الحذف في القرآن الكريم
عبد الكريم حميد
مقدمة:
الحمد لله الذي خلَق الإنسان وعلَّمه البيان، وألْهَمه من علوم اللسان ما يُعينه على فَهْم السُّنة والفُرقان، والصلاة والسلام على نبي الإسلام وهادي الأنام، وعلى آله وأصحابه أُولي النُّهى والأحلام.
وبعدُ:
فالحذف ظاهرة لُغوية عامَّة ومشتركة بين جميع اللغات الإنسانيَّة؛ حيث يميل الناطقون بها إلى حذْف بعض العناصر بُغية الاختصار، أو حذف ما قد يُمكن للسامع فَهْمه اعتمادًا على القرائن المصاحبة: حاليَّة كانت أم عقليَّة، كما أنَّ الحذف قد يَعتري بعض عناصر الكلمة الواحدة، فيُسقط منها عنصرًا أو أكثر[1]، وهذا ما يجعل هذا الموضوع يكتسي هذه الأهميَّة الكبرى من لَدن الدارسين النحويين والبلاغيين وغيرهم، ولكن مع ذلك فلم تُخَصَّص له بحوث مستقلة، وإنما ذُكِر في كتبهم بشكلٍ عام في فصول لا تَفي بالغرَض المطلوب؛ مما أحوجَنا إلى دراسة مستقلة عن الموضوع، وبالرغم من وجود بعض هذه الدراسات، فإنها ركَّزت على الجانب النحوي، وأغْفَلت الجوانب الأخرى، أو لَم تَنَلْ حقَّها الذي تستحقه، ومن أجْل ذلك فقد ارْتَأَيْت أن أُشارك في هذا الموضوع بهذا البحث الذي سأحاول فيه أنْ أمزجَ بين التنظير والتطبيق؛ حيث سأقوم بحول الله ومَدَده بعرْض التعاريف والأقسام أولاً، ثم أقوم بالتدليل عليها بأمثلة تُفهِمُ المعنى وتُوصِل إلى المطلوب، مع التركيز على الدراسة - نحوية وبلاغيَّة - في ارتباطها بالقرآن، بالإضافة إلى التعريف ببعض الأسرار والأغراض من هذه الظاهرة، وكذا محاولة إدراك بعض مظاهر الحذف، وبعض مواضعه في الكتاب العزيز، مركِّزًا على حذف الفاعل الذي ينوب عنه فاعله؛ حتى لا تكون الدراسة مُهلهلة مترامِيَة الأطراف، لا يُستطَاعُ الإحاطة بها.
وأما عن خُطة البحث، فقد ارْتَأَيْت أن أجعلَه في فصلين كبيرين، وهما:
الفصل الأول، والذي عنونته بـ"الحذف عند النحويين واللغويين"، وذلك رغبةً في تأصيل هذه الظاهرة في الدرس اللغوي العربي، ومعرفة صُوَره وأشكاله، مُضمنًا إيَّاه مجموعة من المباحث والمطالب التي تتغيَّى الوصول إلى دراسة معجميَّة للحذف وبعض المصطلحات القريبة منه، وكذا تسليط الضوء على تصوُّر كلٍّ من النحويين والبلاغيين للحذف؛ من حيث مواضعه وأنواعه، وبعض أغراضه.
وأما الفصل الثاني، فقد عنونته بما يلي: الحذف في القرآن الكريم وأغراضه.
وقد حاوَلت فيه أن أستخلصَ تعريفًا للحذف عند دارسي علوم القرآن، والتنبيه على أهميَّته في تزيين المعنى وتنميقه؛ حتى يكون أبلغَ في التلقِّي، ثم عرَّجْت بعد ذلك على الحديث عن شروطه وأدلته، وكذا الأغراض المتغيَّاه من ورائه، وقد استعنْتُ في هذه النقطة بمجموعة من الأمثلة؛ لتوضيح هذه الأغراض، مع الاستعانة ببعض كُتب التفسير وإعراب القرآن؛ للوصول إلى المعنى وبيان المقصود، ثم ختمْتُ بخلاصة تركيبيَّة استجمَعْتُ فيها بعض الخُلاصات والاستنتاجات التي خرجتُ بها، آملاً من الحق - سبحانه - أن يجعل بحثي هذا شيئًا أُضيفه إلى المكتبة الإسلامية التي تُعنى بكتاب الله - تعالى -، والكشف عن أسرار نَظْمه وأسلوبه.
