انتقال النجاسة، وأثر لونها، واليسير منها


السؤال
الملخص:
استشارة تحتوي على أسئلة حول انتقال النجاسة، وأثر لون دم الحيض، واليسير من النجاسة.
التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
عندي بعض الأسئلة المتعلقة بدم الحيض ومدى نجاسته، وهي: إذا تنجَّست الثياب الداخلية بدم الحيض وكانت الثياب الخارجية رطبة، فهل تنتقل النجاسة إلى الملابس الخارجية حتى إن لم يظهر لون دم الحيض ورائحته في الثياب الخارجية؟ وقد قال الأحناف: إن الثوب النجس المبتل إذا لُفَّ في ثوب طاهر، ولم تؤثر النداوة فيه، فلا يتنجَّس، فما الفرق إذا كانت جميع الملابس رطبة ولم يظهر أثرٌ للنداوة أو النجاسة؟ وما ضابط الرطوبة؟ وكذلك إذا جلستُ على كرسي المرحاض وعليه بقايا دماء الحيض التي لا تزول بالماء، لكن تزول بفرشاة التنظيف، هل ينجس هذا بدني، ومن ثَمَّ تنتقل النجاسة من بدني إلى ثيابي؟

أرجو أن تذكروا لي أيسر الأقوال في هذه المسائل؛ لأني أجد مشقة كبيرة جدًّا في التحرز من هذه الأشياء، فأنا أحاول أن أُحافظ على طهارة ملابس الصلاة ومكانها، فمثلًا إذا كانت هناك نجاسة في مكان صلاتي أو على ثيابي، فالطبيعي أني سأُطهر هذه النجاسة، كذلك من المستحيل أن أُصلي دون اغتسال من الحيض، لكن تحرِّي هذه الأشياء متعب جدًّا، لأن السير بهذا المنطق سيجعل كلَّ شيء يتنجس بمنتهى السهولة؛ جزاكم الله خيرًا.

الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
أولًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكِ أيتها الأخت الفاضلة، ونسأل الله لكِ الهداية والتوفيق والسداد.
ثانيًا: فقد اشتمل سؤالكِ على عدة مسائل، وهي:
1- ما مذهب الحنفية في انتقال النجاسة بملامسة ثوب نجس مبلل بثوب طاهر جاف؟
2- ما حكم الثياب الخارجية إذا كان الثوب الداخلي به دم الحيض؟
3- ما حكم أثر لون ورائحة النجاسة التي تظهر في مقعد المرحاض؟
4- ما حد اليسير في النجاسات المعفو عنه؟
فنقول وبالله التوفيق:
1- بالفعل ما ذكرتِهِ من أن انتقال النجاسة بمجرد ملامسة ثوبٍ طاهرٍ بثوبٍ مبللٍ نجسٍ، هو مذهب الحنفية والمالكية أيضًا، فعندهما أن الثوب المبتل بالنجاسة إذا لمس ثوبًا أو بدنًا، وانفصلت منه نداوة، وجب غسلها؛ لأنها عين النجاسة، ففي رد المحتارلابن عابدينالحنفي (6/ 733): (قوله: لُفَّ ثوب نجس رطب؛ أي: مبتل بماء، ولم يظهر في الثوب الطاهر أثر النجاسة، بخلاف المبلول بنحو البول؛ لأن النداوة حينئذ عين النجاسة).
وهو مذهب المالكية؛ قالالحطابالمالك ي في مواهب الجليل نقلًا عن المدونة (1/ 166):(من سماع عيسى وسألته - أي: مالكًا - عن جدار المرحاض يكون نديًّا، يلصق به الرجل ثوبه؟ قال: أما إن كان نداه شبيهًا بالغبار فليرشه، ولا شيء عليه، وإن كان بللًا أو شبيهًا به فليغسله.
قال ابن رشد: إذا كان شبيهًا بالغبار، فلا يُوقَن بتعلقه بثوبه، فكذلك قال: ينضحه؛ لأن النضح طهور لما شك في نجاسته من الثياب، وإن كان بللًا أو شبيهًا بالبلل، فلا إشكال في وجوب غسله لتعلقه بثوبه)، ونقله ابن عرفة.
فهذا يدل على أنه إذا غلب على الظن وصول النجاسة للثوب، وجب الغسل؛ لأنه إذا كانت نداوة الجدار شبيهة بالبلل يغلب على الظن وصولها للثوب.
وأيضًا ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الأعيان الطاهرة إذا لاقاها شيء نجس، وأحدهما رطب والآخر يابس، فينجس الطاهر بملاقاتها؛ [ينظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (8/ 72)].
وعند الحنفية أن الأرض تطهر بالجفاف، لكن إذا أصابها الماء، هل تعود للنجاسة؟
فيها قولان عندهم، والأصح: أنها لا تعود، أما في غير الأرض؛ كالفُرش، والثياب، والنعال، فلا ينطبق عليه هذا الحكم، ولا يطهر بالجفاف؛ جاء في المبسوط للسرخسيالحنفي (1/ 205): (ثم النجاسة تحرقها الشمس، وتفرقها الريح، وتحول عينها الأرض، وينشفها الهواء؛ فلا تبقى عينها بعد تأثير هذه الأشياء فيها؛ فتعود الأرض كما كانت قبل الإصابة ... فإن أصاب الموضع ماء فابتلَّ، أو ألقي من ترابه في ماء قليل، ففيه روايتان: إحداهما: أنه يعود نجسًا كما قبل الجفاف، والأخرى - وهو الأصح - أنه لا يتنجس؛ لأن بعد الحكم بطهارته لم يوجد إلا إصابة الماء، والماء لا ينجس شيئًا، بخلاف ما إذا أصابت النجاسة البساط، فذهب أثرها؛ لأن النجاسة تتداخل في أجزاء البساط، فلا يخرجها إلا الغسل بالماء، وليس من طبع البساط أن يحول شيئًا إلى طبعه، ومن طبع الأرض تحويل الأشياء إلى طبعها، فإن الثياب إذا طال مكثها في التراب تصير ترابًا، فإذا تحولتالنجاسة إلى طبع الأرض بذَهاب أثرها، حكمنا بطهارة الموضع لهذا، وإن كان الأثر باقيًا لم تجُزِ الصلاة؛ لأن ظهور الأثر دليل على بقاء النجاسة).
وفي الجوهرة النيرة على مختصر القدوري - وهو حنفي - (1/ 37): (قوله: وإذا أصابت الأرض نجاسة فجفت بالشمس وذهب أثرُها، جازت الصلاة على مكانها، وقال زفر، والشافعي رحمهما الله: لا تجوز؛ لأنه لم يوجد المزيل، ولهذا لم يجز التيمم منها، ولنا قوله عليه السلام: ((ذَكاة الأرض يُبْسُها))، وقيد بالأرض احترازًا عن الثوب، والحصير، وغير ذلك؛ فإنه لا يطهر بالجفاف بالشمس).
وبناءً على هذا القول؛ فإن الفراش إذا أصابته نجاسة ثم جفَّت، ثم أصابها بلل، فإن هذا البلل يعتبر نجسًا، وينجس كل ما لامسَه، كما أن النعل إذا أصابته نجاسة ثم جفت، ثم أصابه بلل، فإن هذا البلل نجس، وينشر النجاسة فيما وطئ عليه هذا النعل من بلاط، أو فراش.
2- أما عن رطوبة الثياب الداخلية وملامستها للثياب الخارجية، فإن كانت هذه الرطوبة بسبب غسلها بالماء، فلا يضركِ؛ لأنها أصبحت طاهرة بغسلها، ولا يلزم إزالة الدم بالكلية؛ كما في حديث عائشةَ رضي الله عنها قالت: "ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم، قالت بريقها، فقَصَعَتْه بظُفْرِها"؛ البخاري (312).
ووجه الدلالة: قولها: "فإذا أصابه شيء من دم، قالت بريقها"؛ دل على أنه لا يشترط ذهاب اللون والرائحة إذا تعسرت إزالتهما؛ لأن الريق لا يُذهِب لون النجاسة ولا رائحتها بمفرده.
أما إذا كانت هذه الرطوبة هي رطوبة دم الحيض نفسه، وأصاب ثيابكِ الخارجية؛ فإن كانت يسيرة فمعفوٌّ عنها كما سيأتي بيانه، وإن كانت كثيرة، فيجب عليكِ غسلها، وإزالة النجاسة من الثياب الداخلية والخارجية.
سُئل الشيخ ابن باز:
أحيانًا تكون ثياب ابني الصغير مبللة بالنجاسة، فيلمس بثيابه تلك - دون شعور - ثياب أخيه الكبير أو ثيابي، ولكن آثارالبلل لا تظهر على ثياب الكبير نتيجة الملامسة، فهل يلزم الكبير غسل ثيابه لتطهيرها أو أنها لا تعتبر نجاسة؛ لأنها لمتظهر عليه آثار البلل؟

فأجاب:
(بول الطفل نجس مطلقًا، من حين الولادة إلى آخر حياته يكون نجسًا، لكن في حال الطفولة وعدم أكل الطعام، تكون نجاسته مخففة، يكفيها الرش والنَّضح، حتى يأكل الطعام ويتغذى بالطعام.

وإذا كان ثوب الصبي مبللًا بالنجاسة، ثم باشر ثوبًا آخر طاهرًا، فإن هذا البلل ينجس الثوب الذي يلامسه إذا كان رطبًا، أما إذا كانت رطوبته خفيفة، ولم يؤثر في الثوب الذي يلامسه، فلا بأس، لا يتنجس.

