حقيقة الكفر ... بين العمَى والعَمَهِ
محمد المهدي عامر


يقول الله - تعالى - في كتابه الكريم في معرض ذكره صفات الكافرين والمنافقين: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) [البقرة: 15].
يتحدث القرآن هنا عن الكفار ويصف استهزاءهم بالمسلمين وأهل الإيمان بأنه عَمَهٌ، وشدة الوصف هنا وقبحه ليس للأسلوب والتناول فقط وإنما للنتيجة ورد الفعل.
والمعلوم أننا نعرف جميعا أن الأعمى وإن فقد بصره وانقطع عن العالم من حوله رؤيةً ومشاهدةً إلا أنه يظل حاضر البديهة مقدِّرًا للأمور مسيطرًا على تفكيره، فلا يشتط ولا ينحرف؛ لأنه وإن كان قد فقد حاسة البصر، فهو لا يزال يملك الفكر والبصيرة، ولا يمنعه فقد بصره من حسن التدبر والحكم على الأشياء، وفي كثير من الأحيان لا يمثل له العمى عائقًا في سبيل الوصول إلى بغيته وسلوك طريقه الذي يريد دون الحاجة إلى من يدله عليه. تلك هي صفة الأعمى.
ولكننا حين نتدبر معنى العَمَهِ وحقيقته، نجد أن من يتصف به يتردد في الضلال ويتحير في سلوك الطريق الصحيحة ويتخبط في التماس الحجة المقنعة أو الرأي السليم، مع كامل تمتعه بالبصر والرؤية، وهذا إن دل فإنما يدل على سوء الطبع وفساد القرينة وفقدان التمييز، ونتيجة طبيعية لما سبقها من صفات تؤهلهم لذلك ومقدمة لما سيؤول إليه مصيرهم من التصرف والسلوك وانتهاءً إلى الجزاء والعقاب.
فهيا بنا أخي القارئ نستطلع ذلك ونتعرف عليه من خلال كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
بدأت الآيات في وصف هؤلاء الكفار بعد التيئيس من إيمانهم لغلوهم في الكفر والطغيان بأنهم قد: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم). [البقرة: 7]، ففي الوصف السابق نجد أن الله - سبحانه وتعالى - طبع على قلوبهم، أي حال بينهم وبين الإيمان، كما أن أسماعهم أبت أن تصغي لنداء الحق، واكتمل ضلالهم واستغراقهم في الغي بعدم رؤيتهم طريق الهدى، ذلك على الرغم من حقيقة إبصارهم وإدراكهم المادي وتمييزهم الحسي للأشياء من حولهم.
ثم يأتي بعد ذلك وصفهم في قوله - تعالى -: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) [البقرة: 10]، وفي ذلك بيان بأن الله طبع على قلوبهم على ما فيها من مرض وشك ونفاق وضلال، ثم نراهم بعد ذلك يتشدقون بما يخالف الحقيقة الجلية، قال - تعالى -: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) [البقرة: 10 -12].
هنا يتبين لنا أنهم يلوون عنق الحقيقة، ويدعون الإصلاح مع أنهم ضاربون بجذورهم في الفساد، داعين إلى كل رذيلة وعناد، واهمين بعقولهم المريضة أنهم على صواب وغيرهم على خطأ، وما درْوْا أنهم هم أهل الضلال والغي والإفساد.
وتتوالى الآيات في وصف ما هم عليه من عمى البصيرة وضآلة التفكير والتصور فيقول - تعالى -: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كم آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون)[البقرة: 13]، فماذا تنتظر من أناس رأوا الإيمان والهداية سفاهة ونقص عقل؟ مع أن تلك الصفة كانت واضحة فيهم هم وذلك لفساد رأيهم وقصور تفكيرهم وسوء نظرتهم لمن آمن واهتدى. وما داموا على هذا النحو من الجهل وفساد الحكم على الآخرين، وما تبعه من استهزاء بهم فتمادوا في ذلك وبلغوا شأوًا بعيدًا في اعتقادهم المريض وتخبطهم وترديهم في هوة طغيانهم، كان جزاؤهم أن أمهلهم الله على استهزائهم ومدهم في ضلالهم سخرية بهم وإملاءً لهم إلى أن يروا العذاب على فعلهم وما اقترفته أيديهم.
وإذا كان هذا دأبهم فلن تعجب لما يبدر عنهم من تصرف وردود أفعال تتوافق مع فساد طويتهم وضلال عقيدتهم: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) [البقرة: 16]، فهاهم يحيدون عن الفطرة السليمة ويشرون الهداية بالتخبط والضلال والكفر، وتلك هي الخسارة الحقيقية في صفقة لا يقبلها عقل سليم ولا يتعامل بها منطق سويّ.
وتستمر الآيات في ذكر نتاج كفرهم بأن أصبحوا صمًّا لا يستمعون لهدي أو إرشاد، بكمًا لا يتكلمون بما ينفعهم أو يدل على صحة تفكيرهم، عميًا لا يبصرون الهدى ولا يتبعون سبيله، وتلك كما قلنا نتيجة طبيعية لما هم عليه من غي وضلالة واستغراق في مخالفة أمر الله والبعد عن المنهج السليم والطريق القويم، لذلك حق عليهم العذاب والخلود في النار جزاءً بما عملته أيديهم وعقابًا على ما اقترفوه في جنب الله من كفر بآياته وابتعاد عن سليم الفطرة وقويم السلوك وكريم الخصال، ولم يقف جرمهم عند هذا الحد بل انطلقوا يؤذون أهل الإيمان ويتهمون حملة القرآن بالسفه مرة وبالفساد مرة أخرى فخلعوا صفاتهم السيئة عليهم واتهموهم بما ليس فيهم، فاستحقوا العقاب وما ينتظرهم من سوء العذاب.
اللهم مُنَّ علينا بالهداية، ونجِّنا من أهل الضلال والغواية، ومتعنا بنعمة فهم القرآن والعمل به آية آية. آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين