النّحاة العرب وسبلهم في التأليف
ـــ محمّد وليد حافظ
يدهش الباحث حين يفتح كشف الظنون على مادة "ألفية ابن مالك" مثلاً، فيجد لها زهاء سبعين خادماً بين شارح ومحشٍ وناظم وشارح شواهد. ويزداد دهشة حين يجد لكافية ابن الحاجب في النحو مئة من الخدمة، بل إن للآجرّومية، وهي الأخرى من مقدمات النحو، ما يزيد على أربعين شرحاً وحاشية في المكتبة الظاهرية وحدها.
هاجم ابن خلدون هذه الظاهرة، أعني ظاهرة كثرة التآليف هجوماً عنيفاً، قال "اعلم أنه مما أضرّ الناس في تحصيل العلوم كثرة التآليف، واختلاف اصطلاحات التعليم، وتعدد طرقها"(1) وهاجمها كذلك المرحوم أحمد أمين الذي عدّ كل ما أُلف في النحو تكراراً لكتاب سيبويه الذي "كان من القوة بحيث كان المرجع في العالم الإسلامي من تاريخ تأليفه. وكل ما فعله الناس أنهم شرحوا غامضاً، أو اختصروا مطوّلاً، أو بسّطوا معضلاً، أما الأسس التي بني عليها الكتاب فبقيت كما هي في النحو والصرف إلى اليوم، من عهد شرح السيرافي لكتاب سيبويه إلى "النحو الواضح" للمرحوم الجارم بك"(2).
وعزا المرحوم أحمد أمين هذه الظاهرة إلى أن النحو العربي ظل متأثراً طوال حياته بنظرية العامل التي قدمها سيبويه في كتابه، فالفاعل مرفوع بالفعل، والمفعول به منصوب بالفعل. وإذا لم يوجد عامل ظاهر قدر عامل مستتر. ولم يستطع ابن جني –392هـ وابن مضاء الأندلسي- 593هـ تحرير النحو من هذه النظرية(3).
وقد أجمل صاحب كشف الظنون أنواع التآليف فيما يلي، وهي أنواع تنطبق على عالم النحو:
1-مختصرات تجعل تذكرة لرؤوس مسائل ينتفع بها المنتهي للاستحضار، وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء.
2-مبسوطات تقابل المختصرات، وهذه ينتفع بها للمطالعة.
3-متوسطات، وهذه نفعها عام للمبتدئ والمتوسط والمنتهي(4).
ونظن ظناً أن صعوبة النسخ وتكاليفه كانت وراء تأليف المختصرات، ثم الاتجاه في القرون المتأخرة إلى تلقين النحو لا إلى تفهيمه، ونظن كذلك أن هذه المختصرات اشتغل بها المعلمون، يستعينون بها في استحضار أفكار الموضوع، ويشرحونها لطلابهم شروح المختصرات المتخذة كتباً تعليمية، كألفية ابن مالك والمقدمة الآجرومية.
هاجم ابن خلدون هذه المختصرات موضحاً أضرارها، قال: "ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم، يولعون بها، وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه خلطاً على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه، هو لم يستعد لقبولها بعد. وهو من سوء التعليم كما سيأتي، ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل منها، لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت. ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده، ولم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة بكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين. وإذا اقتصر عن التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة، فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعباً يقطعهم على تحصيل الملكات النافعة وتمكنها"(5).
وتفهم بسهولة مرامي ابن خلدون من هذا الموقف، وهي:
1-عدم إرهاق المبتدئ في التعلم بما لا يستطيع فهمه.
2-عدم إرهاق المبتدئ بتتبع ألفاظ الاختصار، وتضييع وقته.
3- فائدتها –إن كان لها فائدة- أقل من فائدة المبسوطات.
