أثر الحق في حضانة الولد- دراسة فقهية
أ. د. بندر بن فهد السويلم[*]
ملخص البحث:
إذا طلق الزوج زوجته انفكت عرى الأسرة, التي هي اللبنة الأساس للمجتمع, وتضرر الوليد بافتراق والديه مع حاجته الشديدة لهما, غير أن الإسلام لم يترك الطفل ليضيع, بل جاءت أحكامه كفيلة بحفظ حقوقه, مستوفية جميع الجوانب, مقررة مسئولية الأشخاص المعنيين بها وواجباتهم, لأن الطفل نفس بشرية حظيت بالتكريم والحفظ والعناية, وجعل الإسلام حفظها -سواء أكانت نفسا صغيرة أو كبيرة, ذكرا أو أنثى- من أهم الضروريات الشرعية, وإن من مسائل الفقه التي تحتاج إلى إبراز, ما يتعلق بأثر الحق في حضانة الولد, لأنه باب من أبواب الحقوق ازدادت الحاجة إليه في الوقت الحاضر, لارتفاع معدلات النزاع والطلاق بين الزوجين, وكثرة الخصومات في محاكم الأحوال الشخصية, وتأثر حال الأطفال وهم في سن الحضانة, من افتراق الوالدين, وما ينتج عن ذلك من قلق وضرر لهم, مع وجود كثير من المستجدات في هذا العصر, وهذا البحث سيتناول الحق في الحضانة وأثره على كل من أصحاب هذا الحق, وبيان مدى رعاية قوة حق المحضون, والأحكام الفقهية المتعلقة بذلك.
Abstract:
If the husband his wife divorced consistently bonds of family, which is the foundation unit of society, and affected newborn dissolution of married parents with severe for them his need, but Islam did not leave a child to miss in his life, but came provisions enough to save his rights, meet all aspects, planned the responsibility of the persons concerned by and duties , because the child the same as human enjoyed honored, preservation and care, and make Islam saved-whether they're small or big breath, male or female- of the most important legal necessities, but matters of doctrine that you need to highlight, what the impact of the right to child custody, because the door of doors rights increased need for it at the present time, the high conflict divorce between spouses rates, frequent discounts in family courts, and influenced by the case of children who are in the age of custody, from the separation of the parents, and the resulting anxiety and harm them, and with a lot of developments in the This era. This research will address the right to custody and its impact on all of the owners of this right, and the extent of the power of the right of the child care, jurisprudence and provisions relating thereto.
المقدمة:
الحمد لله, أحمده وأشكره, وأثني عليه الخير كله, وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, وأشهدا أن محمدا عبده ورسوله, وصفيه من خلقه, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد: فقد جاءت توجيهات الإسلام الحكيمة في شأن الأولاد متضمنة كافة الجوانب التي تكفل العناية بهم, تربية لأبدانهم كي تنمو وتقوى, وتهذيبا لفكرهم وسلوكهم, وارتقاء بأخلاقهم, لأن الأولاد ثمرة مهمة من ثمرات الزواج الذي شرعه الله لبقاء الإنسان والجنس البشري, لكن الإنسان حينما يولد ويخرج من بطن أمه إلى هذه الدنيا يخرج مخلوقا ضعيفا جدا, مضطرا إلى الرضاع واللباس والتنظيف والحفظ والشفقة والرأفة, وإذا ترعرع قليلا احتاج إلى التقوية بالطعام والشراب واللباس والعلاج، والتربية والتعليم ومزيد من العناية والاهتمام, وهذه مسئولية وأمانة على الوالدين القيام بها نحو طفلهما الذي تشتد حاجته لملازمتهما إلى أن يصبح يافعا تتوافر فيه صفات لا يحتاج معها إلى حضانة والديه.
وإذا وقع الطلاق -وهو غاية شيطانية مهمة كما جاء في الحديث[1]- تشتت الوالدان, وانفكت عرى الأسرة التي هي اللبنة الأساس للمجتمع, وتضرر الوليد بافتراق والديه مع حاجته الشديدة لهما, غير أن الإسلام لم يترك الطفل ليضيع في حياته, بل جاءت أحكامه كفيلة بحفظ حقوقه, مستوفية جميع الجوانب, مقررة مسئولية الأشخاص المعنيين بها وواجباتهم, لأن الطفل نفس بشرية حظيت بالتكريم والحفظ والعناية, وجعل الإسلام حفظها -سواء أكانت نفسا صغيرة أو كبيرة, ذكرا أو أنثى- من أهم الضروريات الشرعية.
