الأدب الذي نريد
الشيخ محمد المجذوب
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده المصطفى محمد بن عبد الله الذي أرسله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أما بعد فمن حق ندوة العلماء على حملة القلم الإسلامي في كل مكان أن يسجلوا لها بمزيد من التقدير المحمدة التي سبقت إليها بالدعوة إلى هذا الحفل، الذي يتوقع أن يكون له أثره البعيد في إضاءة الطريق أمام الكلمة المؤمنة، لتنطلق على نور، وتعالج قضايا الحياة على بينة، ليس فقط في نطاق العربية، لغة الإسلام الأولى والعليا، بل في كل وسائل البيان الذي يترجم به الأديب المسلم أفكاره وتصوراته وتأملاته ووجداناته.
وليست هذه هي المأثرة الأولى ولا الأخيرة التي تقدمها هذه المؤسسة الإسلامية العريقة للفكر الإسلامي، ففي تاريخها الحافل بالجلائل ما يجعلها محط الآمال لتحقيق الكبير الكريم في الأعمال في خدمة الإسلام العظيم، الشامل لكل ما يصلح الحياة من فكر وعلم وتشريع وفنون رفيعة ونظيفة.
وإنه ليسعدني بوجه خاص أن هذه الدعوة تحقق لي حلماً جميلاً طالما دغدغ خيالي، فكتبت وخطبت وحاضرت في توجيه العزائم والأذهان إليه... وفي كتابي الموسوم بعنوان (أفكار إسلامية) بحث مفصل لما أتصوره من موجباته وعناصره وأهدافه .. ولولا بعض التطورات المتصلة بموضوع الأدب مما أعقب ذلك البحث، خلال العشر السنوات الماضية، لاكتفيت بتقديمه إلى هذه الندوة الموقرة دون أي تعديل.. ومن هنا كان شكري لفضيلة الرائد الإسلامي الكبير الشيخ أبي الحسن أمتع الله بحياته مزدوجاً، فهو شكر على تحقيق حلمي الذي فاتحت به العديد من إخواني في هذه الديار أثناء رحلتي السابقة للهند، وهو أيضا شكر، بل تهنئة قلبية، لندوة العلماء لنهوضها بهذا الواجب الذي ليس أحق به من حملة الفكر الإسلامي في شبه القارة الهندية، التي قدمت ولا تزال تقدم لعالم الإسلام قمماً من الرجال الذين أهدوا إليه روائع من إبداعهم في مجال العلوم الإسلامية، وبخاصة الحديث الشريف الذي يكاد وقفاً عليهم في هذا العصر.. وحسبهم أن منهم العلمين العالمين اللذين أثبتا بصماتهما على ثقافة الجيل الإسلامي المعاصر، إذ كان أحدهما صاحب الصوت الأعلى في الدعوة العملية إلى تعليم إسلامي صميم متحرر من سلطان الغرب والشرق، ومجدد لبناء الشخصية الربانية على أسس الكتاب والسنة ومناهج السلف الصالح.. وكان ثانيهما ذلك السابق المجلّي في مجال الفكر العلمي، الذي رفع لواء المعرفة الإسلامية فوق سائر المذاهب الجاهلية، وقدم لهذا الجيل المخطَّطَ المحكم لنهضة واعية قادرة على مواجهة كل مشكلاته العالمية بالحلول الإسلامية الحاسمة...
ولقد كان بودي أن أسهم في هذه الندوة ببحث ضاف عن الأدب الإسلامي، يستوعب خبراتي الطويلة في خدمة الأدب والفكر الإسلاميين، ويعالج التطورات الطارئة على مسيرة هذا الأدب خلال تاريخه الحافل، وبخاصة في هذه الحقبة التي سجلت فيها هذه التغيرات ذروتها.. ولكن الأعباء الكثيرة، إلى قصر الوقت، حالت دون المراد، وأكرهتني على الاجتزاء بالإشارات العجلى إلى أهم النقاط التي تراودني في هذه المناسبة.
