إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فـ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ... ﴾ [النساء: 1].
أيها المؤمنون، إن من أجلِّ مقامات العبد شأنًا، وأرفعها حالًا، وأعظمها قدرًا - وقوفَه بين يدي ربه في صلاته، مقام عظيم مَن وعى قدره وفَّاه قدره، فكان له بذلك المقام عند الله سبحانه خيرُ المقام.
إن المصلي إذا قام في صلاته، فإنما يقابل الله جل وعلا وما ظنُّكم بمُقام يقابل العبدُ فيه ربَّه؟! قال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا، وفي يده عرجون ابن طاب، فرأى في قبلة المسجد نخامة فحكَّها بالعرجون، ثم أقبل علينا، فقال: «أيكم يحب أن يُعرض الله عنه؟»، قال: فخشعنا (أي: خفنا)، ثم قال: «أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟»، قال: فخشعنا، ثم قال: «أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟»، قلنا: لا أيُّنا يا رسول الله، قال: «فإن أحدكم إذا قام يصلي، فإن الله تبارك وتعالى قِبَل وجهه، فلا يبصقنَّ قِبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، تحت رجله اليسرى"؛ رواه مسلم.
عباد الله، وكما أن مقام المصلي مقام مقابلةٍ لربه، فإنه مقام مناجاة عليٍّ مع مولاه السميع البصير؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم إذا قام في صلاته، فإنما يناجي ربه، أو ربه بينه وبين قبلته"؛ رواه البخاري.
تلك المناجاة تحمل المصلي على استحضار قربه من ربه، واستشعاره نظرَ الله إليه، وسماعِه دعاءَه، وقربِ إجابته له، وخفضِه صوتَه في مناجاته؛ قال ابن رجب: "فمن استشعر هذا في صلاته، أوجب له ذلك حضور قلبه بين يدي ربه، وخشوعه له، وتأدُّبه في وقوفه بين يديه، فلا يلتفت إلى غيره بقلبه ولا ببدنه، ولا يعبث وهو واقف بين يديه، ولا يبصق أمامه، فيصير في عبادته في مقام الإحسان يعبد الله كأنه يراه"؛ قال البيهقي: "كان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة يهاب الرحمن أن يشد بصرَه، أو يلتفت، أو يعبث بشيء، أو يقلِّب الحصا، أو يحدث نفسه من شأن الدنيا إلا نسيًّا".
قال أبو هريرة رضي الله عنه: "إذا قام الرجل إلى الصلاة فإنه في مقام عظيم، واقف فيه على الله يناجيه، ويرضاه قائمًا بين يدي الرحمن، يسمع لقيله، ويرى عمله، ويعلم ما يوسوس به نفسه، فليقبل على الله بقلبه وجسده، ثم ليَرمِ ببصره قصد وجهه خاشعًا، أو ليخفضه، فهو أقل لسهوه، ولا يلتفت، ولا يحرك شيئًا بيده ولا برجليه ولا شيء من جوارحه حتى يفرغ من صلاته، وليُبْشرْ من فعل هذا، ولا قوة إلا بالله".
وذاك الشعور الإيماني العظيم سر من أسرار استلذاذهم بطول القيام؛ يقول مسلم بن يسار: "ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل"؛ قال بكر بن عبدالله المزني: "من مثلك يا بن آدم؟! خُلِّي بينك وبين الماء والمحراب، متى شئت دخلتَ على ربك، ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان".
ولأولئك الأخيار مع طول القيام عظيم إخبار، قالت ابنةٌ لجارِ منصورِ بن المعتمر: "يا أبت، أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة؟ قال: يا بنية، ذاك منصور كان يقوم الليل، وكان العنبس بن عقبة إذا قام في الصلاة كأنه جذم (أي: أصل) حائط، وكان إذا سجد وقعت العصافير على ظهره من طول سجوده، وقال محمد بن المنكدر: "لو رأيتَ ابن الزبير يصلي، كأنه غصن شجرة يصفقها الريح وحجر المنجنيق يقع ها هنا وها هنا"، وكان عطاء بن رباح بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة، فيقرأ مائتي آية من البقرة وهو قائم ما يزول منه شيء، ولا يتحرك، وكان مسلم بن يسار إذا صلى كأنه وتد لا يقول هكذا ولا هكذا.
أيها المسلمون، وقوف المصلي في مصلاه إيذانٌ برحمة عظيمة من أرحم الراحمين، تستقبله وتغشاه إن هو شرع في صلاته وكان مقبلًا عليها بقلبه ووجهه؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى، فإن الرحمة تواجهه»؛ رواه أبو داود وصحَّحه ابن حجر، وفي ذلك الموقف العظيم تتنزل من الله سبحانه على عبده بشائر وذخائر؛ فذاك لعمر الله أرجى ما يكون حصولها وإن جلَّت، فقد كان ذلك الموقف موطنَ تبشير الملائكة زكريا عليه السلام بالغلام النبي الزكي مع عتوِّ السنِّ وعقم الزوج: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39].
قال ثابت البناني: "الصلاة خدمة الله في الأرض، ولو علم الله شيئًا في الأرض أفضل من الصلاة ما قال: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾، وطول القيام في الصلاة من أعظم ما يكون به شكرُ النعم وأداءُ زكاة الاصطفاء الرباني؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 42، 43].
قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: «أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا؟!»؛ رواه البخاري ومسلم، وما ذاك إلا أن الصلاة خير الأعمال، وخير تلك الصلاة طول القيام فيها؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة طول القنوت»؛ رواه مسلم، والقنوت هو القيام باتفاق العلماء كما قال النووي.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، أيها المؤمنون، في موقف القيام في الصلاة ذكرى القيام بين يدي رب العالمين يوم القيامة، وذا ما دعا أهل العلم إلى الإكثار من ذلك القيام وتطويله؛ رجاء أن يهوِّن الله به عليهم قيامَ اليوم الثقيل: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَاب ﴾ [الزمر: 9]؛ يقول ابن القيم: "للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هوَّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف، ولم يوفِّه حقَّه، شَدَّد عليه ذلك الموقف؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴾ [الإنسان: 26، 27]، كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله إذا توضأ اصفرَّ، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟!
ومن صور استشعار ذكرى الآخرة في مقام الصلاة: جواب حاتم الأصم حين سئل عن صلاته، فقال: "إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، أظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف، وأكبِّر تكبيرًا بتحقيق، وأقرأ قراءةً بترتيل، وأركع ركوعًا بتواضع، وأسجد سجودًا بتخشع، وأقعد على الورك الأيسر، وأفرش ظهر قدمها، وأنصب القدم اليمنى على الإبهام، وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقبِلت مني أم لا؟!".


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/136448/#ixzz60vSd9P7y