ويلاحظ أن بعض شارحي الكتب النحوية ألّفوا الأنواع الثلاثة على الكتاب الواحد، وكأنما يراعون مستويات المتعلمين أو يجهزون مذكرات للمعلمين، ومنهم عبد القاهر الجرجاني الشهير بكتابه "دلائل الإعجاز"، فقد ألف ثلاثة شروح لكتاب "الإيضاح في النحو" لأبي علي الفارسي، يقع أوسعها في ثلاثين مجلداً بعنوان "المغني"، وللقارئ أن يتصور صعوبة استعمال هذا المطول، بله اقتناءه. ومنها شروح ركن الدين حسن بن محمد الاستراباذي الحسيني –717هـ على كافية ابن الحاجب.
بل إن معظم أصحاب الأمهات في النحو صنع شرحاً لمختصره، أو اختصر مطوله، أو شرح شواهده، ومنهم:
1-الزمخشري اختصر "المفصّل" في "الأنموذج".
2-ابن الحاجب شرح "الكافية"، ونظمها في أرجوزة سماها "الوافية" وشرحها.
3-ابن مالك شرح "التسهيل"، والتسهيل مؤلف شديد الإيجاز، جمع فيه خلاصة آرائه النحوية.
4-ابن هشام شرح "قطر الندى" و "شذور الذهب" وشرح شواهد "مغني اللبيب" أكثر من مرة.
ويبدو ابن خلدون أشد تسامحاً تجاه ظاهرة كثرة التآليف رغم مهاجمته لها، فهو لا يعد كل الكتب النحوية والشروح تكراراً لكتاب لسيبويه، بل يصنف أغراض التأليف بعقل منطقي كما يلي:
1-كمال مهارة المصنف، فإنه لجودة ذهنه، وحسن عبارته يتكلم من معان دقيقة بكلام موجز، يكفي في الدلالة على المطلوب، وغيره ليس في مرتبته، فربما عسر عليه فهم بعضها، أو تعذر، فيحتاج إلى زيادة بسط في العبارة لتظهر المعاني الخفية.
2-حذف بعض مقدمات الأقيسة اعتماداً على وضوحها، أو لأنها من علم آخر، أو إهمال ترتيب بعض الأقيسة، فأغفل علل بعض القضايا، فيحتاج الشارح إلى أن يذكر تلك المقدمات المهملة، ويعطي علل ما لم يعط المصنف.
3-وقد يقع في بعض التصانيف ما لا يخلو البشر منه، من السهو والغلط والحذف لبعض المهمات، وتكرار الشيء بعينه بغير ضرورة إلى غير ذلك، فيحتاج أن ينبه عليه(6).
أما النوع الأول من الشروح فأوضح أمثلته شرح النحوي لمصنفه، وهذا ما فعله ابن هشام بكتابيه "شذور الذهب" و "قطر الندى" وهذا مثال من قطر الندى:
ص: جميع الحروف مبنية.
ش: لما فرغت من ذكر علامات الحرف، وبيان ما اختلف فيه منه، ذكرت حكمه، وأنه مبني لاحظّ لشيء من كلماته في الإعراب.
ص: والكلام لفظ مفيد.
ش: لما أنهيت القول في الكلمة وأقسامها الثلاثة، شرعت في تفسير الكلام..."(7). ويجدر بالذكر أن ابن هشام يسمي مؤلفه "مقدمة" ويسمي شرحه نكتاً "رافعة لحجابها –يعني المقدمة- كاشفة لنقابها، كافية لمن اقتصر عليها، وافية ببغية من جنح من طلاب علم العربية إليها"(8).
وأما النوع الثاني، فمن أمثلته شروح كتاب سيبويه وشروح مغني اللبيب. يقول ابن هشام في المغني: "إذ لا مجازاة هنا"(9) والإشارة إلى مثال أبي علي الفارسي: "يقال لك: أحبك فتقول: إذن أظنك صادقاً" بضم الفعل المضارع، فيشرح الشمني العبارة قائلاً: "قال الرضي لأن الشرط والجزاء إما في الاستقبال أو في الماضي، ولا مدخل للجزاء في الحال"(10).