المبحث الأول: تعريف الحذف:
تعريف الحذف من الناحية اللغوية والاصطلاحيَّة:
جاء في لسان العرب مادة "حذَف" ما يلي:
حذَفَ الشيء يحذفُه حَذْفًا: قطَعه من طرَفه، والحُذافة: ما حُذِف من شيء فَطُرِح، وجاء فيه أيضًا ما يُفيد قَطْفَ الشيء من الطرَف، كما يُحْذَف طَرَف ذَنَب الشَّاة، والحذف: الرَّمْي عن جانبٍ، والضَّرْب عن جانبٍ[2].
والحُذَافَةُ: ما حُذِفَ من شيء فطُرِح، وأُذُنٌ حَذْفاء كأنها حُذِفَتْ؛ أي: قُطِعت، والحِذْفَةُ: القطعة من الثوب، وقد احْتَذَفه، وحذَفَ رأْسه حَذْفًا: ضرَبه، فقَطَع منه قطعة.
ويتَّضح من خلال هذه المُعطيات القاموسيَّة والمعجميَّة أنَّ المعنى الذي تُشير إليه كلمة "حذف" غالبًا، لا يُخرج عن ثلاثة معان أساسيَّة، وهي:
• القَطْعُ؛ إذ نقول كما جاء في لسان العرب: حذَف الشيء يَحذفه؛ أي: قطَعه من طرَفه.
• القَطْفُ، وهو أيضًا بمعنى القطع؛ كما ذَكَر صاحب اللسان: "قطَف الشيء يَقطفه؛ أي: قطَعه.
• الطَّرْح؛ إذ إنه لا يُحذَف شيء إلاَّ طُرِح، والطَّرْح كذلك الإسقاط.
إذًا فالحذف في اللغة يُحيل على القطْع والقطف والإسقاط، كما أنَّ المحذوف من الشيء هو المقطوع منه والساقط.
واصطلاحًا: إسقاط وطرْح جزءٍ من الكلام أو الاستغناء عنه؛ لدليل دَلَّ عليه، أو للعِلم به وكونه معروفًا[3].
وهذا التعريف الاصطلاحي لا يختلف عن التعريف اللغوي المشار إليه آنفًا، بل يُضارعه ويَجري في مجراه، والحذف من المباحث المهمَّة التي أشار إليها كلٌّ من النحويين والبلاغيين، واهتمُّوا بها اهتمامًا كبيرًا، وخصَّصوا له أبوابًا كاملة في مؤلَّفاتهم وكُتبهم، وإن اختَلفوا في طريقة التفسير والتحليل، وكذا في الجانب الذي اتَّخذوه مجالاً للدرس والتفسير، فالنحاة مثلاً انطَلقوا من المنطق الإعرابي، متوسِّلين ببعض التأويلات النحوية؛ مثل: "التقدير الإعرابي، والإضمار، والاستتار"؛ لدراسته والبحث فيه، وكان غرَضُهم في ذلك دراسة التركيب والعلاقات النحويَّة، وإيجاد أوْجه التفسير لحركة معيَّنة أو إعراب مُتضَمنٍ في التركيب النحوي لجملةٍ ما، وأمَّا البلاغيون فقد درَسوا الحذف من الناحية الدَّلالية، وحاوَلُوا إثبات مكامن الجمال وصور التفنُّن والإبداع في الكلام، وأوْضَحوا كونه من أسرار البلاغة - كما سيأتي أثناء الحديث عن كلام الجُرجاني وغيره من دارسي البلاغة العربية قديمًا وحديثًا، والمقصود من هذا الكلام أنَّ البيان والتحليل، ودراسة الأسباب الثاوية والكامنة وراء الحذف، وإيجاد تخريجات نحوية لذلك، هو موطن البحث ومجال الدراسة عند النحوي، وأمَّا البلاغي فدَورُه في هذا الباب بيان الأغراض البلاغية للحذف، وإيجاد المواضع التي يكون فيها هذا الحذف أكثر تأثيرًا، وأبلغَ إيضاحًا وإمتاعًا للمتلقي؛ حتى يَتَوصَّل إلى مطلوبه، ويهجم على مقصوده بأرْوع تمثيلٍ، وأبدع بناءٍ وتصوير، ويحقِّق بذلك الغرَض البلاغي الذي يسعى إليه الأُدباء والشعراء، وهو الإمتاع الذي تتوخَّاه البلاغة العربية؛ إذ الإقناع قد لا يكون مقصودًا في هذا الجانب؛ لأن ذلك إنما تُعنَى به الخطابة والمناظرة - وإن تضمَّنا شيئًا من الإمتاع.
