السلف والخشوع



هذا إمامنا و قائدنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، وقد غفر ما تقدم من ذنبه، وصفه عبد الله بن الشخير كما أخرج أبو داود والنسائي بإسناد صحيح قال: ( رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنْ الْبُكَاءِ ) . ويقول ابن مسعود: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( اقْرَأْ عَلَيَّ ) قُلْتُ : آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ: ( فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي ) فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } [ سورة النساء : 41 ]قَالَ : ( أَمْسِكْ ) فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ .رواه البخاري ومسلم .


وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: ( مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ:{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ... } [سورة الحديد : 16] إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ ) رواه مسلم. فأنت ! كم يمضي عليك و أنت تسمع القرآن، وتشهد مع الناس الصلاة، وقلبك لا يتحرك؟!

وكان ابن عمر إذا تلا هذه الآية:{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ.. } قال: " بلى يارب " ويبكي حتى تبل الدموع لحيته [ الدر المنثور ].
وقد قال القرطبي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: " كما كانت هذه الآية سبباً في توبة الفضيل بن عياض، وعبد الله بن مبارك، وقد سئل عبد الله بن مبارك عن بدء زهده و توبته فقال: كنت يوماً مع إخواني في بستان لنا وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل، ونمنا وكنت مولعاً بضرب العود والطبول، فقمت في بعض الليل، فضربت بصوت عال يقال له: راشين السحَر، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود في يدي لا يجيبني إلى ما أريد فإذا به ينطق كما ينطق الإنسان يقول: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ... } فقلت: بلى والله . فكسرت العود وصرفت ما كان عندي من الناس والأصحاب، فكان هذا أول زهدي وتشميري . وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق امرأة فواعدته ليلاً، فجاء يرتقي الجدران، وبينما هو يتسور ليصل إليها سمع قارئا يقرأ: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...} فرجع وهو يقول: بلى والله قد آن . فأواه الليل إلى خربة وبها جماعة من السابلة من المسافرين وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلاً يقطع الطريق، وهم لم يشعروا بمكانه، فقال: أوّاه، أراني بالليل أسعى في معاصي الله، وقوم من المسلمين يخافونني، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام . وفي بعض الروايات أنه قال: لهؤلاء القوم: أنا الفضيل جوزوا، يعني:امضوا في طريقكم وسفركم، والله لأجتهدن ألا أعصي الله أبداً، فرجع عن ذلك .

وأما ابن المبارك الذي عرفتم توبته فكان يوصف خشوعه بأوصاف عجيبة، كان إذا قرأ في كتابه الزهد والرقائق كأنه بقرة منحورة من كثرة البكاء، وكذا كان الفضيل في خشوعه . جاء ناس إلى الفضيل بن عياض، واستأذنوا عليه عند بابه، فلم يؤذن لهم، فقال قائل: إنه لا يخرج إليك إلا إذا سمع القرآن، فكان معهم رجل مؤذن حسن الصوت، فقال له اقرأ: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } [سورة التكاثر : 1 ] فقرأ ورفع بها صوته، فأشرف عليهم الفضيل، وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع، ومعه خرقه ينشف بها الدموع من عينيه ويقول :
بلغت الثمانين أو جُزتها فماذا أُؤمل أو أنتـظر
أتاني ثمانون من مولدي وبعد الثمانين ما يُنتظر
علتني السنين فأبلينني
ثم انقطع وخنقته العبرة، فقال لهم رجل أنا أكمل لكم البيت:
علتني السنون فأبلينني فَرقت عظامي وكل البصر

{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ... }
يقول الحسن البصري رحمه الله:'إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها، وأفضى يقينها إلى قلوبهم، وخشعت لله قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم، وكنت والله إذا رأيتهم رأيت قوماً كأنهم رأى عين- يعني: للجنة والنار- فوالله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل، ولا اطمأنوا إلا إلى كتاب الله، وما أظهروا ما ليس في قلوبهم، ولكن جاءهم عن الله أمر؛ فصدقوا به، فنعتهم الله في القرآن بأحسن نعت فقال: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } [ سورة الفرقان : 63 ]. قال: حلماء لا يجهلون، وإذا جُهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهاراً بما يسمعون، ثم ذكر ليلهم خير ليل فقال: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } [ سورة الفرقان : 64 ]تجري دموعهم على خدودهم؛ خوفاً من ربهم. فقال:'لأمر ما سهروا ليلهم، لأمر ما خشعوا نهارهم . ثم قرأ : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } [ سورة الفرقان : 65 ] . قال: كل شيء يصيب ابن آدم، ثم يزول عنه فليس بغرام، إنما الغرام الملازم له ما دامت السماوات والأرض قال: صدق القوم والله الذي لا إله إلا هو، فعلموا وأنتم تمنون، فإياكم وهذه الأماني؛ فإن الله لم يعط عبداً بأمنيته خيراً قط في الدنيا والآخرة، وكان يقول : " يالها من موعظة لو وافقت من القلب حياة " .
فتية يُعرف التخشع فيهم كلهم أحكم القرآن غلاما
قد برى جلدهم التهجد حتى عاد جلداً مصفراً وعظاما
تتجافى عن الفراش من الخوف إذا الجاهلون باتوا نياما
بأنين وعبرة ونحيب ويظلون بالنهار صياما
يقرؤون القرآن لا ريب فيه ويبيتون سجداً وقياما
قرأ ابن عمر رضي الله عنه بـ : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ } فلما بلغ : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ سورة المطففين ] . بكى حتى خر وامتنع عن قراءة ما بعدها [ الزهد لوكيع ].
وبات رجل عند الربيع بن خثيم ذات ليلة، فقام الربيع يصلي، فمر بهذه الآية : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا... } [سورة الجاثية : 21 ] . فمكث ليلة حتى أصبح يبكي بكاء شديداً لا يجاوز هذه الآية .
لهم دموع من خشوع نفوسهم ودموعها فوق الخدود غزارُ