وأما الثالث من أسباب التصنيف فقد استغله بعضهم أبشع استغلال للتشنيع على أسلافهم، والانتقاص من أقدار غيرهم. وما أكثر ما نقرأ في كتب النحو اتهامات بالزعم والوهم والتعسف والخلط، هذا أبو حيان النحوي الأندلسي (-745هـ) يتهم أبا علي الفارسي والزمخشري "بعجرفة العجم" وعدم معرفة كلام العرب. ويصف كافية ابن الحاجب بأنها "نحو الفقهاء". وابن مالك يصف الزمخشري بأنه "نحوي صغير" وبين ابن مالك وأبي حيان ما بينهما رغم كون الثاني شارحاً للأول. ثم بين ابن هشام وأبي حيان. ثم ابن هشام يتهم الزمخشري بالخروج عن كلام العرب(11)، والكذب فيما نقله عن سيبويه(12).
وأسوأ من يلقانا في هذا الباب الأسود الغندجاني المتوفى بعد 430هـ، وهو عالم بالشعر والأنساب من غندجان بأرض فارس. تتلمذ على شيخ مجهول يكنى بأبي الندى، فتطاول على أربعة من أسلافه: ابن الأعرابي، وأبي علي الفارسي، وابن السيرافي، وأبي عبد الله النمري. فألف في الرد على كل منهم كتاباً، وأنعم على ابن السيرافي بكتابين فأطلق لسانه "حاداً نابياً لا يتورع عن الساقط من الكلام بحق الأئمة من العلماء في إطار التهكم والسخرية، وضرب الأمثال السوقية في بعض الأحيان، مما عبّر عنه ياقوت بقوله "وكان الأسود لا يقنعه أن يرد على أئمة العلم رداً جميلاً، حتى يجعله من باب السخرية والتهكم وضرب الأمثال"(13). وأمثاله في غاية الفحش والبذاءة أحياناً(14)، وأغلبها مما صنعه الغندجاني نفسه، بالإضافة إلى تحميله ابن السيرافي ما لم يقله(15)، وتصحيف كلامه، وغير ذلك مما يضيق المقام بذكره.
إلا أن نظرة متأنية منصفة تجعلنا نضيف إلى ما سبق من تصنيف ابن خلدون ما يلي:
نحن نعلم أن الأخفش الأوسط (-215هـ) فتح باب الخلاف على أستاذه سيبويه، وأن هذا الخلاف تمخض عن مدرستي البصرة والكوفة، ثم نشأت مدارس أخرى. ونعلم أن هذه المدارس استقطبت النحاة. ونعلم أن جدلاً دار حول أصول النحو، مثل الاحتجاج والقياس ومصطلحات النحو، دون أن يعني هذا خفوت الأصوات الفردية والخلافات الجانبية ضمن كل مدرسة، فإن الأسباب التي أدت إلى ظهور الخلافات، وهي طبيعة اللغة العربية نفسها، وطبيعة العلل التي تتحكم في العلاقات اللغوية، والدلالات التي تحملها الألفاظ، وطبيعة البحث العلمي (16)، هذه الأسباب إلى جانب أسباب أخرى سنتطرق إليها فيما بعد –ظلت نبعاً لا ينضب لتعدد الآراء دون أن تفلح مدرسة الفارسي في الخروج من مأزق الخلاف رغم تأثيراتها العميقة:
أ-فلابد أن كلاً من عمالقة النحو العربي كان في ذهنه شيء جديد يريد تقديمه، ولاسيما أن معظمهم كان من المعتزلة المؤمنين أعمق إيمان بحرية العقل وسلطانه. فالفرّاء بعد الكسائي وطد أركان مدرسة الكوفة. والرماني (-384هـ) اتهم بنزعته المنطقية. وأبو علي الفارسي صاحب مدرسة مستقلة، هو وتليمذه ابن جني. والزمخشري عاد إلى كتاب سيبويه واختصره في المفصل. وابن الحاجب نحوُه "نحو الفقهاء". وابن مالك توسع في الاستشهاد بالحديث النبوي. وابن هشام صاحب آراء مستقلة.
ب-وارتاد بعضهم ساحات جديدة في التصنيف:
1-فصنف الزجاجي (-337هـ) كتاب اللامات. والرماني (-384هـ) "معاني الحروف" والهروي (-415هـ) "الأزهية في علم الحروف" وهي كما هو واضح تجميع للأدوات في مؤلفات مستقلة.
