منهج أهل السنة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم
عبد اللطيف بن محمد الحسن
لربنا - تبارك وتعالى - أرفع القدر وأعظـم الشأن؛ فله العظمة الكاملة التي تتجلى في ذاته وصفاته وأفعاله، في خلقه وأمره، في الآفـــاق والأنفس، أنَّى نظرت في خلقه رأيت ما يبهر العقول ويزيد الإيمان، ومهما تلوت من آي كتابه العظيم وقفت على دلائل عظمته، وأدلة قَدْره سبحانه.
خـضعت لعظمة ربي - عز وجل - المخلوقات، وذلت لجبروته الأرض والسماوات، واشتد نكـيـره - تعالى - على من أخل بتعظيمه، فقال - سبحانه - :(( ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأَرْضُ جَمِيعاً قَـبْـضَـتـُـــ ـهُ يَـــوْمَ القِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الزمر:67].
فـحــــقٌ على من عرف قدر الله وأراد تعظيمه أن يعظم ما عظمه - تعالى - قياماً بحقه من التوحيد والعبادة، وقياماً بحق كتابه وحق رسوله -صلى الله عليه وسلم- .
وغير خـــــاف على مسلم صادق في إسلامه تلك المنزلة الرفيعة التي حباها ربنا - تعالى - لصفوة خلقــه، وخاتم أنبيائه ورسله حبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإلى شيء من جوانب تـلـك العظمة، وهدي السابقين والتابعين لهم بإحسان في تعظيمه -صلى الله عليه وسلم- ... ذلك الحديث الذي تنشرح له صدور المؤمنين الصادقين، وتتطلع إليه نفوسهم، ويتمنون أن لو اكتحلت أعينهم برؤية حبيبهم -صلى الله عليه وسلم-،؛وتشنفت آذانهم بسماع صوته.
المراد بالتعظيم:
قال الله - تعالى - : ((إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلاً)) [الفتح :8،9].
فذكر - تعالـى - : حقـــاً مشتركاً بينه وبين رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو الإيمان، وحقاً خاصاً به - تعالى - وهـــو التسبيح، وحقاً خاصاً بنبيه -صلى الله عليه وسلم- وهو التعزير والتوقير.
وحاصل ما قيل في معناهما أن :(التعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه. والتوقير : اسم جامع لكل ما فـيـــه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار)(1).
وهذه المعاني هي المراد بلفظ التعظيم عند إطلاقه، فإن معناه في اللغة : التبجيل، يقال : لفلان عظمة عند الناس : أي حرمـــة يعظم لها(2)، ولفظ التعظيم وإن لم يرد في النصوص الشرعية، إلا أنه استعمل لتقريب الـمـعـنــــى إلى ذهن السامع بلفظ يؤدي المعنى المراد من (التعزير والتوقير) (3).
والـتـعـظـيــم أعلى منزلة من المحبة، لأن المحبوب لا يلزم أن يكون معظماً، كالولد يحبه والده محـبــة تدعوه إلى تكريمه دون تعظيمه، بخلاف محبة الولد لأبيه، فإنها تدعوه إلى تعظيمه. والرجل يعظم لما يتمتع به من الصفات العلية، ولما يحصل من الخير بسببه، أما المحبة فلا تحصل إلا بوصول خير من المحبوب إلى من يحبه (4).
مع المصطفى -صلى الله عليه وسلم- سيرة وخُلقاً :
لقد حبا الله - تبارك وتعالى - نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- من الخصائص القوية والصفات العلية والأخلاق الرضية ما كان داعياً لكل مسلم أن يجله ويعظمه بقلبه ولسانه وجوارحه.
وقد كان لأهـــــل الـسـنة والجماعة قدم صدق في العناية بجمع خصائصه، وإبراز فضائله والإشادة بمحاسنه، فلـم يـخـــل كتاب من كتب السنة كالصحاح والسنن وغيرها من كتب مخصصة لم يخل من ذكر مآثره، كما أُفردت كتب مستقلة للحديث عنه وعن سيرته(5).
وقد اخـتـــار الله - عز وجل - لنبيه -صلى الله عليه وسلم- اسم (محمد) المشتمل على الحمد والـثـنـاء؛ فهو -صلى الله عليه وسلم- محمود عند الله - تعالى -، ومحمود عند ملائكته، ومحـمـــود عند إخوانه المرسلين - عليهم الصلاة والسلام - ومحمود عند أهل الأرض كلهم، وإن كـفــــــــر به بعضهم؛ لأن صفاته محمودة عند كل ذي عقل وإن كابر وجحد؛ فصدق عليه وصفه نفسه حين قال:(أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، بيدي لواء الحمد، تحته آدم فمن دونه)(6).
وقد أغاث الله - تعالى - به الـبـشــــريــة المتخبطة في ظلمات الشرك والجهل والخرافة، فكشف به الظلمة، وأذهب الغمة، وأصلــح الأمة، وصار (هو الإمام المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم)(7)، فهدى الله به من الـضـلالـة، وعلم به من الجهالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به أعينا عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وكثَّر به بعد القلة، وأعزَّ به بعد الذلة، وأغنى به بعد العيلة(8).
عرّف الناسَ ربَّهم ومعبودهم غاية ما يمكن أن تنالــــه قــواهـم من المعرفة، ولم يدع لأمته حاجة في هذا التعريف، لا إلى من قبله، ولا إلى من بعده، بل كـفـاهم، وشفاهم، وأغناهم عن كل من تكلم في هذا الباب:(( أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [العنكبوت:51]، وعرفهم الطــريـق الموصلة إلى ربهم ورضوانه ودار كرامته، ولم يدع -صلى الله عليه وسلم- حسناً إلا أمر به، ولا قبيحاً إلا نهى عنه.
وعرفهم حالهم بعد القدوم على ربهم أتم تعريف، فكشف الأمر وأوضحه، ولم يدع باباً من العلم النافع للعباد المقرب لهم إلى ربهم إلا فتحه، ولا مشكلاً إلا بينه وشرحه، حتى هدى به القلوب من ضلالها، وشفاها به من أسقامها، وأغاثها به من جهلها، فأي بشر أحق بأن يُحب؟ جزاه الله عن أمته أفضل الجزاء.
وقد وصف النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عدد من أزواجه وأصحابه كخديجة وعائشة، وأنس، وابن عباس، وعلي، وابن عمر وغيرهم - رضي الله عنهم -، ولما كان المقصود الإشارة إلى ذلك دون الاستقصاء آثرت نقل كلام ابن القيم الجامع لأوصافه، تحاشياَ للإطالة وكثرة التخاريج. قال ابن القيم : "ومما يحمد عليه -صلى الله عليه وسلم- ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، فإن من نظر في أخلاقه وشيمه -صلى الله عليه وسلم- علم أنها خير أخلاق الخلق، وأكرم شمائل الخلق، فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان أعظم الخلق، وأعظمهم أمانة، وأصدقهم حديثاً، وأجودهم وأسخاهم، وأشدهم احتمالاً، وأعظمهم عفواً ومغفرة، وكان لا يزيد شدة الجهل عليه إلا حلماً، كما روى البخاري في صحيحه [ح/12125] عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال في صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التوراة :(محمد عبدي ورسولي سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخَّاب بالأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله، وأفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً.) وأرحم الخلق وأرأفهم بهم، وأعظم الخلق نفعاً لهم في دينهم ودنياهم، وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبداً عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد، وأصبرهم في مواطن الصبر، وأصدقهم في مواطن اللقاء، وأوفاهم بالعهد والذمة، وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه، وأشدهم تواضعاً، وأعظمهم إيثاراً على نفسه، وأشد الخلق ذبَّاً عن أصحابه، وحماية لهم، ودفاعاً عنهم، وأقوم الخلق بما يأمر به، وأتركهم لما ينهى عنه، وأوصل الخلق لرحمه، فهو أحق بقول القائل :
بَرْدٌ على الأدنى ومرحمةٌ وعلى الأعادي مارنٌ جَلْدُ(9)
بواعث تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- :
يدعو المسلم إلى ذلك أمور عدة، منها :
1- تعظيم العظيم - سبحانه وتعالى -، لأنه عظم نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث أقسم بحياته في قوله :(( لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ))[الحجر : 72](10).
كما أثنى عليه فقال :(( وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [القلم : 4]، وقال :(( ورَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)) [الشرح : 4]، فلا يُذكر بشر في الدنيا ويثنى عليه كما يُذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ويثنى عليه.