المبحث الثاني: مصطلح الحذف عند النحويين:
المطلب الأول: الحذف وما يقع فيه عند النحاة:
• تعريف الحذف والمواطن التي يقع فيها:
لقد اهتمَّ النحاة قديمًا بظاهرة "الحذف"، وأحْصَوا مواضعه، وأعطوا الأوْجه المُمكنة فيه، وفسَّروا بعض العِلل الكامنة وراءَه، وتحدَّثوا عنه في مباحث كثيرة - خصوصًا في باب نائب الفاعل - وإنْ عبَّروا عن هذا الحذف بمصطلحات كثيرة، مثل: الاستتار والإضمار، والدليل على ذلك ما ذكَره صاحب "البحر المحيط" أثناء تعليقه على قول ابن عطيَّة أثناء إعرابه لقوله - تعالى -: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)[البقرة: 165]؛ حيث قال: "فقوله: مضاف إلى الفاعل المضمر، لا يعني أنَّ المصدر أُضْمِر فيه الفاعل، وإنما سمَّاه مضمرًا لِمَا قدَّره من "كحبهم..."، أو يَعني بالمضمر المحذوف، وهو موجود في اصطلاح النحويين؛ أعني: أن يسمَّى الحذف إضمارًا"، وذلك لأنَّ اللفظتَيْن كليهما - أقصد الحذف والإضمار - تجتمعان في مادتهما اللغويَّة في معنى الإسقاط، ومن أجْل ذلك فسنتطرَّق لبعض الفروق الموجودة بين هذه المصطلحات الثلاثة: "الحذف، والإضمار، والاستتار".
• أمَّا الحذف الذي سبَق تعريفه بأنه: "إسقاط وطرْح جزءٍ من الكلام، أو الاستغناء عنه لدليل دلَّ عليه، أو للعِلم به وكونه معروفًا"، وهذا المعنى ذاته يَستعمله النحاة في أبواب كثيرة من المباحث النحويَّة المهمَّة، ويُعلِّلون ذلك بمجموعة من العِلل التي يَختارونها ويقدِّرونها حسب ما تَقتضيه الضرورة والعِلة النحويَّة، وها هنا ذِكْر لبعض هذه المواضع التي ذكَرها هؤلاء النحاة مع التعليلات التي علَّلوا به هذا الحذف في المواطن التي عدَّدوها:
• الحذف في باب المبتدأ والخبر[4]، ودليل ذلك ما ذكَره ابن يعيش في "المفصل" عند شرْحه لقول المؤلِّف: "ويجوز حذف أحدهما" - يقصد المبتدأ والخبر - واستخلص منه جواز حذف أحدهما لوجود قرينة حاليَّة أو لفظيَّة، تُغني عن النُّطق بأحدهما، فقال - رحمه الله -: "اعلمْ أنَّ المبتدأ والخبر جملة مفيدة تَحصل الفائدة بمجموعهما، فالمبتدأ معتمد الفائدة، والخبر محلُّ الفائدة، فلا بد منهما، إلاَّ أنه قد توجَد قرينة لفظيَّة أو حاليَّة تغني عن النُّطق بأحدهما، فيحذف لدَلالتها عليه"[5]، ويقصد بذلك أنه يجوز حذْف المبتدأ والخبر كليهما، وإن كانت الفائدة متوقِّفة عليهما، وكانا عمدة في الكلام إذا فُهِم المعنى بدون اللفظ، فيُحذف أحدهما، ويكون مرادًا لفظًا وحكمًا؛ أي: إنَّ إعرابه يبقى على اعتبار حُكمه الأصلي كما لو كان هذا المحذوف؛ سواء أكان مبتدأ، أم خبرًا موجودًا، وقال المكودي معلِّقًا على قول ابن مالك في باب الابتداء:
وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ كَمَا *** تَقَولُ: زَيْدٌ بَعْدَ مَنْ عِندَكُمَا
"يعني أنه يجوز حذْف كلِّ واحدٍ من المبتدأ والخبر إذا عُلِم"[6]، وذلك بعد أن ذكَر بعض الأحكام المتعلقة بالمبتدأ والخبر، وقد استدلَّ ابن مالك على حذْف الخبر بقوله: "كما تقول: زيد بعد مَن عندكما"، فزَيْدٌ مبتدأ والخبر محذوف للعِلم به، وتقديره: زيدٌ عندنا، ثم مثَّل لحذْف المبتدأ للعلم به بقوله:
وَفِي جَوَابِ كَيْفَ زَيْدٌ قُلْ: دَنِفْ[7] *** فَزَيْدٌ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ إِذْ عُرِفْ
فدَنِفٌ خبرٌ، والمبتدأ محذوف تقديره: "زيد دَنِفٌ"، وفُهِمَ من قوله: "وَحَذْف ما يُعلم جائز" أنه يجوز حذف المبتدأ والخبر معًا إذا عُلِما، ومنه قوله - تعالى -: (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)[الطلاق: 4]؛ أي: فعِدَّتهن ثلاثة أشهر، فَحُذِفَ المبتدأ والخبر؛ لدلالة ما تقدَّم عليه؛ أي: قوله - تعالى -: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ)[الطلاق: 4].