وإن من مسائل الفقه التي تحتاج إلى إبراز, ما يتعلق بأثر الحق في حضانة الولد, لأنه باب من أبواب الحقوق ازدادت الحاجة إليه في الوقت الحاضر, لارتفاع معدلات النزاع والطلاق بين الزوجين, وكثرة الخصومات في محاكم الأحوال الشخصية, وتأثر حال الأطفال وهم في سن الحضانة, من افتراق الوالدين, وما ينتج عن ذلك من قلق وضرر لهم, مع وجود كثير من المستجدات في هذا العصر.
وقد اخترت الكتابة في هذا الموضوع تحت عنوان: (أثر الحق في حضانة الولد: دراسة فقهية) لتحقيق الأهداف الآتية:
رجاء تحصيل الأجر والثواب من الله الكريم الوهاب سبحانه, لأن الطلب والبحث في ميراث النبوة وعلوم الشريعة وفروع الفقه من أفضل ما يشتغل به المرء في حياته, لأنه من العلم النافع, والتفقه في الدين, وهو باب من أبواب الخير, وأمارة من أمارت التوفيق للمسلم, كما أخبر المصطفى e, حين قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"[2].
بيان كمال وشمول الشريعة الإسلامية وعنايتها بالطفل, وتقريرها الحقوق لأصحابها, وتحديدها الواجبات التي يتحقق بها حفظه وتربيته وتعليمه, وتحقيق مصالحه, ودرء المفاسد والمضار عنه.
دراسة هذا الموضوع بغية التركيز على الحق فيه, دون دراسة ترتيب الحاضنين وما يشترط فيهم, لأن هذا مما كتب فيه كثيرا, والوصول إلى ذلك سهل وميسور في المراجع القديمة والحديثة.
الإسهام في بحث أثر الحق في الحضانة لتعزيز التوعية الدينية والتثقيف الحقوقي في هذا الجانب المهم الذي تزداد أهميته في العصر الحاضر.
المشاركة في إثراء المكتبة المختصة بالأحوال الشخصية بالدراسات والبحوث المتخصصة, ومساعدة القضاة وطلبة العلم والباحثين والمهتمين في تيسير الدراسة, وتقريبها بين أيديهم.
خطة البحث:
ينتظم البحث في مقدمة وتمهيد واثني عشر مبحثا وخاتمة.
المقدمة: وتشمل أهداف الموضوع وخطة البحث ومنهجه.
التمهيد: في التعريف بمفردات العنوان.
المبحث الأول: حكم حضانة الولد.
المبحث الثاني: أركان حق الحضانة.
المبحث الثالث: صاحب الحق في الحضانة.
المبحث الرابع: أحق الجنسين بالحضانة.
المبحث الخامس: أحق الأبوين بالحضانة.
المبحث السادس: حق المحضون إذا تزوجت أمه الحاضنة
المبحث السابع: حق الحضانة للأم إذا تزوجت ثم طلقت.
المبحث الثامن: حق المحضون في الزيارة.
المبحث التاسع: حق المحضون حال المرض.
المبحث العاشر: حق المحضون حال الإقامة والسفر.
المبحث الحادي عشر: أمد الحضانة.
المبحث الثاني عشر: أجر الحضانة للأم الحاضنة.
الخاتمة: وفيها ملخص البحث.
منهج البحث:
سلكت في إعداد هذا البحث المنهج العلمي في دراسة القضايا الفقهية, وذلك بتصوير مسألة البحث وبيان الحكم الفقهي بدليله مع توثيقه من كتب الفقهاء المعتبرة إذا كانت المسألة محل اتفاق, وإذا كانت مسألة البحث محل خلاف فإني أصورها وأعرض آراء العلماء فيها وأدلتهم ووجوه الاستدلال منها, وما يرد من اعتراضات عليها أو مناقشات, وأشارك في بيان ما أراه من مشاركة مؤيدة بالدليل, كما أعتمد نقل النص الفقهي عند الحاجة التوضيحية لذلك, كل ذلك مع الحرص على استقصاء الأدلة, وبيان الترجيح وأسبابه, مع التوثيق العلمي, وعزو الآيات إلى مواضعها في القرآن العزيز, وتخريج الأحاديث النبوية من مصادرها وبيان درجتها في الصحة إذا لم تكن في صحيح البخاري أو صحيح مسلم, كما حرصت على الإفادة من دقة عبارات الفقهاء وقوة أسلوبهم, واحترامهم المتبادل, وتقديرهم البالغ لآراء الفقهاء, والتماسهم العذر فيما بينهم في حال الخلاف.