2-وظهرت كتب إعراب القرآن الكريم بدءاً من معاني القرآن للأخفش، مروراً بمعاني القرآن للفراء، حتى اضطر ابن هشام إلى تقديم شكل جديد يغني عن كتب الأعاريب التي كثرت وطالت، فكان "مغني الليبب" دون أن يوقف هذا المغني سيل كتب الأعاريب.
3-وظهرت كتب الأمالي، للزجاج، والمرتضى (-436هـ) وابن الشجري (-542هـ) وابن الحاجب، وغيرهم. وتبحث كتب الأمالي شتاتاً من الموضوعات يتراوح بين جواب لسائل، وإعراب آية، وشرح بيت مشكل.
4-وعني بعض النحاة بشرح الشواهد النحوية، وهو عمل جليل يخفف العبء عن متون النحو، ويسمح للمؤلف أن يستمر في عرض مادته دون الانصراف إلى الشواهد، في زمن لم تكن الحواشي فيه معروفة. وللنحاس (-338هـ) وابن السيرافي (-385هـ) والأعلم الشنتمري (-476هـ) شروح لأبيات سيبويه. وقد يشرح النحوي نفسه شواهده كما فعل ابن هشام بشواهد المغني، أو يشرح شواهد غيره. كما فعل ابن هشام نفسه بشواهد ابن الناظم بدر الدين بن مالك (-686هـ). وبلغ من عظمة شارح أبيات الرضي، وهو عبد القادر البغدادي (-1093هـ) أن حمل مؤلفه عنوان "خزانة الأدب" عن جدارة، فيها عشرات المقطعات والقصائد، وتراجم لعشرات الشعراء، ومعرض لآراء النحاة. وكذلك شرحه لأبيات مغني اللبيب.
5-وألف بعضهم في محاور خاصة مثل كتب الأحاجي النحوية، وكتاب "الاقتراح" للسيوطي.
هذا فيما يخص مناجي التأليف النحوي، أما اتهام أحمد أمين تراث العرب النحوي بأنه تكرار لكتاب سيبويه فإننا نبدي عليه التحفظات التالية:
1-كان من مظاهر ارتقاء العقل العربي بعد سيبويه الميل إلى التعليل. وإذا كان القياس أساسه الفقه والنحو، فالعلة أساس القياس، والقياس "هو حمل غير المنقول على المنقول في حكم لعلة جامعة"(17) "ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول، وإنما سمعت البعض فقست عليه غيره، فإذا سمعت "قام زيد" أجزت: ظرف بشرٌ وكرُم خالدٌ"(18).
جهد النحاة العرب لوضع القاعدة النحوية على أساس علِّيّ. وكانت العلل هشة بادئ الأمر، يطعن الطاعن فيها بسهولة، فلما كان ابن جني عمل للتخلص مما يسمى بتخصيص العلل، أي من إمكان نقضها لعدم الاحتياط في وصفها، مثل قولهم في علة قلب الواو والياء ألفاً: إن الواو والياء متى تحركتا وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفين" وهي قاعدة منقوضة بمثل: (غَزَوَا)، وبمثل (عَوِر)، فسدّ ابن جني كل خلل في القاعدة، وجعل قاعدته شاملة مطردة لا يطعنها طاعن من جهة، وتخاطب العقل قبل الذاكرة من جهة أخرى، فجعلها كما يلي "إنهما متى تحركتا حركة لازمة، وانفتح ما قبلهما، وعري الموضع من اللبس، أو أن يكون في معنى ما لابد من صحة الواو والياء فيه، أو أن يخرج على الصحة منبهة على أصل بابه، فإنهما يقلبان ألفاً"(19).