2- أن من شرط إيمان العبد أن يعظم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو الغرض من بعثته -صلى الله عليه وسلم- . قال - تعالى - :(( إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلاً)) [الفتح : 8، 9]، قال ابن القيم : (وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما تجوز تبعاً لمحبة الله وتعظيمه، كمحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه، فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه، فإن أمته يحبونه لمحبة الله له، ويعظمونه ويجلونه لإجلال الله له؛ فهي محبة لله من موجبات محبة الله، وكذلك محبة أهل العلم والإيمان ومحبة الصحابة - رضي الله عنهم - وإجلالهم تابع لمحبة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-)(11).
بل الأمر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(إن قيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله)(12).
3- ما ميزه الله - تعالى - به - مما سبق ذكره - من شرف النسب، وكرم الحسب، وصفاء النشأة، وأكمل الصفات والأخلاق والأفعال.
4- ما تحمله -صلى الله عليه وسلم- من مشاق نشر الدعوة، وأذى المشركين بالقول والفعل حتى أتم الله به الدين وأكمل به النعمة(13).
مع الصحابة في تعظيمهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتوقيرهم له في حياته:
نال الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - شرف لقاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان لهم النصيب الأوفى من توقيره وتعظيمه مما سبقوا به غيرهم، ولم، ولن يدركهم من بعدهم، ثم شاركوا الأمة في تعظيمه بعد موته -صلى الله عليه وسلم- (14). كان شأنهم في توقيره أوضح وأظهر من أن يستدل عليه، وأجمل من وصف شأنهم في ذلك عروة ابن مسعود الثقفي - رضي الله عنه - حين فاوض النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية، فلما رجع إلى قريش قال:(أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن (15) رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخمَّ نخامةً إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدُّون النظر إليه تعظيما له) (16).!
وقد وُصف الصحابة حال جلوسهم واستماعهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- بوصف عجيب جاء في أحاديث عدة، منها قول أبي سعيد الخدري : )وسكت الناس كأن على رؤوسهم الطير((17).
وقال عمرو بن العاص -رضي الله عنه -:(وما كان أحد أحب إلي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه)(18).
ولما زار أبو سفيان ابنته أم حبيبة - رضي الله عنها - في المدينة، ودخل عليها بيتها، ذهب ليجلس على فراش رسول الله؛ فطوته، فقال : يا بنية! ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أو رغبت به عني؟ فقالت:(هو فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه)(19).
ومن شدة حرص الصحابة على إكرامه وتجنب إيذائه قول أنس بن مالك :(إن أبواب النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت تقرع بالأظافير)(20).
ولما نزل قول الله - تعالى - :(( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات : 2]، قال ابن الزبير:(فما كان عمر يُسمِع النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الآية حتى يستفهمه)، وكان ثابت بن قيس جهوري الصوت يرفع صوته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فجلس في بيته منكساً رأسه يرى أنه من أهل النار بسبب ذلك، حتى بشره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة(21).
وللمحدثين نصيب :
للمحدثين - رحمهم الله ورضي عنهم - منهج رصين ورصيد ثري وإسهام قوي في إجلال حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتوقير مجلس الحديث، والتحفز لاستباق العمل به، تعظيماً له وهذه بعض الشواهد : حدث عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فكان مما قال : وما سمعته قط يقول : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا مرة، فنظرت إليه وقد حل إزاره وانتفخت أوداجه، واغرورقت عيناه، فقال:(أو نحو ذلك أو دون، أو قريباً من ذلك، أو شبه ذلك)(22).
وجعفر بن محمد، ومالك بن أنس، والأعمش، بل قد صار ذلك مستحباً عندهم، وكرهوا خلافه.
قال ضرار بن مرة:(كانوا يكرهون أن يحدثوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم على غير وضوء).
قال إسحاق : فرأيت الأعمش إذا أراد أن يتحدث وهو على غير وضوء تيمم (23).
وكان مالك يلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويأخذ زينته للتحديث بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (24).
وقال ابن أبي الزناد : كان سعيد بن المسيب - وهو مريض - يقول :(أقعدوني؛ فإني أكره أن أحدث حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا مضطجع)(25).
يتبع