يقول مسروق: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري صلى ليلة حتى أصبح، أو كاد يقرأ آية، ويرددها ويبكي: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا... }
بكى الباكون للرحمن ليلاً وباتوا جمعهم لا يسأمونا
بقاع الأرض من شوق إليهم تحن شي عليها يسجدونا
وكان إبراهيم النخعي إذا سمع قوله تعالى : { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ }اضطرب حتى تضطرب أوصاله .
واشتكى ثابت البناني عينه، فقال له الطبيب: اضمن لي خصلة تبرئ عينيك . قال: ما هي؟ قال: لا تبك . قال: " وما خير في عين لا تبك' [الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا].
نزف البكاء دموع عينك فأستعر عيناً لغيرك دمعها مدرارُ
من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تُعارُ
وكان عبد الله بن الزبير يسجد، فيأتي المنجنيق، فيصيب ثوبه، ولربما أصاب طرف ثوبه، وهو لا يتحرك في صلاته، ولا يرفع رأسه، ولا يلتفت . ودخل عليه رجل بيته، فإذا به يصلي، فسقطت حية على ابنه هاشم، فصاحوا: الحية! الحية! ثم قتلوها، وما قطع صلاته، ولما سئل بعد الصلاة قال: " ما شعرت بشيء من ذلك " . ويقول ثابت البناني: كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنه خشبه منصوبة لا تتحرك. ووصفة بعضهم إذا صلى كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد، فلربما نزل الطير على ظهره تحسبه الطيور جذع حائط . وصلى يوماً في الحجر، فجاء حجر من المنجنيق، فضرب ثوبه فما انفتل، وما تحرك وما التفت . وذلك في حصار الحجاج للكعبة.
وكان مسلمة بن بشار في المسجد فانهدمت طائفة من المسجد، فقام الناس ولم يشعر أن أسطوانة المسجد قد انهدمت !! وهذا يعقوب الحضرمي لم يُر في زمانه مثله، بلغ من زهده أنه سُرق رداؤه عن كتفه وهو في الصلاة، ورُد إليه ولم يشعر.
محي الليل صلاة لا يقطعها إلا بدمع من الإنشغاق منسجمِ
مسبحاً لك جنح الليل محتملاً ضراً من السهد أو ضراً من الورمِ
رضية نفسه لا تشتكي سأما وما على الحب إن أخلصت من سأمِ
وهذا محمد بن إسماعيل البخاري ذُكر في قصته وترجمته أنه خرج مع قوم إلى حائط مزرعة، فقام يصلي بالناس الظهر، فلما فرغ قام يتطوع، فلما فرغ من تطوعه رفع ثوبه وقال لبعض من معه: انظروا هل ترون تحت قميصي شيئاً؟ فإذا زنبور قد أبره في ستة عشر، أو سبعة عشر موضعاً، وتورم ذلك من جسده، فقال له بعض القوم:كيف لم تخرج من الصلاة في أول ذلك؟.قال: كنت في سورة فأحببت أن أتمها . وهذا محمد بن يعقوب الأخرم يقول: ما رأينا أحسن صلاة من صلاة محمد بن نصر- يعني المروزي- كان الذباب يقع على بدنه - يعني الزنبور - ولا يذبه عن نفسه، ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخشوعه وهيبته للصلاة، كان يضع ذقنه على صدره، فينتصب كأنه خشبه مسنودة. ووصفه آخر يقول: رأيت محمد بن نصر ما رأيت أحسن صلاة منه، ولقد بلغني أن زنبوراً قعد على جبهته، فسال الدم على وجهه، ولم يتحرك .
وكان كرز بن وبرة إذا دخل في الصلاة لا يرفع طرفه يمنة ولا يسرة، وكان من المخبتين، وربما كُلم خارج الصلاة فلا يُجيب إلا بعد مدة من شدة استغراقه في التفكير . يقول الذهبي رحمة الله -معلقاً على ذلك-: هكذا كان زهاد السلف، وعبادهم، أصحاب خوف وخشوع وتعبد . ووقع حريق في بيت على بن الحسين، وهو ساجد، فجعلوا يقولون: يا ابن رسول الله النار..النار، فما رفع رأسه حتى أطفأت، فقيل له في ذلك فقال: " ألهتني عنها النار الأخرى " . وكان مسلم بن يسار يقول لأهله إذا دخل في صلاته: " تحدثوا فلست أسمع حديثكم " .
هذه نماذج من رجال السلف، وحينما أذكر أشياء من ذلك إنما أذكر ما قرب منه، وأما الأمور التي قد تنبو عنها الأسماع، ولا تدركها كثير من العقول؛ فإني أتجاوز ذلك أجمع، ومع ذلك كثير منا يظن أن هذه الأمثلة والنماذج سواء في الخشوع، أو في الإخلاص، أو في التوكل، أو في التفكر، أو ما سيأتي في الورع، وما سبق في اليقين، وغير ذلك أن هذه من الأمور التي لا يمكن الوصول إليها، وأنها بعيدة المنال !! وليس الأمر كذلك بل هي أمور تحصل للعبد بالمجاهدة، ولهذا يقول محمد بن المنكدر : " كابدت الصلاة عشرين سنة وتلذذت بها عشرين سنة " هذا آخر الكلام عن الخشوع.
منقول