أسأل الله تعالى أن يكون هذا العمل خالصا لوجهه الكريم, وأن ينفع به المسلمين, وأن يعفو عما فيه من زلل أو خطأ, وأن يجعله من العلم النافع, والعمل الصالح, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهيد: في التعريف بمفردات العنوان
أولا: تعريف الأثر:
الأثر في اللغة: بقية الشيء, والجمع آثار وأثور, وخرجت في أثره وفي إثره أي: بعده, والأثر بالتحريك: ما بقي من رسم الشيء, والآثار: الأعلام, قال الله تعالى: ﴿سيماهم في وجوههم من أثر السجود﴾ [الفتح: 29], أي: للسجود علامة في وجوههم, وهي نتيجة حاصلة من السجود بكثرة, وقال الله تعالى: ﴿الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون, وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين, فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير﴾ [الروم:48-50], والتأثير: إبقاء الأثر في الشيء, وأثر في الشيء: ترك فيه أثرا, والأثر: الأجل, وسمي به لأنه يتبع العمر[3].
والأثر في الاصطلاح له ثلاثة معان:
الأول: النتيجة, وهي الحاصل من الشيء.
والثاني: العلامة. فالآثار علامات باقية, دالة على شيء.
والثالث: الجزاء[4]. فالجزاء أثر الجناية.
والمعاني الثلاثة كلها راجعة إلى المعاني اللغوية, وتستعمل اصطلاحا في الاستعمال اللغوي ذاته, والمراد هنا في هذا العنوان: النتيجة, وهي الحاصل من الشيء. فالذي يحصل -مثلا- من إقرار الشرع بأن الأم أحق بحضانة ولدها, أن يبقى الولد عندها ولا ينتزعه الوالد منها, والعلاقة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي هي: أن النتيجة من الشيء بقية له, وتابعة له.
ثانيا: تعريف الحق:
الحق في اللغة: مصدر حق الشيء يحق, إذا ثبت ووجب, أو كان منه على يقين, والحق: خلاف الباطل, ويطلق على النصيب, وعلى الواجب, وعلى اليقين, وأشهر معانيه اللغوية: الثبوت والوجوب[5].
والحق في الاصطلاح له تعريفات كثيرة:
- منها: أنه مصلحة مستحقة شرعا.
- وعرف في القانون: بأنه مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون[6].
- ومن تعريفاته: أنه سلطة ذات حدود معينة تمنح لصاحب الحق على محل الحق[7].
- ومن تعريفاته: أنه اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفا[8].
وهذا التعريف الأخير أوضح وأسلم المعاني, لأن تعريف الحق بالمصلحة تعريف للشيء بغايته وهدفه, لأن المصلحة هي غاية الحق والهدف منه, كما يؤخذ عليه أنه تعريف فيه دور, ولأن تعريفه بالسلطة التي تمنح لصاحب الحق على محل الحق, معيب كذلك بما فيه من الدور المخل بالتعريف.
شرح التعريف المختار:
- اختصاص: هو تفضيل وتمييز, من الخاص ضد العام[9], يخرج به ما ليس اختصاصا, وإنما هو من قبيل المباحات, كأصل الاصطياد, والاحتطاب من البراري.
يقرر به الشرع: أي أن اعتبار الشيء حقا من عدمه يعود إلى نظر الشرع, ومصدره الشريعة, أما ما تقره القوانين ويخالف الشريعة الإسلامية فإنه لا يعد من الحقوق.
- والسلطة: إما أن تكون على شخص, مثل حق الولاية على النفس, وكحق الولي في التصرف على من تحت ولايته, فإنه سلطة لشخص على شخص. وإما أن تكون سلطة على شيء معين كما في حق الملكية, وكحق البائع في طلب الثمن من المشتري.
- والتكليف: عهدة على الإنسان, وهو إما عهدة شخصية, كقيام الأجير بعمله, وإما عهدة مالية, كوفاء الدين, وكتكليف المشتري بدفع ثمن المبيع للبائع, فغاية هذا التكليف مصلحة البائع[10].
