فريضة الصلاة بين الواقعية والخيال
حسام الدين كاظم السامرائي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً..وبعد.
فإن الصلاة من أفرض الفرائض وأهم الأعمال وأقرب القربات، فمن سلمت له تلك الفريضة فإنه قد قارب النجاة ومن ضيعها فإن حظوظ خلاصه أوشكت على النفاد، ولا أريد في هذا المقام أن أتكلم عن أهمية الصلاة أو فرضيتها أو مكانتها أو أركانها أو سننها، إنما شدني حوار دار بيني وبين أحبتي حين سألني أحدهم بما مفاده: لماذا لم نَصِلْ إلى درجة عروة ابن الزبير في خشوعه بصلاته حين قال لطبيبه عندما أراد قطع ساقه بسبب المرض، فقال: إن أنا دخلت في الصلاة فابدءوا بقطع الساق فإني لن أشعر بما يجري حولي، فقلت لأخي السائل: نعم أنا ممن سمع هذا الأثر ومر عليه كثيراً، لكنني أتوقف في فهمه فلو افترضت أنه صحيح النقل فإن غاية ما يفيده أن مثل هذه القصص هي نوادر ولكل قاعدة استثناء، فلم نسمع عمن هو أكثر من عروة ورعاً واتصالاً بالله مثل هذا الخيال.
وهنا أنقل الصورة إلى الواقعية في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم-، فهل هناك أتقى منه - صلى الله عليه وسلم-؟ وهل هناك أنقى وأصفى من سريرته - صلى الله عليه وسلم-؟ وهل هناك شك في أن عيناه تنام وقلبه متصل بالله لا ينام؟ فهذه من المسلمات، ومع ذلك نراه يصلي الليل فيأتم به ابن عباس والحديث صح عند البخاري فيحوله - صلى الله عليه وسلم - من شماله إلى يمينه فهل كان - صلى الله عليه وسلم - يعيش الواقعية أم الخيال؟ ونراه - عليه الصلاة والسلام - يغمز قدم أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- حتى يتسنى له السجود وهي نائمة، فهل كان - عليه الصلاة والسلام - لا يشعر بمن حوله؟ ونراه يطيل السجود في صلاة الجماعة فيرفع الصحابة رؤوسهم ليروا أن على ظهره الشريف أحفاده يلعبون، فلم يشأ أن يقطع عليهم فرحهم، فهل كان - صلى الله عليه وسلم - في غفلة عما يجري عنده؟ ونراه - عليه الصلاة والسلام - يحمل حفيدته أمامة بنت أبي العاص كلما ركع أو سجد، فهل كان في خلوة مختلفة عن مسجده الذي صلى فيه؟ ونراه بأبي هو وأمي يقول بعد إتمام الفريضة لأصحابه: (( من القائل حين قام من ركوعه ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملئ السماوات وملئ الأرض وملئ ما بينهما وملئ ما شئت من شيء بعد فإني أرى الملائكة تتبادر في حملها))، فهل كان بعيداً عن سماع أصوات أصحابه من خلفه في الصلاة؟ ونراه - عليه الصلاة والسلام - يخلع نعاله فيخلع الأصحاب من ورائه نعالهم، فيقول: (( ما الذي دعاكم؟ فيجيب الأصحاب رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: إنما أتاني جبريل فأخبرني أن في نعلي نجس))، فهل تراه شاهد خلع نعال أصحابه وهو بعيد عن واقعه؟ ونراه - عليه الصلاة والسلام- ربما يخفف في صلاة الجماعة؛ لأن رضيعاً يبكي فيداري مشاعر أمه، فهل كان لا يعرف بما يدور من ورائه؟ وربما تقدم في صلاته حتى يلصق بطنه الجدار لكي لا تقطع شاة عليه صلاته وربما تأخر ليفتح باباً لزائر كل ذلك يفعله وهو يعيش لحظته في الواقع الذي حوله.
كلها وغيرها أدلة كثيرة وصحيحة ترشدنا أنه - صلى الله عليه وسلم- ما كان إلا واقعياً في صلاته وإلا كيف له أن يعرف كم ركعة صلى؟ وكيف يعرف ماذا يقرأ هنا وماذا يقول هناك؟ وكيف يعرف بانتقاض وضوئه؟ وكيف يعرف بمن يسلم عليه وهو يصلي ليرد السلام بالإشارة؟ من هنا نفهم أن فعل عروة ابن الزبير إن ثبت، فإنه يدل على الاستثناء لا القاعدة.
واقعية عمار بن ياسر - رضي الله عنه - يروي الإمام أحمد بسند صحيح أثراً من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري يوم أن عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - من إحدى غزواته وفي طريق عودته مع السرية نزلوا شعباً وباتوا ليلتهم وأوكلوا الحراسة لمهاجري وهو عمار بن ياسر - رضي الله عنه - وأنصاري وهو عباد بن بشر - رضي الله عنه -، فجاءت نوبة الحراسة لعباد بن بشر فجاء رجل من المشركين فرمى عباداً بسهم ثم ثان ثم ثالث، ولم يقطع عباد صلاته، حتى أتم السورة أو خشي أن يؤخذ المسلمون على حين غرة، فأيقظ عماراً فما كان من عمار رضي الله عن الجميع إلا أن قال يغفر الله لك ألا كنت آذنتني أول ما رماك؟ فقال: كنت في سورة من القرآن قد افتتحتها أصلي بها فكرهت أن أقطعها وأيم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعه، فلو افترضنا هنا أن ابن بشر استمر في صلاته والعدو يتربص، فماذا تراه سيكون حال المسلمين وحارسهم لا يعي ما يدري حوله؟ ألم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم- بقتل الحية والعقرب في الصلاة والحديث في الصحيحين؟
تأمل في واقعية عمار - رضي الله عنه - حين قال: لمَ لمْ تخبرني؟ وهنا نرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم- ما أنكر على عمار قوله؛ لأنه هو الأصل والأساس والقاعدة والذي يتوافق مع كافة قواعد الشريعة، ونراه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على عباد بن بشر أيضاً؛ لأنه - رضي الله عنه - كان واعياً لما يجري حوله محتاطاً لأي اختراق مدركاً لدوره في حراسة ثغر الأمة..
ما أريد أن أصل إليه.. أن المقصود بالخشوع في الصلاة هو إحسان التهيؤ لها والاستعداد الجيد للدخول فيها والاطمئنان التام بين يدي الله وتدبر الآيات العظيمة والذكر الحكيم وإتمام الأركان دون تعجل واستحضار مراقبة الله - جل وعلا- في كل ذكر من أذكارها وكل هذا لا يعني قطعاً أن المصلي ينبغي أن يغيب عمن حوله أو يفقد حواس الاتصال بالذين يُصلّون معه، فهذا أقل ما يقال عنه أنه خيال لا حقيقة