لكن إذا كانت رطوبته واضحة وبيِّنة، فإنه لا بد تؤثر في الثوب الذي يلامسه، ولو ما بان ذلك بينونة ظاهرة، فينبغي غسل ما أصاب الثوب الجديد الطاهر من هذا البلل، يتحراه ويغسله بالماء)؛ فتاوى ابن باز.
3- أما عن أثر لون ورائحة النجاسة التي تظهر في مقعد المرحاض، فمعفو عنه؛ لأن الحَرَجَ مدفوع، وفي إزالة أثر النَّجاسة من اللون والرائحة عُسرٌ ومشقَّةٌ، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية. [ينظر: في المذهب الحنفي: البحر الرائق، لابن نجيم (1/ 249)، وفتح القدير، لابن الهمام (1/ 209)، والمذهب المالكي: الشرح الكبير، للدردير (1/ 80)، وشرح مختصر خليل، للخرشي: (1/ 115)، والمذهب الشافعي: المجموع، للنووي (2/ 593)، ومغني المحتاج، للشربيني (1/ 85)، والمذهب الحنبلي: الفروع، لابن مفلح (1/ 322)، وكشاف القناع، للبهوتي (1/ 183)].
4- ما هو حد اليسير في النجاسات؟
العلماء اتفقوا على أن من النجاسات ما هو معفو عنه كاليسير منها، على خلافٍ بينهم في تحديد اليسير، فقد اختلفت آراء الفقهاء فيما يُعفى عنه من النجاسات، كما اختلفت آراؤهم في التقديرات التي تعتبر في العفو.

فعند الحنفية فرقوا بين النجاسة المغلظة والمخففة؛ [ينظر: بدائع الصنائع (1/ 80)، البناية شرح الهداية (1/ 733 - 739)].

وحدُّه - على الصحيح - هو العرف، فما يعتبره الناس يسيرًا ليس بفاحشٍ، فهو المعفو عنه، وهو قول الحنابلة والشافعية، واختاره ابن تيمية وابن عثيمين، وذلك رفعًا للحرج، ولعُسْرِ ومشقة الاحتراز منه، فمعفو عنها كأثر الاستجمار.
قال ابن تيمية في تحديد اليسير من النجاسات: (وحدُّ اليسير ما لا يفحش في النظر في عرف الناس وعادتهم، إذا ليس له حد في اللغة ولا في الشرع)؛ [شرح عمدة الفقه، لابن تيمية: (ص: 346)].
وقال ابن تيمية: (ولو تحقَّقت نجاسة طين الشارع، عُفي عن يسيره؛ لمشقة التحرز عنه، ذكره أصحابنا، وما تطاير من غبار السرجين - أي: الزِّبْل النجس - ونحوه، ولم يمكن التحرز عنه، عفي عنه، وإذا قلنا: يعفى عن يسير النبيذ المختلف فيه لأجل الخلاف فيه، فالخلاف في الكلب أظهر وأقوى، فعلى إحدى الروايتين يعفى عن يسير نجاسته، وإذا أكلت الهرة فأرة ونحوها، فإذا طال الفصل طهُر فمُها بريقها؛ لأجل الحاجة، وهذا أقوى الأقوال، واختاره طائفة من أصحاب أحمد، وأبي حنيفة، وكذلك أفواه الأطفال، والبهائم، والله أعلم)؛ [الفتاوى الكبرى (5/ 314)].
وقال ابن عثيمين: (والصحيح: ما ذهب إليه أبو حنيفة، وشيخ الإسلام؛ لأننا إذا حكمنا بأن هذه نجسة، فإما أن نقول: إنه لا يعفى عن يسيرها كالبول والغائط، كما قال بعض العلماء، وإما أن نقول بالعفو عن يسير جميع النجاسات، ومن فرَّق فعليه الدليل.
فإن قيل: إن الدليل فعل الصحابة؛ حيث كانوا يصلون بثيابهم، وهي ملوثة بالدم من جراحاتهم،
فنقول: إنه دليل على ما هو أعظم من ذلك وهو طهارة الدم.
ومن يسير النجاسات التي يعفى عنها لمشقة التحرز منه: يسير سلس البول لمن ابتلي به، وتحفظ تحفظًا كثيرًا قدر استطاعته)؛ [الشرح الممتع (1/ 447)].
إذًا الأصل في العفو: رفع المشقة والحرج عن المسلمين، وهذا مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، وقد وردت أدلة كثيرة تؤيد هذا المقصد، وبالأخص في العفو عن يسير النجاسات؛ فقد ثبت ما يدل على العفو عن يسير دم الحيض وغيره، ويسير المذي، ويسير الغائط والبول في حال الاستجمار، ومع ذلك، ينبغي عدم التساهل في أمر النجاسات؛ فقد ورد الوعيد الشديد في التساهل فيها،والضابط في ذلك: التحرز منها بقدر الاستطاعة.
والنصيحة لكِ أيتها الأخت الفاضلة: التحرز من النجاسة قدر استطاعتكِ، والحذر من كثرة الشك؛ حتى لا ينقلب الأمر للوسوسة، فلا إفراط ولا تفريط، وإنما القصد القصد، بارك الله فيكِ هذا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.