المفهوم القرآني للمرجعية 1-3
عماد الدين الرشيد




تناول القرآن الكريم مفهوم "المرجعية" باعتبارين اثنين:
الأول: الجهة الفكرية التي يرد الناس أمورهم إليها في شؤون دينهم، وينصبونها عليهم حكماَ وفيصلاً.
الثاني: الأشخاص الذين يمثلون هذه الجهة بمستواهم العلمي، وبالمصداقية السلوكية لما يقتضيه ما يحملونه من العلم.
ويمكن أن نطلق على المفهوم الأول: مرجعية الفكرة، وعلى الثاني: مرجعية الأفراد، ولا يخفى ما بين هذين المفهومين من ترابط؛ لأن الفكرة التي يختارها الناس لتحكم حياتهم تفتقر إلى تشخُّص يمثل للأمة النموذج والأسوة من جهة، والشارح لهذه الفكرة بما أوتي من العلم الحكمة من جهة أخرى.
إلا أن القرآن الكريم لم يستعمل مصطلح "المرجعية" للتعبير عن مفهومها، ولكنه أطلق عدَّة، مصطلحات للدلالة على مفهوم المرجعية، ولم تكن هذه المصطلحات مقصورة على التعبير عن المرجعية، فقد استعملها البيان القرآني لبوساً لمفاهيم أخرى؛ لذلك لا حاجة لاستعراض دوران المصطلحات في القرآن الكريم، بل ستقتصر الدراسة على دوران هذه المصطلحات مع مفهوم المرجعية وحده من بين بقية المفاهيم القرآنية التي خدمتها تلكم المصطلحات.
وأهم هذه الألفاظ والمصطلحات: "إمام"، "أئمة"، "هدى"، "أولو الأمر".
1. تعبير القرآن الكريم بلفظ "إمام" عن المرجعية:
استعمل القرآن الكريم هذا اللفظ للدلالة على المرجعية بنوعيها، -أعني- مرجعية الفكرة، ومرجعية الأفراد؛ فقد ورد هذا اللفظ في سبعة مواضع من القرآن الكريم، ثلاثة منها استعلمت لمفهوم المرجعية، وهي قول - تعالى -: (وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة: 124].
(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً) [هود: 17].
(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ) [الأحقاف: 12].
وحتى نستبين مناسبة استعمال اللفظ لمعنى المرجعية يحسن أن نطلع على المعنى اللغوي لهذا اللفظ.
يأتي الإمام في اللغة للدلالة على المعاني الآتية[1]:
- قيَّم الأمر.
من يتقدم القوم ويكون أَمامهم، ومنه تفسير الصدِّيق حديث: ((يؤم القوم)) بقوله: "يتقدمهم".
كقول لبيد: "ولكل قو سنة وإمامها"، ومنه قوله - تعالى -: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) [الفرقان: 74].
- الدليل.
- الخيط الذي يُمد على البناء فيبنى عليه.
- الطريق، ومنه قوله - تعالى -: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) [الحجر: 79].
- الصقع من الأرض.
نلاحظ أن هذه المعاني تلتقي في كونها تطلق على من يُقتدى به، أو ما يقتدى به، ويُعتمد عليه في الاهتداء، ويكون مقصوداً، وهذا نابع من الجذر (أَمَمَ) فإنه يفيد القصد[2]، وبالتالي يكون الإمام مقصوداً؛ لأن المراد بالإمام اسم المفعول[3].
وهكذا يقترب المعنى اللغوي من الاصطلاحي، وتتكشف العلاقة بينهما بوضوح، فإن المرجعية فكرةً وأفراداً: هي الجهة التي يقتدي بها الناس، ويتخذونها طريقاً ودليلاً، ومثالاً يحتذى به، ويقدمون قولها على كل قول وحكم.
مرجعية الأفراد بلفظ "إمام":
ورد ذلك في قوله - تعالى -: (وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة: 124].
تبين بالبحث أن المفسرين اتفقوا على أنه يراد بلفظ "إمام" في الآية مفهوم مرجعية الأفراد، وتدور أقوالهم حول المعاني الآتية:
- من يؤتم به في الدين[4].
- القدوة في الدين[5].
- من يهتدى بهديه في أمور الدين[6].
مرجعية الفكرة بلفظ "إمام":
ورد ذلك في قوله - تعالى -: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً) [هود: 17]، وقوله: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ) [الأحقاف: 12].
وقد تبين بالبحث والتتبع أن المفسرين عامة يرون لفظ "إمام" في هاتين الآيتين يُطلق ويراد به مفهوم مرجعية الفكرة؛ فقد ذكروا للآيتين في تفاسيرهم المعاني الآتية:
- كتاباً، أو إماماً يُؤتم به في الدين[7].
- كتاباً يُقتدى بما فيه، أو يُقتدى به في الدين[8].
- إماماً لهم يرجعون إليه في أمور الدين والأحكام والشرائع[9].
والظاهر أن هذه المعاني تشكل جوهر مرجعية الفكرة، ولا سيما المعنى الأخير الذي استعمل الجذر (رجع).
ولا بدّ من الإشارة إلى أنه يبعد أن يكون لفظ "إمام" قد ورد في الموضعين السابقين للدلالة على مرجعية الأفراد، بمعنى: أن موسى - عليه السلام - هو إمام ورحمة، وهذا بعيد، لا يؤيده سياق النص، أو مرجع الحال، فإن "إماماً" حال، ويبعد للغاية أن يكون المضاف إليه "موسى" صاحب الحال، ولذلك فقد اتفقت كلمة المفسرين على إعراب "إماماً" على أنها حال من "كتاب موسى"، لا من موسى - عليه السلام -[10]، وإن كان ورد في البيان الإلهي ما يشهد لمرجعية موسى - عليه السلام - في معرض الحديث عن كتابه التوراة، كما سنستبين في موضع لاحق -إن شاء الله-.
