دعوة لإنصاف العلماء
عبد الرحمن بن سعود الحمد


العلماء هم ورثة الأنبياء، يقومون بمهمة البلاغ والتعليم والتوجيه والنصح والوعظ والتحذير والبيان، مجالسُهم عبادة، وكلامهم إفادة، وهم كالنجوم يهتدى بهم في كلِّ أمر، وهم أنصار الملة، وأطباء العلة، ينفون عن الدين تأويل المبطلين، وتحريف الجاهلين، وأقوال الكاذبين، وهم العارفون بشرع الله، المتفقِّهون بدينه، وهم الفرقة التي نفرت من هذه الأمة لتتفقه في دين الله ثم تقوم بواجب الدعوة، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أسوأ أثر الناس عليهم.
ليس الغريب بأن نسمع ونقرأ في الصحف من أقوامٍ لا خلاق لهم يكتبون بين فينةٍ وأخرى مقالات سيئة، وعبارات يذيئة تحطُّ من قدر علمائنا ودعاتنا وأفاضل الناس فينا، وتعييرهم، والاستهزاء بهم ورميهم بما هم منه براء، إنما الغريب حقاً أن يُسْمعَ أمثال هذا الكلام، من أناسٍ منتسبين للصلاح، فضلاً عن غيرهم، ولذلك سيدور الحديث حول مكانة أهل العلم والدعوة، والحذر من الوقيعة فيهم أو نشر أخطائهم المغمورة في بحار حسناتهم أو لمزهم والقدح فيهم ونحو ذلك.
وهذه المسألة مستفادة من كلام أهل العلم والتحقيق من السابقين واللاحقين ممن بينوها غاية البيان، بالحجة الساطعة والبرهان والله وحده المستعان.
إن القدح في العلماء، والطعن فيهم سبيلٌ من سبيل أهل الزيغ والضلال وهو إيذاءٌ لهم، وإيذاؤهم إيذاء لأولياء الله الصالحين وهم أول من يدخل في ذلك.
قال الحافظ ابن عساكر- رحمه الله -في التحذير من الوقيعة في العلماء:(واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حقَّ تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادةُ الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براءٌ أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزُّورِ والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنشر العلم خُلقٌ ذميم) وقال: (...ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله - تعالى -قبل موته بموت القلب [فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ].
ولذلك فإنه يخشى على من هذه حاله من سوء الخاتمة والعياذ بالله، وقد ذكروا عن أحد الفقهاء والقضاة الشافعية، وقد درَّس وأفتى، وكثرت طلابه، واشتهر ذكره، ويعد صيته، قال عنه الجمال المصري: (إنه شاهده عند وفاته، وقد اندلع لسانه واسود، فكانوا يرون أن ذلك بسبب كثرة وقيعته في الشيخ محيي الدين النووي - رحمهم الله - جميعاً)[1]
ويقول العلامة بكر أبو زيد - حفظه الله تعالى - حول الوقيعة في الأئمة الكبار: (وبهذا تعلم أن تلك البادرة(الملعون ) من تكفير الأئمة، النووي، وابن دقيق العيد، وابن حجر العسقلان - يرحمهم الله تعالى - أو الحط من أقدارهم، أو أنهم مبتدعة ضلال، كل هذا من عمل الشيطان، وباب ضلالةٍ وإضلال، وفسادٌ وإفساد، وإذا جرح شهود الشرع جرح المشهود به، ولكن الأغرار لا يفقهون ولا يتثبتون)[2] ا-هـ
لقد كان سلف هذه الأمة يحترمون علماءهم احتراماً كبيراً ويتأدبون معهم، فلقد اخذ عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - مع جلالته وعلو مرتبته بركاب زيد بن ثابت الأنصاري -رضي الله عنه- وقال: (هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا).
وقال الإمام أحمد لخلف الأحمر - رحمهما الله - تعالى -: (لا أقعد إلا بين يديك، أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه).
