انعكاس السيرة في الإبداع
وليد قصاب



إن معرفة سيرةِ المؤلف، وتفاصيلِ حياته، والأحداثِ المختلفة التي مرت به تُعينُ - من غير شك - على تفسير جوانبَ من أدبه، وعلى فَهْم بعض الألفاظ، والعبارات، والإشارات، التي وردتْ فيه، وهذا ما تَبَنَّاهُ المنهج النفسي، ودافع عنه بقوة.
كما أن معرفة سِيَر الأُدباء - ولا سيما الكبار المتميزون منهم - ممتعة ومُفيدة، وقد تعين - زيادة على تفسير العمل الأدبي - على تقدير قيمته كذلك.
يقول ديفيد ديتش: "السيرة قليلة العونِ في تعيين قيمة الأثر الأدبي، ولكن علينا أن نؤكدَ أن هذا لا يعني أن سيرة الأدباء الكبار قليلةُ القيمة في ذاتها؛ ربما تساعدنا السيرة على تقدير قيمة الأثر الأدبي؛ ولكنها دراسة مهمة ممتعة على وجهها، والتطلع الفكري مثمرٌ دائمًا، وبخاصة ذلك التطلع الشغوف لمعرفة سِيَر العُظماء، ومن كان باحثًا جادًّا في الأدب كانت كل معرفة لديه ذات فائدة[1]...".
وإذن فإنَّ معرفة سيرة المؤلف تُعين على تفسير جوانب من أدبه، وهي - إن لم تكن ذات فائدةٍ كُبرَى في تقدير قيمة العمل الأدبي وتقويمِه - ليست عديمةَ الجَدْوى تمامًا في هذا الجانب؛ إذ قد تُعين عليه، وتفتح بعض مَغاليقه.
ولكنَّ الخطأ الكبير الذي يقع فيه من يُعْنَوْنَ عناية بالِغَة - من أصحاب المنهج التاريخي - بسيرة المؤلف، هو اعتقادهم أن الأثر الأدبي - وثيقة من حياة صاحبه، أو أنه يُعَبِّرُ عن تَجْرِبَتِه الذاتية، وأن ذلك يُعَدّ من باب الصدق، وأنه هو مقياس الجودة في الأدب.
إن الحق الذي تُؤَيِّدُه القرائنُ الكثيرة، أن الأمر ليس كذلك في كثير من الأحيان، فالأثر الأدبي لا يَعْكِس دائمًا حياة مؤلفه، ولا هو - باستمرار - تعبير عن تَجَارِبِه الشخصية الذاتية.
بل إنَّ الأثر الأدبي - كما يقول ديتش "قد يجسد (حلم) الأديب لا واقع حياته، أو قد يكون (القناع) أو قد يكون (النقيض) الذي يخفي وراءه شخصه الحقيقي، أو قد يكون صورة من الحياة التي يريدُ الأديب أن يهرُب من نطاقِها، ثم علينا ألا ننسى أنَّ الفنَّان قد "يجرِّب" الحياة تجربة مباينة من خلال فنه، فيرى التَّجارِب الواقعية من حيث فائدتُها للأدب، فتجيءُ إليه وقد تَلَوَّنَتْ بعض الشيء بلون التقاليد والمواصفات الفنية... "[2].
كما أن معيارَ الصدق لا يقصد به على الإطلاق أن يكون الأثر الأدبي صفحة من تاريخ مؤلفه، أو وثيقة من وثائق حياته، إذ هو عندئذٍ حكم على الصدق الواقعي المستمد من سيرة الأديب، وليس حُكْمًا على الصدق الفني الذي هو مَنَاطُ بحث الناقد واهتمامه.
ثم من يستطيع أن يتخيل - وإنْ مجرد تخيّل - أن عشرات التجارِب والأحداث والأفعال التي عَبَّر عنها الأديب في قصصه، ورواياته قد عاشها جميعًا؟، وأي عمر هذا الذي يَتَّسِعُ لذلك؟!
إنَّ مُجرَّد الاعتقاد أنَّ الأَثَرَ الأدَبِيَّ هو مَحْض نسخة من الحياة، أو أنه صورة فوتوغرافية عنها، هو اعتقاد غير صحيح، ذلك أنَّ الأدب يقوم على التَّخَيُّر والانتِقاء، على الأخذ والتَّرْك، الحياة مصدر له، لكنه لا يَنْسَخُها نَسْخًا، وله شروطُه وطبيعتُه وفنيته التي تجعله يتعامل مع الحياة بطريقة تحققها، ومثل هذا - أو أكثر - ينطبق على ما يمر بالمؤلف من أحداث وأحوال، فهو - في كل ذلك - خاضعٌ لمبدأ (الانتفاء)، ومبدأ (تحقيق العرف الأدبي) لهذا الجنس الذي يكتب فيه.
ويضاف إلى ما تقدَّمَ كُلِّه أنَّ كثيرًا من الأدباء - ولا سيما الشعراء - مَوْسُومُون بالمبالغة، والغلو، والتَّجَوُّز، والكذب، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، مصداقًا لقوله - تعالى -: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا [الشعراء: 224 227].
وهذا يعني - بشكل صريح - أن قولهم لا يعبر دائمًا؛ بل كثيرًا - عن فعلهم، وهو لا يعكس حقيقة السلوك، والتصرفات الفعلية التي قاموا بها، ولذلك لا يجوز الربط بين سيرة المؤلف وإبداعه، أو الاعتقاد الجازم أن الإبداع (انعكاس) لحياة المبدع أو سيرته.
ـــــــــــــــ ــــــــــــ
[1] "مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق"؛ ديفيد ديش، ترجمة د/ محمد يوسف نجم: ص 504.
[2] السابق:ص502