ثالثا: تعريف الحضانة
الحضانة في اللغة: من الحضن, وهو ما دون الإبط إلى الكشح, والكشح هو: ما بين الخاصرة والضلوع, ويطلق الحضن كذلك على الجنب, ومنه حضنا الليل, أي: جانباه, وقيل: هو الصدر والعضدان وما بينهما, ومنه الاحتضان, وهو احتمالك الشيء وجعله في حضنك, كما تحتضن المرأة ولدها فتحتمله في أحد شقيها, وحضن: اسم جبل في أعالي نجد, وفي المثل السائد: أنجد من رأى حضنا, أي من شاهده فقد دخل في ناحية نجد, يقال: حضن الطائر بيضه أي: ضمه تحت جناحيه, وجثم عليه, ويقال: الحمامة حاضن, لأنه وصف مختص, وحكي حاضنة على الأصل, ويقال: حضن الرجلُ الصغيرَ يحضنه حضنا, أي: ربّاه, والحاضن: هو الموكل بالصبي يحفظه ويربيه[11].
والحضانة في الاصطلاح: لها تعريفات كثيرة نقتصر على ذكر أبرزها في المذاهب الأربعة:
- ففي الفقه الحنفي عرف الكاساني (ت 587هـ) حضانة الأم ولدها بأنها: ضمها إياه إلى جنبها واعتزالها إياه من أبيه ليكون عندها فتقوم بحفظه وإمساكه وغسل ثيابه[12].
وفي الفقه المالكي عرفها الدردير (ت 1201هـ), بأنها: حفظ الولد والقيام بمصالحه[13].
- وفي الفقه الشافعي عرفها النووي (ت 676هـ) بأنها: القيام بحفظ من لا يميز ولا يستقل بأمره, وتربيته بما يصلح, ووقايته عما يؤذيه [14].
- وفي الفقه الحنبلي عرفها ابن النجار (ت 972هـ)بأنها: حفظ صغير ومعتوه –وهو: المختل العقل– ومجنون عما يضرهم, وتربيتهم بعمل مصالحهم[15].
وهذه المعاني متقاربة, وهي دائرة على تقرير حفظ المحضون وتربيته, وتقرير الولاية عليه للقيام بالحضانة, وبهذا يقرر التعريف ما لكل طرف من طرفي الحضانة, فالأول: وهو حفظ المحضون, وهذا حق للمحضون, والثاني: تقرير الولاية للحاضن, وهذا حق للحاضن, ولا شك أن العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي ظاهرة, وقوية, ذلك أن المكلف بحضانة الصغير ونحوه يقوم بحفظه, وتربيته, فكأنه يضمه إلى حضنه وإلى جنبه, فيعيش في كنفه وظله, قريبا منه, يشرف على حاله ويراعي مصالحه عن قرب.
ثالثا: تعريف حق الحضانة باعتباره لقبا:
بعد تعريف الحق وتعريف الحضانة, يمكن تعريف حق الحضانة باعتباره لقبا, بأنه: اختصاص يتقرر به شرعا ولاية على صغير -ونحوه- حفظا له وتربية له ورعاية لمصلحته, وهذا التعريف يوضح المقصود من حق الحضانة, ويشمل طرفي الحضانة والعلاقة بينهما, فالاختصاص الذي يقرره الشرع بالولاية اختصاص بالحاضن, لأن في الحضانة ولاية على الطفل, والاختصاص الذي يقرره الشرع بالحفظ والتربية اختصاص بالمحضون, لأن في الحضانة حفظا له من المخاطر ودفعا له عن المهالك.
رابعا: تعريف الولد:
الولد في اللغة هو المولود ذكرا أو أنثى, ويجمع كذلك الواحدَ والكثير, والوليد: المولود حين يولد, وهو الطفل, قال الله تعالى على لسان فرعون معارضا موسى u: ﴿ألم نربك فينا وليدا﴾ [الشعراء:18], والولد: الطفل, ويطلق الولد على الكبير, ومنه قوله e: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة, وأول من ينشق عنه القبر, وأول شافع وأول مشفع"[16], والوالد: الأب, قال الله تعالى: ﴿ووالد وما ولد﴾ [البلد:3] أي: آدم وذريته, والوالدة: الأم, وهما الوالدان[17].
والولد في الاصطلاح: هو الطفل, والطفل من لم يبلغ الحلم, قال الله تعالى: ﴿وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم﴾ [النور: 59], وقال الله تعالى: ﴿هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا﴾ [غافر: 67], فيخرج به البالغ.
