محبطات الأعمال.. عقوق الوالدين
عبده أحمد الأقرع




الحمد لله وكفى، والصلاةُ والسلامُ على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى. أما بعد:
عن عمرو بن مرة الجهني - رضي الله عنه – قال: جاء رجلٌ إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليتُ الخمس، وأديت زكاة مالي، وصُمت رمضان"، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: :مَن مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا ونصب أصبعيه ما لم يَعُقًَّ والديه)) صحيح الترغيب.
فقوله: ((ما لم يعق والديه)) أفادت هذه الجملة أن الصلوات الخمس، وصيام الشهر، وإيتاء الزكاة لا ينفع ذلك صاحبه إذا كان عاقًا لوالديه، يؤيد ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((ثلاثة لا يقبل الله - عز وجل - منهم صرفًا ولا عدلاً:عاقٌ، ومنانٌ، ومكذب بقدر)) صحيح الترغيب والترهيب.
بِرُّ الوالدين فريضة لازمةٌ، وفضيلة جازمة، وجُوبها حتمٌ، وأداؤها عزم، لا عذر لأحد في التساهل بها، والتهاون بشأنها، فإحسان الوالدين سابق، وفضلهما عظيم، فليس أعظم إحسانًا ولا أكثر فضلاً بعد الله - سبحانه وتعالى - من الوالدين، لله - سبحانه - نعمة الخلق والإيجاد، وللوالدين بإذنه نعمة التربية والإيلاد، يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: ثلاث آياتٍ مقروناتٌ بثلاث لا تقبل واحدةٌ بغير قرينتيها: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) [آل عمرآن:32]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يُقبل منه، (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة:43]، فمن صلى ولم يزكِّ لم يقبل منه، (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ) [لقمان:14]، فمن شكرَ الله ولم يشكرْ لوالديه لم يُقبل منه فرِضى الله في رضى الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين"، نهى - سبحانه وتعالى - عن أدنى مراتب الأذى، نبه به على ما سواه فقال - سبحانه – (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا * إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:23-25].
ألا وإنَّ من العار والشنار والويل والثبور أن يُفجأ الوالدان بالتنكر للجميل، كانا يتطلعان للإحسان، ويؤملان الصلة بالمعروف، فإذا بهذا المخذول، قد تناسى ضعفه وطفولته، وأُعجبَ بشبابه وفتوَّته، وغَرَّهُ تعليمُه وثقافتُه، يؤذيهما بالتأففِ والتبرم، ويجاهرهما بالسوءِ وفُحش القولِ، يقهرُهما وينهرُهما بل ربَّما لطمَ بكفٍ أو رفسَ برجلٍ، يريدان حياته ويتمنى موتهما، وكأني بهما قد تمنيا أن لو كانا عقيمين، تئن لهما الفضيلةُ، وتبكي من أجلهما المروءةُ، فيا من كان حاله كذلك (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) [الرحمن:60]، يا من كان هذا حاله أين أنت من قول الجبار - سبحانه -: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) [الأحقاف:17-18].
أيها العاق: أما علمت أن عقوق الوالدين من أكبر كبائر الذنوب؟
عن أبي بكرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائرِ؟ ثلاثًا. قلنا: بلى، يا رسول الله. قال: الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقولُ الزور، وشهادةُ الزور، فمازال يُكرِّرها حتى قلنا: لَيْتَهُ سَكَتَ)) متفق عليه.
أيها العاق: أما علمت أنَّ الله لا ينظر إلى العاق يوم القيامة، قال –صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثةٌ لا ينظرُ الله إليهم يومَ القيامةَ: العاقُّ لوالديه، ومدمنُ الخمرِ، والمنَّانُ عطاءَه)) صحيح الترغيب.
أيها العاق: أما علمت أنَّ الله حرَّم الجنَّة على العاق، قال –صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثةٌ حرَّمَ الله- تبارك وتعالى -عليهم الجنةَ: مدمن الخمرِ، والعاق، والديوث الذي يقرُّ الخبث في أهله)) صحيح الترغيب.
أيها العاق: أما علمت أنَّ دعاءَ الوالدين مستجاب، قال –صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثُ دعواتٍ مُستجابات لهنَّ، لا شكَّ فيهنَّ: دعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافر، ودعوةُ الوالدِ على وَلَدِه)) صحيح الجامع.
أيها العاق: أما علمت أنَّ عقوبة العقوق مُعجلة، قال –صلى الله عليه وسلم-: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله - تعالى - لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخرُه له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) صحيح الجامع.
فمن برَّ بوالديه برَّ به بنوه، ومن عقَّهما عقوه، ولسوف تكونُ محتاجًا إلى بر أبنائك، وسوف يفعلون معك كما فعلتَ مع والديك، وكما تدينُ تدانُ، والجزاءُ من جنس العمل.
فاتقوا الله أيها الأبناء.. وبادروا للبرِّ بوالديكم مهما كانت الأحوالُ ومهما كان على الأبوين من تقصير، فبرهم واجبٌ، والإحسان إليهم مُتعين، قال الله - تعالى -: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) [لقمان:15].
واعلم أيها الابن مهما فعلت في بر الوالدين والإحسان إليهما فلن تقوم بواجبهما أو توفِّ حقوقهما، فقد قال –صلى الله عليه وسلم-: ((أنت ومالك لأبيك)) صحيح الجامع.
وقال –صلى الله عليه وسلم-: ((وأطع والديك وإن أمرك أن تخرج من دُنياك فاخرج لهما)) الإرواء.
لقي ابن عمر - رضي الله عنهما - رجلاً في المطاف يحمل أمه على ظهره يطوف بها، فقال: "يا ابن عمر، أتراني جزيتها"؟ قال: "ولا بزفرةٍ واحدة".
الله أكبر، ما أعظم الحق، وما أشد تقصير الخلق، ولله در القائل:
إن للوالدين حقًا علينا *** بعد حقِّ الإله في الاحترام
أَوْلَدَانَا وربيانا صغارًا *** فاستحقا نهاية الإكرام
فحق على كل من كان مقصرًا في حق والديه أو أحدهما أن يبادر من الآن فيطبع قبلة حارةً على جبين أبيه أو أمه، ويندم على ما مضى، ويعتذر عما سلف قبل فوات الأوان، قبل (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) [الزمر:56]، وحسب العاق نكدًا وخسرانًا أن يبوءَ بسخط الله ويُحرم من رضاه، قال –صلى الله عليه وسلم-: ((رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة)) رواه مسلم.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ) [إبراهيم: 41]