الأدب: قيمته وأثره:
بغض النظر عن كل التعريفات الاتباعية أقدم فكرتي عن الأدب على أنه (الفن المصور للشخصية الإنسانية من خلال الكلمة المؤثرة) ومن هنا كان الأدب بنظري هو ضابط الارتباط بين جوانب الحياة الإنسانية على الاختلاف منطلقاتها وتصوارتها.. وفي ضوء هذا التعريف البرقي تتضح قيمة هذا الفن وآثاره في ميسرة الحضارة البشرية على امتداد وتعدد مذاهبها.
ومع كل ضجيج الذي يحركه ذوو النوايا الطيبة في تنكرهم للكلام، وتحريضهم على الاكتفاء بالعمل، سيظل للكلمة ومفعولها العميق في إثارة العقول والقلوب، ثم التوجيه إلى الأعلى أو الأدنى من مسالك الحياة. وغير خافٍ على أولي العلم أمثله ذلك في رسالات النبيين، اللذين كانت الكلمة المبينة البليغة وسيلتهم الفضلى إلى أعماق الإنسان، وقد تجلى ذلك على أتمه في المعجزة الكبرى التي أنزلها الله على قلب محمد، صلى الله عليه وسلم، قرآناً يهدي للتي هي أقوم، وسنةً تُخرجُ الناسَ من الظلمات إلى النور.
وبهذين الرافدين من أدب السماء بدأ التغيير الأكبر في أدب العرب، شعراً وخطابةً وحكمةً ومثلاً، ثم ترسُّلاً وتصنيفاً وقصةً وملحمةً.. وما إلى ذلك من أساليب وفنون أدت مهمتها في تبليغ الرسالة، وتوسيع المدارك، ونشر الثقافة العليا في كل مجال وصلت إليه الفتوح الإسلامية، أو أظله الفكر الحيّ الجديد.
* وقد استمر ذلك الأدب عربيَّ اللسان ربانيَّ المضمون، حتى بدأ الخلل في مسيرة الحياة السياسية، فاختلف حَمَلَةُ الرسالة حتى الاقتتال، وكان مستحيلا على الأدب أن يقف على الحياد في ذلك المعترك الصاخب، فإذا هو مأخوذ بِرَهَجِهِ، يضطرب بين المختلفين في تحيز ترك أثَره عميقاً في كثير من شعره ونثره على السواء، ثم تتابعت الأحداث، وتفاقمت المشكلات، وإذا نحن خلال عصور الأدب التالية تلقاء ركامٍ من الكلام، قليل منه المتماسك في نطاقِ المواريثِ العليُا، وأكثره الزائغ الخطى هنا وهناك.. حتى إن الأديب الواحد ليجمع في نتاجه بين الضربين المتضادين من الألوان، فهو في بعضه إسلامي الرؤية لا يفارق خَطَّ النور، ولكنه في بعضه الآخر مدخول الهوية لا يمت إلى المنظور القرآني بأي صلة، والمؤسف بل المبكي أن المسيرة الأدب العربي -بخاصة- واصلت حركتها في هذا الطريق المضطرب، فلم تُقَيَّضْ لها القوة التي تردها إلى مسلك السليم، حتى إذا فوجئت بطلائع الزحف الغربي الدافق، لم تكن لديها المقومات القادرة على مواجهته بالوعي الذي يفرق بين الغث والسمين، فكان من نتائج هذه المواجهة تراكم العقبات في طريق الفكر الإسلامي، وطُغيان الضجيج الصادر عن المبهورين بتلك الطلائع.. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام جيلٍ لا يرى سبيلاً للتقدم إلاَّ بالإعراض الكلي عن المنهج الإسلامي الأصيل، والذوبان التام في تيارات الفكر الواغل الدخيل.
* وقد بلغت هذه الدفعة الرهيبة أشدها في أعقاب النكبة الكبرى التي نزلت بعالم الإسلام أثر سقوط الخلافة، إذا انفرط عِقد المجموعةِ الإسلامية، فتوزعتها النزعات الوافدة مع الزحف الغربي، فإذا الأمة أمم، والأسرة الواحدة فرق، لا تقل عدداً ولا خطراً عن الفِرَق التي أفرزتها الثقافات الدخلية خلال قرون الدولة العباسية..
* وقد انعكست آثار ذلك كله في هذا السيل العارم من نتاج الأقلام، التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وإذا هناك أخيرا مؤتمرات مشبوهة يحمل كل منها لافتة أدبية ذات لون خاص، تحتضن في ظلالها أقزاماً لا يكادون يُرَوْن من ضالتهم، ولكنهم لا يزالون يُنْفخون وتُسَلط عليهم الأضواء الملونة حتى يشكوا أن يحجبوا الرجال ذوي الأصالة في عالم الفكر والأدب والإنتاج الحق.. ولقد اتسع المدى جناياتهم حتى شمل لغة القرآن نفسها، فراحوا ينبزونها بكل نقيصة، فهي في زعم بعضهم فقاعات من التحاسين اللفظية لا محصول لها من الفكر ولا علم، وهي في نظر بعضهم الآخر معرض للجمود الفاضح لا تمد الباحث بأي قدرة على إعطاء مدلول صحيح.. ومن هنا كان أدبها ميتاً أو مختصراً لا يملك قدرة التعبير عن أي جانب من النفس الإنسانية، فضلا عن أن يحاول اللحاق بموكب الآداب العالمية،... وطبيعي أن غرضهم الأقصى من هذه الحملات إنما هو تشكيك قرائهم في صلاحية العربية للحياة، ومن ثم صرفهم عن الاهتمام بكتابها الأسمى الذي يقول منزله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}.
* على أن لكل أجل كتابه، ولكل نبأ مستقره، كما قرر الحكيم العليم، وهكذا لم يكن بُد لهذه الغمرة المضلَّلة من حد تصير إليه، ثم ينجلي ما وراءها من المخلفات، كما تنجلي سحابة الدخان المصطنع بعد أن حجبت حقائق الأشياء إلى حين. وكذلك استفرغت هاتيك المزاعم طاقاتها، فهي اليوم تترنح تحت صفعات اليقظة الإسلامية التي لم تنطفئ شعلتها قط، ولم تستسلم لمناورات الباطل، منذ الغارة الأولى التي شنتها الشعوبية القديمة، وحتى آخر السلسلة من هجمات الشعوبية الحديثة على حصون الأدب القرآني في كل مكان أتيح فيه القلم الإسلامي أن يتنفس.
ونظرة واعية إلى ميدان الصراع الفكري الراهن، سواء على النطاق الأرض العربية وحدها، أو على مستوى العالم الإسلامي كله تكشف للمبصر هذه الحقيقة على أتمها إذ تُريه أعداء الإسلام على اختلاف هوياتهم وتبعياتهم للصليبية المحلية، أو اليهودية العالمية، أو الشيوعية المفترسة، أو الوثنية الحاقدة، قد شرعوا يلفظون أنفاسهم الأخيرة، أمام انتفاضة الفكر الإسلامي، الذي أخذ يكتسح بأشعته قطع الظلام التي دسها الغزو الشيطاني في غيبة الوعي الإسلامي، كما اكتسحت عصا موسى (عليه السلام) حبائل السحرة التي خُيِّل للناظرين أنها تسعى، وحسبنا شاهداً على ذلك معارض الكتاب الإسلامي التي تنهض هنا وهناك وهنالك، فتلقى من إقبال القراء على اختلاف مستوياتهم ما لا يحضى ببعضه كل نتاج الفكر الهدام في عالم الإسلام
* أجل.. لقد أثبت الأدب الإسلامي وجوده حتى اليوم شامخاً متألقاً في كل فنون الأدب، ففي حلبة الشعر يعلو صوت إقبال كل ما عداه من أصوات الشعراء العالميين، ليس فقط بالأسلوب الفني الذي تستأثر به لغة الشعر في كل لسان، بل بالروح الإيماني الذي يخترق بأسراره جدران الباطل ليستقر في القلوب، نوراً يضيء، وطاقةً تُحَرِّك، وحُبًّا تتلاشى في طريقه الحواجز، ليشعر كل مسلم في الأرض أنه عضو في جسد يشمل كل مسلم على وجه الأرض، وعلى سَنَن إقبال تنطلق مواكب الشعر الإسلامي لتوقظ ما غفا من مشاعر الإيمان، وتُثير العزائمَ الفتية للاندماج في كتائب الجهاد الزاحف لمكافحة الطغيان في كل مكان وزمان.
