بسم الله الرحمن الرحيم


نــورا وعــمــو يــاســر

د. أيمن الجندي
منقول






إذا كنت فى مدينة طنطا، تسير فى شارع سعيد، وتصادف مرورك أمام محل كمبيوتر فى الدور الأول من عمارة عتيقة جميلة، فقررت أن تشاهده، لكنك حين صعدتَ الدرج وجدتَ بنتاً مراهقة، تجلس على السلالم تحت مدخل الشقة، مُنكّسة الرأس، تنهمر دموعها فى صمت، فاعلم أنها «نورا» ابنتى، تبكى على جنّتها الضائعة، يكويها الحنين، ويطحنها ألم الفراق.

أخى ياسر ونورا ابنتى، أى خيوط ذهبية ربطت بينهما، مثل زهرة وفراشة، مثل ليل وقمر. تشهد على ذلك شوارع الحى الذى نقيم فيه. كم شاهدتهما وهما يسيران معا فى ساعة العصارى، وعمرها ثلاث سنوات، تسير مع «عمو ياسر» والسعادة تنطق على وجهها العصفورى، مثل طير صغير سعيد. يُطيّر الهواء فستانها الصغير فتبدو سيقانها الرقيقة النحيلة مثل سيقان كتكوت. تُمسك كفه بيدٍ، وفى يدها الأخرى كيس منتفخ بالحلوى ولوح الشيكولاتة المستورد التى يقترب حجمه من حجمها! «عمو ياسر» صاحب الكنز الأسطورى الذى يجعله ينفق بغير حساب. بعد أن تنتهى من اختيار ما يروق لها، دون أن يقول لها «لا» أبدا، يشترى الحلوى لكل أطفال البواب! تعرف جيدا ما سيحدث عند العودة: الأطفال ينتظرون بائع السعادة وصديق الأطفال، يوزع عليهم الحلوى، كما يحدث كل يوم، فتتصاعد صيحات الفرح والابتهاج.

كان ياسر صندوقاً مُغلقاً على أسراره. ما الذى يدفع هذا الشاب الجميل جداً، المتفوق دراسياً، المستقر أسرياً، المحبوب من أصدقائه، لأن يخلع الدنيا من قلبه، كأنها نعل قديم! ما الذى يجعله- وهو الأستاذ بكلية الطب- أن يمتنع عن فتح عيادة ويكرّس حياته للعمل المجانى مع المرضى الفقراء! ولماذا عزف عن الزواج وتحول إلى راهب، مهمته الوحيدة إدخال البهجة فى قلوب البسطاء! ما الظروف الذى دفعته إلى دخول مملكة الصمت، فقط لا تنفك أساريره المُعذّبة إلا مع الأطفال والفقراء! السؤال الأهم: ما سر تعلقه الخارق بنورا ابنتى، التى تلقّاها على يديه لحظة ولادتها؟ ومن ثَمَّ وقع فى غرامها، وكأنها أيقونة عمره، يطعمها بيده، يحكى لها القصص، يعلّمها الأسماء:

يوم بعد يوم، شهر بعد شهر، عام بعد عام! تتفتح للدنيا مثل زهرة يانعة، وفى كل مساء، بعد أن تنتهى من واجبها المدرسى، تذهب إلى بيت العائلة، تهرع إلى حجرة عمو ياسر، هى الوحيدة المأذون لها أن تفتح بابه بلا استئذان. تجلس على حِجْره فيفتح لها الكمبيوتر، ليشاهدا معاً الأفلام، بعدها ينفردان فى الشرفة الواسعة المرصعة بالنجوم، يحكى لها للمرة الألف قصص الأنبياء!
نورا تدخل المدرسة، وفى أول يوم من كل عام دراسى لابد أن يذهب معها، ويلتقط لها الصور. تتراكم الصور، تكبر نورا، تطول، تتغير ألوان الزى المدرسى، لكن دائما عمو ياسر فى خلفية الصور هناك. تغمض عينيها شاعرة بكل أمان الدنيا، وتظن أن هذا الحنان الخالص سيدوم لها كالشمس والنور والماء والهواء، ثم يأتى الحزن الخارق، حينما تدهمنا الحوادث بما لا نتحمله، فنقول لها ونحن نتجنب النظر فى عينيها: «عمو ياسر مات»!

لعدة سنوات لم تخبر أحداً بسرها الصغير الذى عرفناه مصادفة. فى كل يوم حين تعود من المدرسة، تمر على جنتها القديمة التى طُردت منها، تجلس على السلالم، عاجزة عن دخول البيت الذى لم يعد لنا، وأصبح الآن شركة كمبيوتر! تبكى حتى توجعها ضلوعها، ثم تعود فى صمت جنائزى إلى البيت.
وسؤال حائر لا أدرى إجابته: أيهما أفضل: أن نُحرم من السعادة فلا نعرف مذاقها، أم نعبّ من شهدها المُصفّى، ثم نتجرع مرارة العلقم فى نهاية الشراب؟!