الحمد لله الكريم المنان، ذي المنة والفضل والإحسان، الذي هدانا للإيمان، وأكرمنا بخير كتبه القرآن، المعجزة المستمرة على تعاقُب الأزمان، وجعله ربيعًا لقلوب أهل البصائر والعرفان، وضمن حفظه فهو محفوظ بحفظ الله من الزيادة والتبديل والنقصان، أحمَده على ذلك وعلى غيره من نعمه التي لا تُحصى وخصوصًا نعمة الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ننال بها الغفران، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله حثَّ على تعلُّم وتعليم القرآن، والتفكر فيه وتفهيمه، والعمل بأحكامه العظام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومَن تبِعهم بإحسان.
ثم أما بعد:
فلا يخفى على أحد مكانة المعلم في ديننا الإسلامي الحنيف، فكيف إذا كان هذا المعلم يُعلِّم أحكام الدين، وخصوصًا أشرف العلوم (علم القرآن الكريم)، يُحفِّظ المسلمين آياته ويعلمهم أحكامه وآدابه. ويكفينا أن نذكر دليلًا على ذلك الحديث الذي يرويه عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ"؛ (صحيح البخاري).
وقد كان فيما مضى للمعلم والمحفظ هيبة كبيرة في نفوس طلابه وتلاميذه، ونحن نعيش في عهد ضعُفت فيه هذه الهيبة عند بعض نفوس الطلبة والتلاميذ، ولعل مما ساعد على ذلك عدم جدية بعض المعلمين والمحفظين، وكثرة مُزاحهم مع طلابهم وتلاميذهم، فغاب وقارُ الحافظ، وكذا هيبة المحفظ.
وإنَّ هيبة المعلم والمحفظ تَنبع من سلوكه المستقيم، وقوته العلمية واتزانه، وشخصيته الوقورة، وتعامله الحسن وأخلاقه الكريمة، وفيما مضى كان المعلم والمحفظ يفرض احترامه وهيبته ومحبته في قلوب طلابه بالقدوة الحسنة، وغزارة العلم، وسَعة الثقافة، وبُعْد النظر، والجدية في العلم والتعلم.
وقد كان السلف الصالح يوقِّرون مشايخهم ويحترمونهم، ويُجلُّونهم ويدعون لهم، فقد جاء عن أبي يوسف القاضي تلميذ أبي حنيفة رحمهما الله أنه قال: "إني لأدعو لأبي حنيفة قبل أبويَّ، وسمعت أبا حنيفة يقول: إني لأدعو لحماد - وهو شيخ أبي حنيفة - مع والديَّ"، ويقول شعبة بن الحجاج رحمه الله: "ما سمعت من أحد حديثًا إلا كنتُ له عبدًا".
فلا بد أن يتميَّز مَن يحفظ القرآن بحُسن الخلق والوقار، وأن يكون للشيخ المحفظ في قلبه هيبة واحترام، فقد ذكر السلف الصالح أقوالًا كثيرة تبيِّن ما كان عليه شيوخهم من الهيبة والمكانة، فعن الأعمش رحمه الله قال: "كنا نهاب إبراهيم النخعي كما يُهاب الأمير"، وقال حرملة رحمه الله - وهو من كبار تلاميذ الشافعي -: "سمعتُ الإمام الشافعي يقول: ربما أكون في مجلسه - أي مجلس الإمام مالك - فأصفح الورقة تصفحًا رقيقًا هيبةً؛ لئلا يُسْمَعَ وَقْعُها".
وقال الربيع بن سليمان رحمه الله - وهو أحد كبار تلاميذ الشافعي أيضًا -: "والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبةً له"، وقال الإمام أحمد رحمه الله: "لزمتُ هشيمًا أربع سنين ما سألته عن شيء إلا مرتين هيبةً له".
وإن من أسباب نجاح مراكز تحفيظ القرآن الكريم:
وقار الحافظ وهيبة المحفظ، وعليه فإنني أوصي المحفِّظين بالإخلاص في عملهم، والتدقيق والتحقيق والعمل الدقيق، فالطلاب أمانة بين أيديهم سيسألهم الله عنها، وأوصيهم بمراعاة أحوال الطلاب ومستواهم وقدراتهم، والعمل على حثِّهم على الجد والاجتهاد وعدم إحباطهم، وكذلك ضرورة المحافظة على هيبتهم ومكانتهم - دون استعلاء أو تكبُّر - وعدم إكثار المزاح مع طلاب التحفيظ؛ لأن ذلك سيكسر هَيبتهم في نفوس الطلاب، وسيأتي بنتائج عكسية على نجاح حلقات التحفيظ.
وأوصي طلاب مراكز تحفيظ القرآن الكريم بأن يتصفوا بالأدب والوقار، فإن ذلك عنوان الفلاح والنجاح، والتحصيل والتوفيق، وليكن الشيخ محل إجلال وإكرام وتقدير وتلطُّف، فليخذ كل طالب بمجامع الأدب مع شيخه في الجلوس معه، والتحدث إليه، وحُسن السؤال والاستماع، وترك التطاول والمماراة أمامه، وعدم التقدم عليه بكلام أو إكثار الكلام عنده، أو مداخلته في حديثه بدون إذن، أو الإلحاح عليه في جواب، ولا مناداته باسمه مجردًا، بل يُنادى بأحب الأسماء إليه أو بالقول له: يا شيخي.
ختامًا نسأل الله أن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا، ولِمَن له حقٌّ علينا ولكل مَن علَّمنا، اللهم آمين،
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/136649/#ixzz62Dku9eNt