ولا بدّ من القول بأن مفهوم "إمام" الذي في كتاب الله - تعالى - يطلق على إمام الخير والشر، قال الجصاص - رحمه الله -[11]: "الإمام هو المقتدى به، المتبع في الخير والشر.."، وقد سبقه إلى ذلك ابن جرير الذي قال: "الإمام الذي يؤتم به في خير أو شر.."[12].
2. تعبير القرآن الكريم بلفظ "أئمة" عن المرجعية:
ومن الألفاظ التي عبر بها البيان الإلهي عن مفهوم المرجعية لفظ "أئمة" وهو جمع إمام[13]، وقد رد هذا اللفظ في القرآن الكريم في خمسة مواطن، منها اثنان يعبران عن مرجعية الأفراد كما في قوله - تعالى -: (وَجَعَلْنَاهُم أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء: 73]، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].
وبالتتبع تبين اتفاق المفسرين على أن المراد بهذا اللفظ ما يراد بمرجعية الأفراد، وقد ذكروا في تفسيره المعاني الآتية:
- الإمامة في الدين[14].
- رؤساء أو قادة في الخير، يُقتدى بهم[15].
- يهدون الناس إلى الحكم، الدين الحق[16].
نجد أن هذه المعاني هي بعض مفردات مرجعية الأفراد التي سبق بيانها، ولا بدّ من التنويه إلى أن مصطلح "أئمة" هو جمع إمام[17]، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم في خمسة مواطن، منها اثنان يعبران عن مرجعية الأفراد كما في قوله - تعالى -: (وَجَعَلْنَاهُم أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء: 73]، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].
وبالتتبع تبين اتفاق المفسرين على أن المراد بهذا اللفظ ما يراد بمرجعية الأفراد، وقد ذكروا في تفسيره المعاني الآتية:
- الإمامة في الدين[18].
- رؤساء أو قادة في الخير، يقتدى بهم[19].
· يهدون الناس إلى الحكم، الدين، الحق[20].
نجد أن بعض هذه المعاني هي بعض مفردات مرجعية الأفراد التي سبق بيانها، ولا بدّ من التنويه إلى مصطلح (أئمة) في القرآن الكريم كما يطلق على أئمة الخير، يطلق على أئمة الفساد، كقوله - تعالى -: (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) [التوبة: 12].
والفرق بين المفهومين أن الإمام في الخير هادٍ، والإمام في الشر ضالٌّ مضل. [21].
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
[1] مختار الصحاح (1/10) لسان العرب (12/26) القاموس المحيط (1/1392).
[2] القاموس المحيط: (1/1391).
[3] مختار الصحاح (1/9).
[4] تفسير البيضاوي (1/396)، تفسير القرطبي (2/107)، تفسير الطبري (1/529)، تفسير أبي السعود (1/156)، فتح القدير (1/137)، تفسير النسفي (1/69)، روح المعاني (1/375).
[5] تفسير القرطبي (2/107)، تفسير ابن كثير(1/166)، تفسير الطبري (1/529)، فتح القدير (1/137) تفسير النسفي (1/69)، روح المعاني (1/375).
[6] فتح القدير(1/137).
[7] تفسير البيضاوي (3/227)، تفسير ابن كثير (4/157)، تفسير الطبري (12/18)، (26/13)، تفسير أبي السعود (4/195)، تفسير الواحدي (1/516)، تفسير النسفي (2/149) روح المعاني (12/76)، (26/15).
[8] تفسير القرطبي (16/191)، تفسير ابن كثير (2/441)، تفسير أبي السعود (8/82) تفسير البغوي (4/166)، فتح القدير (5/17)، تفسير النسفي (4/137).
[9] تفسير الخازن (2/326).
[10] المراجع السابقة، وانظر مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب القيسي (1/357).
[11] أحكام القرآن (4/277).
[12] تفسير ابن جرير (21/112).
[13] مختار الصحاح (1/10)، القاموس المحيط (1/1392).
[14] رسائل ابن تيمية (12/439)، التبيان في أقسام القرآن، ابن القيم (55)، تفسير ابن كثير (3/464).
[15] تفسير ابن جرير (21/112- 113)، (17/49)، تفسير الواحدي (2/855)، تفسير البغوي (3/252)، (3/503)، تفسير البيضاوي(4/360)، تفسير ابن كثير(3/464)، تفسير أبي السعود (7/87).
[16] تفسير القرطبي (11/305)، تفسير البيضاوي (4/360)، تفسير ابن كثير (3/464)، تفسير أبي السعود (7/87).
[17] مختار الصحاح (1/10)، القاموس المحيط (1/1392).
[18] رسائل ابن تيمية (12/439)، التبيان في أقسام القرآن لابن القيم (55)، تفسير ابن كثير (3/464).
[19] تفسير ابن جرير (21/112- 113) (17/49)، تفسير الواحدي (2/855)، تفسير البغوي (3/252) (3/503)، زاد المسير (6/344)، الدر المنثور (5/634)، فتح القدير (3/416)، تفسير القرطبي (11/305)، تفسير البيضاوي (4/360)، تفسير ابن كثير(3/464)، تفسير أبي السعود (7/87).
[20] تفسير القرطبي (11/305) تفسير البيضاوي (4/360) تفسير ابن كثير (3/464) تفسير أبي السعود (7/87).
[21] أحكام القرآن، الجصاص (4/277)