والآثار في هذا الباب كثيرة، قال الإمام الطحاوي - رحمه الله -: (وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوءٍ فهو على غير السبيل" ا-هـ.
ولذلك يقول - عليه الصلاة والسلام - فيما صح عنه: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعرف لعالمنا حقه).
والواجب على كل مسلم التماس العذر للعلماء وإحسان الظن بهم، والتثبت مما يُنْقلُ ويشاع عنهم، لا سيما في حال الفتن والشرور ففيها يكثر الكذب والافتراء والطعن في العلماء، يقول أحد الأدباء- رحمه الله -: (والجماهير دائماً أسرع إلى إساءة الظن من إحسانه.. فلا تصدق كل ما يقال، ولو سمعته من ألف فم، حتى تسمعه ممن شاهده بعينه، ولا تصدق من شاهد الأمر بعينه حتى تتأكد من تثبته فيما يشاهد، ولا تصدق من تثبت فيما يشاهد حتى تتأكد من براءته وخلوه عن الغرض والهوى، ولذلك نهانا الله عن الظن واعتبره إثماً لا يغني من الحق شيئاً).
ويقول السبكي - رحمه الله تعالى -: (فإذا كان الرجل ثقة مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه، وألفاظ كتاباته على غير ما تعود منه، ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح وحسن الظن الواجب به وبأمثاله).
والمعتبر بكثرة الفضائل، فليس أحد من الناس معصوماً إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيجب أن يغتفر قليل خطئهم في كثير صوابهم ويعتبر بالغالب من حالهم، فكيف إذا رجع إلى الحق وبأن له الصواب، قال سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى -: (ليس من علم ولا شريفٍ ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله، كما أن من غلب عليه نقصانه ذهب فضله).
ويقول الإمام ابن رجب - رحمه الله تعالى -: (والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه).
وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (.. ومن له علم بالشرع والواقع، يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالحٌ وآثارٌ حسنه، وهو من الإسلام وأهله بمكانٍ، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذورٌ بل مأجورٌ لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته في قلوب المسلمين).
وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحد * جاءت محاسنه بألف iiشفيع
وقيل أيضاً:
فإن يكنِ الفعل الذي ساء واحداً * فأفعاله اللاتي سررن iiكثيرُ[3]
وإذا لم يستطع المرء أن يقول خيراً، أو يبدي نصيحةً، أو ينبه مخطئاً على خطئه، فإن الصمت له نجاة، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (طويل الصمت، قليل الضحك).
وقد قيل: (ما ندم حليمٌ ولا ساكت).
وقال طاووس - رحمه الله تعالى -: (لساني سبُع، إن أرسلته أكلني)
ما إن ندمتُ على سكوتي مرةً * ولقد ندمت على الكلام مرارا
وأما من جالس أقواماً يغتابون فيجب عليه الإنكارُ بالحكمة، أو قطع الغيبة بكلامٍ آخر، أو مفارقة المجلس، وحول ذلك يقول الإمام النووي - رحمه الله تعالى -: (اعلم أن الغيبة -كما يحرم على المغتابِ ذكرها- يحرم على السامع استماعها وإقرارها، فيحب على من سمع إنساناً يبتدئ بغيبةٍ محرمة أن ينهاه إن لم يخف ضرراً ظاهراً، فإن خافه وجب عليه الإنكارُ بقلبه، ومفارقةُ ذلك المجلس إن تمكنَّ من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه، أو على قطع الغيبة بكلامٍ آخر، لزمهُ ذلك، فإن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه: (اسكت) وهو يشتهي بقلبه استمرارهُ، فقال أبو حامد الغزالي: (ذلك نفاقٌ لا يخرجه عن الإثم، ولا بد من كراهته بقلبه)[4]
--------------------
[1] الدرر الكامنة 4/106.
[2] تصنيف الناس بين الظن واليقين ص 94.
[3] ينظر: قواعد في التعامل مع العلماء د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق. فمنه استفدت كثيراً
[4] عن الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام للمقدم ص (36، 46).
21 / 3 / 1426 ه