والاستعمال الاصطلاحي للولد بمعنى الطفل هو الاستعمال اللغوي المشهور, وعلى هذا فالمعنى الاصطلاحي مطابق للمعنى اللغوي المشهور.
المبحث الأول
حكم حضانة الولد
اتفق الفقهاء على أن حضانة الطفل منذ ولادته واجبة على الأبوين في حال حياتهما وبقاء الزوجية[18], فإذا فارق الرجل امرأته ولهما ولد لم يسقط وجوب الحضانة, وإنما تكون الأم أحق بها ما لم تتزوج, حسب ما بينه أهل العلم في ترتيب الحاضنين وما يشترط في الحاضن, وفقا لأدلة الشرع في هذا الباب[19], قال ابن رشد (ت 520هـ): (لا خلاف بين أحد من الأمة في إيجاب كفالة الأطفال الصغار, لأن الإنسان خلق ضعيفا مفتقرا إلى ما يكفله ويربيه حتى ينفع نفسه ويستغني بذاته)[20].
ويدل لوجوب الحضانة الكتاب والسنة والقياس:
أولا: الأدلة من القرآن الكريم:
قال الله تعالى: ﴿ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما﴾ [النساء:29]
وجه الاستدلال: أن الله تعالى حرم قتل النفس, لأنها معصومة, وهذا يوجب حفظ النفوس والعناية بها وإنجائها من المهالك, والصغير نفسه معصومة فيجب حفظها, وعدم إهمالها لئلا يؤدي ذلك إلى قتلها, وعصمة الدماء رحمة من الله تعالى بعباده, ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي (ت 1376هـ) أن النهي عن قتل النفس في هذه الآية شمل النهي عن قتل الغير بعبارة أخصر من قولك: لا يقتل بعضكم بعضا, مع قصور هذه العبارة على نفس الغير فقط [21].
قال الله تعالى: ﴿وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت﴾ [التكوير:8].
وجه الاستدلال: أن الآية الكريمة تضمنت وعيدا لقاتل الصغيرة, حيث كانوا في الجاهلية يدسون البنات في التراب كراهية البنات, ولما جاء الإسلام حرم ذلك, فعلمنا وجوب حفظ الصغير وتربيته.
قال الله تعالى: ﴿وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون﴾ [الأنعام:137]
وجه الاستدلال: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (ومن سفه المشركين وضلالهم أنه زين لكثير من المشركين شركاؤهم -أي رؤساؤهم وشياطينهم– قتل أولادهم, وهو الوأد, الذين يدفنون أولادهم الذكور خشية الافتقار, والإناث خشية العار)[22].
قال الله تعالى: ﴿من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا, ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾ [المائدة: 32].
وجه الاستدلال: دلت الآية على وجوب إحياء النفوس واستبقائها, وهذا لا يتم في حق الصغير إلا برضاعه وبحفظه وتربيته، والصغير غير قادر على حفظ نفسه وتربيتها فوجب ذلك على المكلف به.
قال الله تعالى عن مريم عليها السلام: ﴿فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا﴾ [آل عمران: 37]
وجه الاستدلال: دلت الآية على أن الله سبحانه وتعالى قيض لمريم عليها السلام زكريا u, وكفلها إياه, وهذا من رفقه بها, ليربيها على أكمل الأحوال[23].
قال الله تعالى: ﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير﴾ [البقرة: 233].
وجه الاستدلال: في الآية إرشاد من الله تعالى بإرضاع الولد ورزقه وحضانته, ونهي للوالدة أن تدفع الولد عنها لتضر أباه بتربيته, حيث يلزمها أن تسقيه اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالبا, ونهي للوالد كذلك أن ينتزع الولد منها إضرارا بها, وأمر على الوالدين في تربية طفلهما وإرشادهما إلى ما يصلحه[24].
- قال ابن العربي (ت 543هـ): (قال علماؤنا: الحضانة بدليل هذه الآية للأم, والنصرة للأب, لأن الحضانة مع الرضاع)[25].
- وقال القرطبي (ت 671هـ) في تفسيره للآية: (وهذا يدل على أن الولد وإن فطم فالأم أحق بحضانته لفضل حنوها وشفقتها, ...)[26].
قال الله تعالى: ﴿وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا﴾ [الإسراء:24]
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أوجب على المسلم القيام بحقوق الوالدين, من الإحسان إليهما, وخفض الجناح لهما, والتواضع لهما, والدعاء لهما بالرحمة والمغفرة, كما وجب عليهما حفظه وتربيته عندما كان صغيرا.
