مـوتـي هـو مـوتُـك ،، مـا دمـتُ أحـيـا ،، فـأنـتَ هـنـا دائـمـاً ،، تـتـحـركُ فـي الأمـكـنـةِ نـفـسـهـا ،، تـتـنـفـسُ الهـواءَ ذاتـه ،، وتـبـتـسـمُ لغِـنـائِـي !!



الــمــقــعــد الــخــالــي


يصطدمُ بقدمي فأرتعش، يهتز مراراً، أنحني فوق خشبه البارد، ألمسُ حشيتَه بأصابع أثلج حزنها فغدا البيت صقيعاً. تنهمر دموعي قاسية الوقع .
ما تزال حرارة جسده الملتحمة بنسيج الغطاء، تمدّني بالثقة أنّه هنا في مكان ما، أهمس مرتعشة: يا قلبي .
يأتيني صدى الصوت صمتاً ، يتمدد في رأسي ، يتضخم ، يقرعه بعنف ، فتجحظ عيناي في محاولة فاشلة لاستحضار ملامحه .
في الحلم يداعبني بيد حريرية الملمس، يسحبني وراء صمته حدَّ الاختناق، يهمس على إيقاع اللهفة في ضلوعي، تلفح حرارة أنفاسه أذني، أعاود التصاقي به، علّ التحامَنا يعيد الروح إلى الجسد البارد.. لعلّ الشمس المتوارية وراء ضحكته تغمر جسدي بدفء حضوره الصامت أبداً، يسمّرني ألقٌ في الابتسامة، فأتشبث بأهداب النوم، وأغوص تحت اللِحاف. كم مرّ من العمر وأنا أنتظر تلك الابتسامة الّتي تغسل وجودي من الجدب بغيث يهطل في القلب ويروي الروح ؟ كم حلمت به يملأ جنبات البيت مرحاً ، ويعطي حياتي معنى .؟
سنتان مرّتا على رحيله، وما يزال يتنقل بخطو متعثر في أرجاء القلب، وما أزال أراه مربوطاً إلى كرسيه بالعجز والمرض.
الكرسي الفارغ يصرخ بي، يصفعني بحقيقة الغياب كلّما نظرت إليه في الزاوية. كم مرّة حاولت إقصاءه عن ناظري، فلم تطاوعني يدي، أين يجلس حين يعود ؟ أشعر أنّه هنا، في فضاء الغرفة تتحرك روحه، أسمع أنينه حيناً، وحيناً يغتالني صمتُه، ونظرةُ عينيه المتألمة.
بشفتيّ أقيس حرارته المرتفعة، فجأة تتراخى يده المتشنجةُ حول عنقي، أضغطه إلى قلبي محاولة استعادة نبضه، لكنّه يفرّ من أصابعي تاركاً برودةً مخيفة. أغفو على وجع يسحق روحي، وأستيقظ فزعةً من كابوس يلاحقني، زرقةٌ مخيفة تغطي ملامحه، أركض إلى كرسيه وبيدي كأس الماء وحبة الدواء.
الكرسي الفارغ يتأرجح بألم ويصر بأنين مكتوم .. تشدني عيوني المتورمة إلى النوم ، لأراه هناك ، امتداد الأخضر في عينيه يقطر ألماً ، وأسنانه تكز على شفتيه برعب . يطحنني السؤال : كيف أخفف عنه ذاك الألم ؟
صحوت فزعة هذا الصباح على صوت ارتطامٍ عنيف، ركضت صارخة باسمه صرخةً شقّت ضلوعي، وهزّت باب الشرفة في يدي. كان هناك، مرمياً على البلاط الناعم يرتعش من البرد، بحذر حاولت حمله، ترنح بعيداً عن أصابعي. عصفورٌ صغير، ريشه الرمادي المبتل، ونظراته الحائرة اقتلعت روحي. ثانية حاول الطيران فاصطدم بزجاج الشرفة وارتطم بالأرض ، ارتعد قلبي معه من الألم ، محاولته الأخيرة نجحت في إيجاد الطريق خارج الشرفة ، حين رأيته يطير تحت المطر ويحطّ على شجرة جوز قريبة ، هدأ قلبي ، ورأيت ملاكي يبتسم ، كان حضوره مختلفاً ، مدّ يديه الصغيرتين ، ولأوّل مرّة نطق ببطء حروفاً تشوقت لسماعها وهو حي : ماما
ثانية اصطدمت بكرسيه الخالي ، تأرجح قليلاً ، ابتسم لي ، الهمس الدافئ غمر روحي : ماما .
أغمضت عينيّ على ملامحه الملائكية .
جالساً بهدوء في كرسيه ، يتأرجح قليلاً ، ثم يغفو .


منقول ،، للأديبة : ابتسام تريسي