ومن أمثلته في حذف المبتدأ أيضًا: قول المُستهل - وهو الذي يطلب الهلالَ وينتظره -: "الهلالُ والله"؛ أي: هذا الهلال والله، ومثله إذا شَمَمت ريحًا طيبة، قلت: "المِسكُ والله"؛ أي: هو المِسكُ والله، أو هو المسكُ، فتُعرب كلمة "الهلال والمِسك" على النحو التالي:
"خبر مرفوع بالمبتدأ المحذوف، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، وهذا معنى بقاء حُكمه الذي هو الرفع".
• الحذف في باب المفعول المطلق، حيث ذكَر النحاة أنه يجوز حذف العامل في المصدر في نحو قولك لِمَن قال: ما ضرَبت زيدًا "بل ضربتين، وبل ضربًا شديدًا"، بل قد يكون واجبًا في حالات ذكَرها النحاة، ومنها ما يتعلَّق بعامل المصدر الآتي بدلاً من فعْله، كقولك: "ضربًا زيدًا"، ومثله ما جاء في قول الشاعر:
عَلَى حَينِ أَلْهَى النَّاسَ جُلُّ أُمُورِهِمْ *** فَنَدْلاً زُرَيقُ الْمَالَ نَدْلَ الثَّعَالِبِ
فندلاً: مصدر ندَل، وهو بدل من اللفظ بالفعل، والتقدير: "أندل ندلاً"، ويُعربها بعض النحاة على الشكل الآتي: نَدْلاً مفعول به منصوب لفعل محذوف تقديره أندل.
ويُحذف كذلك عامل المفعول المطلق إذا قُصِد به التفصيل؛ كما جاء في قوله - تعالى -: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُ مْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)[محمد: 4]؛ إذ إنَّ قوله - تعالى -: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) تفصيل لعاقبة ما قبله، وهو قوله - عز وجل -: (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)، فتقدير الكلام: "فإمَّا أن تمنُّوا منًّا، أو تُفدوا فِداءً"، وهناك مواضع أخرى ليس ها هنا مجال التفصيل فيها.
• الحذف في باب المنادى: والمنادى من منصوبات الأسماء التي أشار النحاة إلى وجود الحذف فيها؛ لأنَّ حُكم المنادى هو النصب - حُكمًا أو تقديرًا - وعامل النصب فيه؛ إمَّا فعل محذوف وجوبًا تقديره: "أدعو"، ناب حرف النداء منابَه، وإمَّا حرف النداء نفسه؛ لتضمُّنه معنى "أدعو"، وعلى الأول، فهو مفعول به للفعل المحذوف، وعلى الثاني فهو منصوب بـ"يا" نفسها[8].
فأصل "يا زيدُ": "أدعو زيدًا"، فالمنادى في محلِّ نصب على المفعوليَّة؛ لأنه مفعول به في المعنى، وناصبُه فعل محذوف تقديره: "أدعو"، كما يجوز حذف حرف النداء جوازًا في نحو: "يا زيدُ أقبلْ"، فتقول: "زيدُ أقبل"، وفي "يا عبدَ الله ارْكَب": "عبدَ الله اركب".
• الحذف في باب التحذير والإغراء، وهذا باب الحذف مذكور فيه أيضًا، والدليل على ذلك أنَّ النحاة عند تعرُّضهم لهذا المبحث، يعرِّفون أسلوب التحذير بأنه: "اسم منصوب معمول للفعل "أُحَذِّرُ" المحذوف ونحوه، ومنه قول الشاعر:
بَيْنِي وَبَيْنَكَ حُرْمَةٌ *** اللَّهَ فِي تَضْيِيعِهَا
بنصب لفظ الجلالة "اللَّهَ" بعامل محذوف تقديره: احْذَر الله، أو اخْشَه، أو اتَّقِه، أو نحو ذلك.