ثانيا: الأدلة من السنة النبوية
عن ابن عمر م أن رسول الله e قال: "ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته, فالأمير الذي على رأس الناس راع وهو مسئول عن رعيته, والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم, والمرأة راعية على بيت بعلها وولده, وهي مسئولة عنهم, والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه, ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"[27].
وجه الاستدلال: دل الحديث على مسئولية الوالدين عن الولد ورعايتهما لشئونه, وحفظ نفسه ومصالحه, وهذا معنى وجوب حضانة الطفل.
أن عبد الله بن عمرو م قال لوكيل له: أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم, قال رسول الله e يقول: "كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته"[28], وللحاكم بلفظ: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول"[29].
وجه الاستدلال: أن تحذير النبي e للمرء أن يضيع من يعول أولادا أو غيرهم, دليل على وجوب حضانة الصغير، لأنه خلق ضعيف, يفتقر لكافل يربيه حتى يقوم بنفسه.
عن البراء بن عازب أن ابنة حمزة اختصم فيها علي وزيد وجعفر y, فقال علي: أنا أحق بها وهي ابنة عمي, وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي, وقال زيد: ابنة أخي, فقضى بها النبي e لخالتها, وقال: "الخالة بمنزلة الأم"[30].
وجه الاستدلال: أن النبي e حكم للخالة في الحضانة حكما خاصا, لأن الخالة تقرب من الأم في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد, لما دل عليه السياق, وفيه تقديم الخالة على العمة في الحضانة, لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ [31].
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة قالت: "يا رسول الله, إن ابني هذا كان بطني له وعاء, وثديي له سقاء, وحجري له حواء, وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني, فقال رسول الله e: "أنت أحق به ما لم تنكحي"[32].
وجه الاستدلال: أن النبي e بين أن حضانة الطفل واجبة, وأنها تكون للأم إذا طلقها زوجها, وأنها أحق به ما لم تتزوج.
عن سعيد بن المسيب أن عمر طلق أم عاصم, ثم أتاها وفي حجرها عاصم, فأراد أن يأخذه منها فتجاذباه بينهما حتى بكى الغلام, فانطلقا إلى أبي بكر, فقال له أبو بكر: يا عمر! مسحها وحجرها وريحها خير له منك حتى يشب الصغير فيختار[33].
وجه الاستدلال: أن أبا بكر t بين لعمر t في هذا أن الأم أحق بحضانة الولد, ولم يكن لأبي بكر أن يقول ذلك من عند نفسه والنبي e بين أظهر المؤمنين إلا أن يكون قد علمه من الرسول e, ولذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة إنكاره.
ثالثا: القياس:
وذلك بقياس حضانة الصغير على النفقة عليه وإنجائه من المهالك, فإن الصغير مضطر إلى الطعام واللباس والمأوى, ويهلك بعدم الطعام واللباس والسكن, وكذا يحتاج الصغير إلى الحفظ والتربية, ويهلك بترك الحفظ والتربية والرعاية, فوجبت حضانته, كما يجب الإنفاق عليه [34].
المبحث الثاني
أركان حق الحضانة
لحق الحضانة ثلاثة أركان, وبيانها على النحو الآتي:
الركن الأول: من له الحق:
والحق إما أن يكون لله تعالى, أو يكون للعبد, أو يكون حقا مشتركا, يغلب فيه حق الله, أو يغلب فيه حق العبد[35]، وسيأتي مزيد إيضاح لذلك, في المبحث الثالث: صاحب الحق في الحضانة.
الركن الثاني: من عليه الحق:
وهو المكلف بأداء الحق المقرر شرعا, فالزوج –مثلا- مكلف بالنفقة على زوجته, فهو المكلف بأداء حق النفقة للزوجة المقرر شرعا, والأبوان حال قيام النكاح مكلفان شرعا بحضانة الولد وتربيته, فعليهما إذن أداء الحق المقرر شرعا.
الركن الثالث: محل الحق:
ومحل الحق هو موضوعه, أي الشيء الذي يختص به, فالطعام والشراب والكسوة والسكنى ونحوها, هي موضوع النفقة على الزوجة, فهي محل حقها في النفقة لها من زوجها, ومحل الحق في الحضانة, هو حفظ المولود وتنظيفه وتربيته والعناية به, أما إرضاعه والنفقة عليه فهما شيئان آخران, فعلى الأبوين حضانة الولد كل فيما يخصه شرعا.
يتبع