رجال القول ورجال العمل

عبدالعزيز بن صالح العسكر

«إن الفتى من يقول هأنذا» هذه كلمة لم يقلها الشاعر فقط، وإنما قالها الآباء والخلفاء والأمراء والقادة والمخلصون جمعيهم، ويقولها اليوم شباب مخلص من أبناء بلادنا، هأنذا مستعد للعمل، هأنذا تتحدث أعمالي قبل أقوالي، يقدمني فعل حسن، وإنجاز فريد وإبداع غير مسبوق، هأنذا أكمل نقصًا وأسد خللًا، وأعالج جرحًا، وأصل جديدًا بقديم.

هذا النوع من الشباب موجود بيننا، بهم تسعد البلاد وتحمى الحرمات، وتصان المكاسب وتنجح المشاريع وتتحقق الآمال، رأيناهم في السيول يدفعون خطرها، وفي التعليم يحققون أهدافه، وفي الأمن يبسطون سعادته، وفي الصحة ينشرون أثرها وإنجازها، كما رأيناهم في البيوت يصونون حرمتها ويرعون أمانتها، كما رأيناهم في المصانع والمتاجر والمزارع يدفعهم إخلاصهم، وتشهد بصدقهم أفعالهم، أكثر الله من هؤلاء وبارك في جهودهم ونفع بهم البلاد وأهلها.
وبجانب أولئك الكرام وجدنا «تجار الكلام» و«أعلام القول» و«رواد الخطابة» و«فرسان الثرثرة» يقول أحدهم: يجب أن يفعل الناس، ويقول الثاني: العلاج غير ممكن، ويقول الثالث: الإصلاح غير ممكن، وآخر يقول: لم أجد من يعمل غيري! وآخر: أريد عملًا مريحًا، وآخر: هذا عمل فات أوانه... سلسلة من الأعذار والأوهام يسوقها العاجزون ويرددها المنهزمون، ويتسلى بها القاعدون، وكل واحد من أولئك يكذب على نفسه ويستغفل غيره!
العاجزون عبء ثقيل على أمتهم، والمنهزمون أحجار عثرة في الطريق، والقاعدون أصفار على شمال العدد لا ينفعونه شيئًا، ولا أجد للعاجزين والمهزومين والقاعدين دورًا سوى التخذيل وبث الرعب في الأمة وإعاقة نهضتها.
وهم قبل ذلك صيد ثمين للأعداء يوظفونهم لتحقيق مآربهم ويكثرون سوادهم، ففي إحدى معارك المسلمين مع أعدائهم جاء رجل إلى القائد المسلم وقال له: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، قالها ذلك المسلم وقد هَاَلُه جيش الأعداء، فماذا كان جواب القائد المسلم؟
قال كلمة واحدة واضحة مشرقة: وددت لو برئ الأشقر وضاعفوا من عددهم! والأشقر فرسه وكان قد حفي من طول الطريق وأحجاره وأشجاره، فكان يتمنى أن يشفي الله فرسه ولو ضاعف الأعداء عددهم، المقاييس ليست في العدد، والميزان ليس في الكثرة، ولكنه الكيف والحال، فقد تعلمنا من الأحداث وأحوالها أن الكثرة مع الباطل، وأن الخمول فرسانه كثيرون وعُشَّاقه يزيدون، وأبطاله يتنافسون.
أبطال الأفعال ناجحون في دراستهم وعلاقاتهم، محبوبون من القاصي والداني، متحررون من الرشود والتزوير والنفاق والكذب والشفاعات الزائفة، وكما نتمنى أن يبعد الله تجار القيل والقال، ويقلل عددهم نسأل الله تعالى أن يبارك في العاملين من علماء الشريعة وعلماء العلوم جميعًا، وأن يعين العاملين في خدمة بلادهم وأمتهم، وأن يبارك في جهودهم.
إن قيام الممالك جاء بالعمل لا بالقول.. والمحافظة عليها يكون بالعمل لا بالقول.
وبناء الأسر والمجتمعات يكون بالعمل لا بالخطب والمواعظ، مع ما للخطب والمواعظ من دور كبير ورائع في التنبيه والتذكير، بالعمل بُني الإيمان، وبُني المجد، وعزَّ السلطان، وارتقت الأوطان، وبالاكتفاء بالقول فقط ضعف الإيمان وهُدم المجد وذل السلطان، وتأخرت الأوطان وأصبح المرء دُمية في يد أعدائه يلعبون به ويحققون أمانيهم وآمالهم.
قال الرسول "صلى الله عليه وسلم" فيما رواه أبوهريرة: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وآمالكم» (رواه مسلم) الصور والأشكال والآمال والأماني والوعود الكاذبة لا تنفع في الدنيا والآخرة، قال الرسول "صلى الله عليه وسلم" : «الكَيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله» (رواه الترمذي).

فالعاجز كل بضاعته أقوال وأماني ووعود وكذب! والعاقل هو الذي يتبع القول العمل أو يسبق عمله قوله، قال الرسول "صلى الله عليه وسلم" : «حينما سأله سفيان بن عبدالله "رضي الله عنه" : قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك: قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» (رواه مسلم)، ولا يمتدح طول العمر إلا مع كثرة الأعمال الصالحة.. وإلا فإنه وبال على صاحبه قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : «خير الناس من طال عمره وحسن عمله» (رواه الترمذي)، والعمل وإن كان صغيرًا خير من كثير القول والنقد وتجريح الناس ولومهم، وفي ذلك العمل الصغير القليل عظيم الأجر وجزيله.
قال "صلى الله عليه وسلم" : «لقد رأيت رجلًا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين» (رواه مسلم)، ومما تقرر في الشريعة الإسلامية أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وهذا مشروع في حق كل فرد في الأمة وفي كل مكان.
والإسلام يدعم العمل ويؤيده ويدعو إليه، بل إنه يجعل ما يعين على العمل الصالح ويوصل إليه عملًا صالحًا فيه عظيم الأجر والمثوبة، فالبعد عن المسجد فرصة لكسب عظيم الأجر بكثرة الخطوات ومشقة الوصول إلى المسجد، فعن جابر بن عبدالله "رضي الله عنه" قال: «أراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ، فقال لهم: «إنه قد بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟» فقالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: «بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم» (رواه مسلم).
واستجاب أصحاب رسول الله لتوجيه رسولهم وسعدوا بطاعة ربهم، وعلت هممهم، وزاد شغفهم بالأجر وتكثيره، وهذا واحد منهم يضرب مثلًا أعلى في ذلك السمو الإنساني الكبير، وذلك حينما يرفض أن يركب ويصر على المشي إلى المسجد على قدميه وتأتيه البشرى من نبي الهدى بأن الله تعالى قد كتب له خطاه ذهابًا للمسجد وإيابًا، رضي الله عنهم وألحقنا بهم في الصالحين، تلك قصة حكاها الحديث الشريف، قال أبي بن كعب "رضي الله عنه" كان رجلًا لا أعلم رجلًا أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة فقيل له، أو فقلت له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء، وفي الرمضاء؟ فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : «قد جعل الله لك ذلك كله» (رواه مسلم).
هذا هو دين العمل، عمل ينفع الفرد وينفع الأمة، عمل يقطع الطريق على القيل والقال، وتدافع المسؤولية وأن يُحَمِّل كل فرد أخطاءه على الآخرين، وما أسعد مجتمعًا وأمةً يتسابق أفرادها إلى العمل ويهجرون التًواكل والثرثرة والجدل.
إنَّ واحدًا من رجال العمل خير وأنفع للبلد من ألف من رجال الثرثرة والتنظير والتكسل.