من أئمة الثراء والغناء بينهم، وتزويجه بالنساء والتمتع بهن على الفرش، وشفائه من أمراضه وعلله إن كان الذي نزل به من الأدواء وأنواع السحر، حقاً إنه السفه البشري الذي أضل العقول والقلوب عن هذا النور والحق، وعن هذا البيان الشافي الهادي الواضح، وعن هذا الإعجاز البين القاهر، لقد غلب عليهم الكفر والمعاندة للحق، والجحود والتكذيب مع كمال علمهم بأنه الصادق الأمين، ولكنها السنن الربانية الجارية في الكون لحكمة يريدها الله تعالى، للتمكين لهذا الدين، والتمهيد الرباني لظهوره على سائر الأديان من دونه والنحل الجاهلية المعاندة.
ومنها أيضاً: محاولاتهم المتكررة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم ومطاردته ونفيه، واجتماع قريش على ذلك بغية الوصول إلى شيء من التصدي لمد هذه الدعوة الجديدة عليهم، وقد أثبت القرآن ذلك ليكون لنا العظة والعبرة من أعداء الدعوة وأصحابها في كل زمان ومكان كما قال تعالى: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ".
* عوامل الثبات والتمكين: ومع تنوع أساليب الجاهلية في مدافعة الحق والغلبة عليه، إلا أن الله ثبت نبيه ورسوله، وثبت الصحابة الذين آمنوا معه، وصدقوا نبوته ورسالته، ثبتهم لا لأنهم أصحاب الثروات والأموال، ولا لأنهم من ذوي الجاه والسلطان، ولكن ثبتهم لعدة عوامل جليلة وجدت في هذا الجيل المؤمن.
وأولها: أنهم أصحاب عقيدة صادقة، وإيمان لا تزعزعه الرياح والأعاصير من الشهوات والشبهات ؛ ولأنهم أيقنوا أن هذا الدين هو فطرتهم التي تصرخ في أعماق نفوسهم أنه لا إله إلا الله وحده، لا يشاركه ولا ينازعه في ربوبيته ولا ألوهيته منازع أو شريك ؛ ولأنهم جعلوا التوحيد طريقهم إلى الله والدار الآخرة، وجعلوا إفراد الله وحده بالعبادة من الذبح والنذر والطواف وغيرها أحق وأجدر، لأنه المعبود المستحق لذلك فلا شريك له، ولا منازع له، ولا مماثل ولا مكافئ له ؛ وثبتهم لما رأى الإيمان خالط بشاشة قلوبهم فأضاء لها الطريق من جديد إلى الله المعبود سبحانه.
وثانيها: أن الله علم منهم صدق المتابعة والاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلقد آمنوا بالله ورسوله، وصدقوه وتابعوه بمجرد الوقوف معهم بإثبات حقيقة الباطل الذي عليه أمر الجاهلية، وأنها عبدت من دون الله ما لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، من الأصنام والأحجار والأوثان، وما إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه وإسلامه من ذلك ببعيد.
وثالثها: إعراضهم عن زينة الحياة الدنيا وزهدهم فيها، فلم يكونوا ممن يريدون شيئاً من متاع الدنيا وزخرفها، ولا متعها وقصورها.
ورابعها: الكتاب المنزل القرآن الذي ملأ قلوبهم معرفة بالله وإجلالاً له، وتعرفاً على أسمائه وصفاته، وبيان وعد الله لهم بما أعده لأولياه وعباده في الدار الآخرة في جنات النعيم، من الثواب العظيم، والنعيم الخالد المقيم، وترغيبهم فيها وذكر بعض ما فيها من اللذات والفرش والنظر إلى وجه الله جل جلاله، فقاموا يتلون ويتدبرون هذا الكتاب، وقاموا به ليلهم متهجدين عابدين حتى تورمت أقدامهم بذلك أول الأمر وكتب السنة فيها من ذكر القيام والتلاوة شيء كثير.
وخامسها: اليقين القلبي الذي أوقعه النبي صلى الله عليه وسلم في نفوسهم بأن الله سيمكن لهم ويبدل خوفهم أمنا وسلاماً، ويجعل العاقبة لهم، فبشرهم ووعدهم وجعل الأمل يدب في قلوبهم، فما كذبوا على استضعافهم، ولا نكلوا على قلتهم، بل صدقوا وثبتوا حتى يأتي أمر الله:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَ ّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَ ّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"، بشر عمار بن ياسر، وبشر سراقة بن مالك، وبشر خباب بن الأرت وغيرهم فأيقنوا وصدقوا.
* البناء والتمكين: لما ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من جيل الدعوة الأول، وصبروا على الكيد والمكر، والصد والاستهزاء، والإعراض والإغراء، وتركوا كل متاعهم وأموالهم، بل ونساءهم وأبنائهم وعشيرتهم لله ورسوله، وكانوا مثالاً واقعياً للثبات على المبادئ والحق، والتضحية الصادقة من أجله ونصرته، لما كان هذا حالهم مكن الله لهم في الأرض، وأذن لهم بالتمكين الموعود لأهل الحق والإيمان، والتوحيد والمتابعة، فلقد أذن لهم بالهجرة إلى المدينة ولرسوله، تمهيداً لعالم ومجتمع إسلامي جديد، مجتمع لا يعرف الجاهلية، ولا يعرف الشرك والوثنية، ولا يعترف بألوهية المخلوقات، ولا بفساد المعاملات، ولا بقيام الحروب والعداوات من أجل لا شيء، ولا يستمد شرائعه وأخلاقه من تصورات بشرية، أو عقائد وأفكار رومانية أو نصرانية، مجتمع لا تتملقه النفوس الدنيئة من أصحاب الشهوات الرخيصة، لقد أزالت الهجرة كل ذلك فالهجرة تجب ما قبلها، لقد قام صرح شامخ للإسلام ودعوته بعد عدة محاولات للهجرة والبناء للحبشة، وزالت غربة الإسلام والرسالة الأولى، ولم تعد غريبة على أرض الجزيرة، بل ظهرت كالشمس المنيرة في رابعة النهار، وعلا صوت الحق والإيمان على أبواق الجاهلية الخاوية، زالت الغربة بهذا التمكين، الذي قام على أكتاف خيرة البشر بعد الرسل إنهم أصحاب الرسول وأتباعه، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه:"فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً "، وكما جاء في الحديث النبوي بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ".
كان الإسلام ودعوته غريباً على عادات وتصورات وعقائد الجاهلية، كان غريباً في عقيدته وتوحيده:"أَجَعَل َ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ "، وكان غريباً في نظامه وشريعته:" قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ "، وكان غريباً في أخلاقه:" إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً"، وكان غريباً في كل شؤونه وأحكامه:" يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم "، وكان غريباً في سياسته وحكمه:" وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم "، " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون "، وكل هذا البناء الشامخ كان السبب في انقلاب الجاهلية بكل مقوماتها وتصوراتها وعقائدها على الدعوة الإسلامية، والوقوف بينها وبين الناس وإيمانهم بها، يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله:" والتقى أهل مكة بأهل يثرب. لا يجمع بينهم إلا الدين الجديد. فكان أروع منظر لسلطان الدين شهده التاريخ. وكان الأوس والخزرج لم ينفضوا عنهم غبار حرب بعاث. ولا تزال سيوفهم تقطر دماً. فألَّف الإسلام بين قلوبهم. ولو أنفق أحد ما في الأرض جميعاً ما ألَّف بين قلوبهم. ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين المهاجرين. فكانت أخوة تزري بأخوة الأشقاء. وتبذ كل ما روي في التاريخ من خلة الأخلاء. كانت هذه الجماعة الوليدة- المؤلفة من أهل مكة المهاجرين وأهل يثرب الأنصار- نواة للأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس ومادة للإسلام، فكان ظهور هذه الجماعة في هذه الساعة العصيبة وقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهدده. وعصمة للإنسانية من الفتن والأخطار التي أحدقت بها. لذلك قال الله تعالى لما حض على الأخوة والألفة بين المهاجرين والأنصار: " إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ".(ماذا خسر العالم:84)
هذه إشارات سريعة للوقوف على واقع الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين في بداية العصر الإسلامي النبوي الأول، وكيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم صياغة جيل الدعوة الفريد، من مرحلة البناء والتكوين، إلى مرحلة القيادة والتمكين، إنه منهج فريد حقاً في كل مقوماته وإنجازاته..