زكاةُ الدَّينِ
المسألة الأولى: زكاةُ الدَّينِ الذي لا يُرجى أداؤُه
لا تجِبُ زكاةُ الدَّينِ الذي لا يُرجى أداؤُه (42) ، فإنْ قبَضَه فقد اختلف أهلُ العِلم في زكاته على أقوالٍ، أقواها قولان:
القول الأوّل: إذا قبضه استأنَفَ له حولًا جديدًا مِن يومِ قَبضِه، وهذا مذهَبُ الحنفية (43) ، وروايةٌ عن أحمد (44) ، وبه قالتْ طائفةٌ مِنَ السَّلفِ (45) ، واختارَه ابنُ حزمٍ (46) ، وابنُ تيميَّة (47) ، وابنُ باز (48) ، وبه صدَرَ قرارُ المجمَعِ الفقهيِّ بجُدَّةَ (49) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78].
وجه الدَّلالة:
أنَّ في تكليفِ أداءِ الزَّكاةِ للمالِ الذي كان في حُكْمِ الميؤُوسِ منه حَرجًا، وقد أسقَطَه الله تعالى (50) .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (ليس في الدَّينِ زكاةٌ) (51) .
ثالثًا: أنَّه لا خلافَ بين الأمَّة في أنَّ صاحِبَ المال إن أحبَّ أن يؤدِّيَ الزَّكاة من نفْسِ المالِ الذي وجَبَت فيه الزَّكاة كان ذلك له، ولم يكلَّفِ الزَّكاةَ مَن سواه، ولَمَّا كان غيرَ قادرٍ على أداءِ الزَّكاةِ مِن نفسِ المالِ؛ سقط عنه ما عجز عنه من ذلك (52) .
رابعًا: أنه مالٌ غير نامٍ، فلم تجِبْ زكاتُه، كعُروضِ القُنيَةِ (53) (54) .
خامسًا: أنَّه مالٌ لم يكُن مقدورًا على الانتفاعِ به، فأشبَهَ مالَ المُكاتَبِ (55) .
القول الثاني: أنَّه يزكِّيه إذا قبَضَه لعامٍ واحدٍ، وهذا مذهَبُ المالكيَّة (56) ، وهو قولُ بعضِ السَّلَفِ (57) ، واختاره ابنُ عُثيمين (58) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ مِن شَرْطِ وجوبِ الزَّكاة: القدرة على الأداءِ، فمتى قدَرَ على الأداءِ زكَّى (59) .
ثانيًا: أن الزَّكاة لو وجبتْ فيها في كلِّ عامٍ، ونَماؤُها بيَدِ غيرِه له؛ لأدَّى ذلك إلى أنْ تستهلِكَها الزَّكاةُ؛ ولهذا الوجهِ لم تجِبِ الزَّكاةُ في أموالِ القِنيةِ؛ لأنَّه لو وجب فيها الزَّكاةُ لاستهلَكَتْها، والزَّكاةُ إنما هي على سبيلِ المواساةِ في الأموالِ التي تَمَكَّنَ من تنمِيَتِها، فلا تُفْنِيها الزَّكاةُ في الأغلب (60) .
ثالثًا: إنما كان عليه زكاتُها زكاةً واحدةً ولو مكثَتْ عَشْرَ سنينَ؛ لأنَّ الاعتبارَ أن ينِضَّ (61) بيَدِه في طَرَفَيِ الحَوْلِ، وهذه المدَّةُ التي كان المالُ في يَدَيِ المَدينِ لم يَنِضَّ المالُ في يدِ المالِك إلَّا في أوَّلِها وآخِرِها، فصارت بمنزلةِ حَولٍ واحدٍ (62) .
المسألة الثانية: زكاةُ الدَّينِ على المَليءِ الباذِل
إذا كان الدَّينُ على مليءٍ باذلٍ؛ فإنَّه تجِبُ زكاتُه على مالِكِه لكلِّ عامٍ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ منَ الحنفيَّة (63) ، والشافعيَّة (64) ، والحَنابِلَة (65) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ عبدِ القاري، قال: (كنتُ على بيتِ المالِ زمنَ عُمَرَ بنِ الخطَّاب، فكان إذا خرج العطاءُ جَمع أموالَ التجَّارِ، ثمَّ حسَبَها شاهِدَها وغائِبَها، ثم أخذ الزَّكاةَ مِن شاهِدِ المالِ على الشَّاهِدِ والغائِبِ) (66) .
ثانيًا: أنَّ الدَّينَ على مليءٍ؛ مملوكٌ له يقدِرُ على الانتفاعِ به، وبإمكانِه الوصولُ إليه، فهو بمنزلةِ ما في يَدِه، فلزِمَتْه زكاتُه، كسائِرِ أموالِه (67) .
المسألة الثالثة: تأخيرُ إخراجِ زكاةِ الدَّينِ إلى وقتِ القَبضِ
يجوز تأخيرُ إخراجِها إلى أن يقبِضَ دَينَه، وهو مذهَبُ الحنفيَّة (68) ، والحَنابِلَة (69) ، واختارَه ابنُ باز (70) ، وابنُ عُثيمين (71) ، وبه صدَرَ قرارُ نَدَواتِ قضايا الزَّكاة المعاصرة (72) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنه دَينٌ ثابتٌ في الذمَّة، فلم يلزَمْه الإخراجُ قبل قَبضِه، كما لو كان على مُعسِرٍ (73) .
ثانيًا: أنَّ الزَّكاةَ تَجِبُ على طريقِ المواساةِ، وليس مِنَ المواساة أن يُخرِجَ زكاةَ مالٍ لا ينتفِعُ به (74) .
ثالثًا: هناك احتمالٌ بأنْ يتلَفَ مالُ مَن عليه الدَّينُ، أو يَعسُرُ، أو يُجحَد نسيانًا أو ظلمًا، فلمَّا كان هذا الاحتمالُ قائمًا؛ رُخِّص له أن يؤخِّرَ إخراجَ الزَّكاة حتى يقبِضَه
<span style="font-family:arabic typesetting;"><font size="5"><span style="color: rgb(0, 0, 255);">https://dorar.net/feqhia/2111/%D8%A7...AA%D8%A7%D9%85