وفي الطريق نفسه مضى النثر الإسلامي يصور مشكلات الحياة قاطبة: تدغدغ الضمائر، وروايةً تجسم المنظور الإسلامي في أعماق المشاعر، وبحثاً يكشف الحقائق في ضوء الوحيين، ليأخذ بأيدي التائهين إلى ساحة النور، ومقالةً تعالج مشكلات الإنسان في مسيرته اليومية، فتفتح الأعين على كل ما هو بحاجة إليه من ألوان المعرفة المضيئة، ولا حاجة لاستقصاء الفنون التي يحقق بها الأدب الإسلامي رسالته في عالم الكلمة، لأن استقصاء ذلك فوق حدود الطاقة، وقصارى القول: أن الأدب الإسلامي قد استعاد بفضل الله، ثم بهمم الصفوة من موهوبي المؤمنين، الكثير مما فقده من أسباب التفوق، ولا تزيده التجارب اليومية إلاَّ نشاطاً ودَأْباً في هذه السبيل المَهْدِيُّ بنور الله، على الرغم من مئات العقبات التي تقيمها في طريق الحق الأيدي الملوثة بجراثيم الشيوعية، والقوى المسخرة لأهواء الظُّلام من طواغيت الحكام، وبخاصة أن هذه الأيدي هي التي تقبض على مخانق الوسائل الإعلامية مقروءةً ومسموعةً ومرئيةً في معظم بلاد المسلمين فتسخِّر كُل شيء لخدمة أنصابها، حتى لتجعل من المسخ الهزيل الكبير العمالقة، ومن ألد أعداء الإسلام داعيةً، يستحق ألوان التقديس، ثم زاد اضطرب الرؤية لدى الجماهير المتأثرة بالإعلام المضلِّل، ذلك التكريمُ الذي توجهه السياسة المكيافيلية لقادة الفكر التخريبي، إذ يدعون المشاركة في كل مؤتمر يحمل اسم الإسلام، ثم ينفضُّون ليستأنفوا حربهم للإسلام شريعةً وتربيةً وتعليماً وإعلاماً، وكأنهم أخذوا من وجودهم في تلك المؤتمرات تفويضاً بمواصلة مساعيهم الشيطانية لتهديم كل ما هو إسلامي، وتنشيط وتشجيع كل ما هو مضاد لحقائق الإسلام...
* ولا أكشف سراً إذا ذكَّرت بآخر ما يشهده عالم الإسلام، من تلك المواقف المشبوهة، حيث طُرحتْ قضية الغزو الشيوعي لأرض الإسلام في الأفغان الشقيقة، فوقف هؤلاء ينافحون عن فجائعه بكل وقاحة، وفي مجتمع آخر قريبٍ حيث طرحت قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، فكان أن وقف ممثل لإحدى الدول المشاركة فيه باسم الإسلام، ليعلن على رؤوس الأشهاد أنه لا يوافق على هذا الطلب، ولكن شاء الله أن يجعل من تلك المفارقات قوة جديدة للدفع الإسلامي، إذ ساعدت على تمييز الراشد من الضائع، فشدَّتْ أواصر أهل الإيمان، وأبرزت انعزالية المعادين للإسلام، وكان أعظم رد فعلٍ لموقف ذلك الرافض لحكم الله، هو الذي قدمه ممثل نيجرية المسلمة في التعقيب على ذلك الكفر الصراح، يقترفه وزير لأوقاف إسلامية، أول واجبه هو احترام عقيدة شعبه، وتسخير كل مقاومات منصبه لإعلاء كلمة ربه، فكان الرد النيجري، تذكيراً حكيماً بقوله تعالى في أمثاله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} (4-59).
يتبع