ولأسلوب الإغراء صُوَر مختلفة، منها: صورة الأمر، كالذي في قول الشاعر:
وَاحْذَرْ مُصَاحَبَةَ الدَّنِيِّ فَِإِنَّهَا *** تُعْدِي كَمَا يُعْدِي الصَّحِيحَ الأَجْرَبُ
ومنها صورة النهي، كقول الأعرابي في لُغته وقد فتنته:
لاَ تَلُمْنِي فِي هَوَاهَا *** لَيْسَ يُرضِينِي سِوَاهَا
ومنها الصورة المبدوءة بالضمير "إيَّاك" وفروعه الخاصة بالخطاب، غير أنَّ الكثير من الصور السالفة لا يَخضع لأحكام هذا الباب، ولا تَنطبق عليه ضوابطه النحويَّة وقواعده؛ لأنَّ هذه الضوابط والقواعد والأحكام، لا تَنطبق إلاَّ على أنواع اصطلاحيَّة معيَّنة، وهي المقصودة من هذا الباب بكلِّ ما يَحويه؛ لأنها تشتمل على اسم منصوب يُعرَب مفعولاً به لفعلٍ محذوف، منها:
• نوع يقتصر فيه على ذِكْر المحذَّر منه فقط، كأن تقول محذِّرًا الطفل من النار: "النارَ"، وهذا التعبير حُذِف فيه شيْئان: الفعل الناصب للمفعول النار، والذي حُذِف جوازًا تقديره: "احْذَر"، أو شيء نحو هذا، مثل: "اجْتَنِب" حسب السياق، والثاني: الفاعل المحذوف الذي تقديره "أنت"[9].
• ونوع يشتمل ذِكْر المحذَّر منه اسمًا ظاهرًا؛ إمَّا مُكررًا، أو معطوفًا، فالأوَّل مثل: "الخيانةَ الخيانةَ"، والثاني مثل: "الظلمَ والبَغيَ"، وحكم هذا النوع نصب الاسم في الصورتين كليهما بعاملٍ محذوف مع مرفوعه؛ أي: فاعله.
قسم ثالث يشتمل على ذِكْر اسم ظاهر مختوم بكاف الخطاب، نحو: "يَدكَ يدكَ"، وهناك أقسام أخرى لا يتَّسع المجال لذِكرها، والشاهد عندنا أنَّ هذا الأسلوب مما تواتَر القول فيه بالحذف عند النحاة، وكل ما قيل من أحكام نحويَّة عن التحذير ينطبق على أسلوب الإغراء، إلاَّ أنَّ هذا الأخير في مقابل الآخر من حيث معناه؛ لأنه يدلُّ على تنبيه المخاطب على أمرٍ محبوب، ويُنصب بعاملٍ محذوف تقديره: "الْزَم"، أو نحو ذلك.
• الحذف في باب الاختصاص، ويكون الاختصاص بإيراد جملة اعتراضيَّة لا محلَّ لها من الإعراب، وهي على ثلاثة صُوَر في الأشهر، يكون فيها الفعل محذوفًا حذفًا واجبًا، فيَنصب ما بعده، أو يُبنى على الضمِّ في محل نصب، فأمَّا القسم الذي يُبنى على الضم، فهو في نحو: "أنا أدافع - أيها الجندي - عن وطني، وبُني لشَبهه بالمنادى لفظًا، وموضعه النصب بفعلٍ واجب الحذف، فإذا قلت: أنا أفعل كذا أيها الرجل، فتقدير عامله: أَخُصُّ بذلك أيها الرجل، والمراد بأيها المتكلم نفسه، وأمَّا القسم المعرب نصبًا، وهو المضاف وذُو الألف واللام - المعرف بـ"أل"، نحو: "نحن - العرب - أقْرَى الناس للضيف"، فنحن مبتدأ وخبره أقرى الناس، والعرب منصوب بفعلٍ واجب الحذف تقديره: "أخُصُّ"، وكذلك المضاف، نحو: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نحن - معاشرَ الأنبياء - لا نُورَث))، "فنحن" مبتدأ وخبره "لا نورث"، و"معاشر الأنبياء" مفعول بفعلٍ واجب الحذف[10]، ومثل ذلك أيضًا ما أنشدتْه هند بنت أبي عتبة متمثِّلة به يوم أُحُد[11]:
نَحْنُ - بَنَاتِ طَارِقْ *** نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ[12]
فقولها: "بنات" مفعول به لفعلٍ محذوف تقديره: "أخصُّ"، وعلامة النصب هنا في "بنات" الكسرة النائبة عن الفتحة؛ لأنها جمْع مؤنث سالِم.
يتبع