وأضحى التعليل من موضوعات الخلاف في العصور المتأخرة، ففي حين أنكره بعض النحاة، ولاسيما نحاة المغرب والأندلس الذين كان للمذهب الظاهري في الفقه أثر واضح على مذهبهم النحوي، كابن مضاء القرطبي وأبي حيان النحوي، عمّق نحاة المشرق بشكل خاص الاتجاه التعليلي، هذا ابن يعيش النحوي الحلبي الكبير، وهو من أواخر المعتزلة، تتلمذ عليه ابن مالك نفسه، وإن كانت تلمذة سطحية على ما يبدو لشدة البعد بين منحيي الرجلين، هاهو يشرح للقارئ سبب انقسام الضمير إلى متصل ومنفصل "القياس فيها أن تكون كلها متصلة لأنها أوجز لفظاً وأبلغ في التعريف، وإنما أتي بالمنفصل لاختلاف مواقع الأسماء التي تضمر، فبعضها يكون مبتدأ، نحو "زيد قائم" فإذا كنيت عنه قلت: هو قائم، أو أنت قائم إن كان مخاطباً لأن الابتداء ليس له لفظ يتصل به الضمير، لذلك وجب أن يكون ضميره منفصلاً.."(20) ويعلل حركة تاء الرفع بأن "التاء هنا (أي في مثل: جلستُ) اسم قد بلغ الغاية في القلة فلم يكن بد من تقويته بالبناء على حركة لتكون الحركة فيه كحرف ثانٍ.."(21).
ويمضي ابن يعيش على هذا النحو الرائع من التعليل، ومخاطبة العقل مفسراً سبب اختلاف حركات التاء، وسبب اقتصار المخاطب المثنى على ضمير واحد، في حين أن للجمع ضميرين.
بل إن الفراء، وهو المؤسس العملي لمدرسة الكوفة والمتوفى عام 207هـ أي بعد وفاة سيبويه بربع قرن فقط، يحتج لسقوط نون الوقاية في (أنّ) و (كأنّ) و (لعلّ) "بأنها بعدت عن الفعل، إذ ليست على لفظه، فضعف لزوم النون لها، و (ليت) على لفظ الفعل، فقوي فيها إثبات النون، ألا ترى أن أولها مفتوح وثانيها حرف علة ساكن وثالثها مفتوح، فهو كقام وباع.."(22) أفننكر بعدئذ على هذه العقول الكبيرة أمثال الفراء وابن جني وابن يعيش والرضي جهدها، ونعد ما تعمقوه في النحو تكراراً لكتاب سيبويه؟!
2-ومعتمد التعليل المنطق، وما من شك أنك تلمح خلف كلام ابن يعيش الذي نقلنا بعضه في الفقرة السابقة ذلك المنطق الإنساني العام الذي لا يختلف فيه اثنان، مثل تعليله انفصال ضمير النصب "وبعضها يتقدم على عامله، نحو "زيداً ضربت" فإذا كنيت عنه مع تقديمه لم يكن إلا منفصلاً لتعذر الإتيان به متصلاً مع تقديمه، لذلك تقول "إياه ضربت" وقال الله تعالى "إياك نعبد وإياك نستعين"(23)....".
أما المنطق الذي كان موضع نزاع بين النحاة فهو ذاك الذي ترجم من اليونانية، ومازج النحو، مثل ما لاحظ الفارسي على معاصره الرماني (374هـ) قال: "إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن فليس معه منه شيء"(24). ومع ذلك لم يسلم الفارسي نفسه من تهمة إقحام المنطق في النحو. ويجدر بالذكر أن لغويي مختلف العصور اتجهوا هذا الاتجاه، ومنهم على سبيل المثال رائدا مدرسة بور رويال في فرنسا في القرن السابع عشر، اللذان كان لقواعدهما ردة فعل عنيفة، لكنها كانت في مطلع القرن العشرين حافزاً لانطلاقة علم اللغة العام.
اصطنع الشراح المتأخرون أساليب المناقشة المنطقية مثل "فان قلت" و "سلّمنا" وهم بذلك يقتفون أثر ابن جني الذي كان منهجه تفنيد كل رد محتمل. غير أن المتأخرين استخدموا أساليب المنطق ومصطلحاته، يردّ الشمني أحد شراح المغني على الدماميني وهو الآخر من شراح المغني –قوله: "قد يقال: ليس بين تأثير الأداة (أن) لتخليص الاستقبال وتأثيرها لنصب اللفظ تلازم بدليل (سوف)" قائلاً "لا دلالة في عبارة المصنف المعنى إلى –يعني ابن هشام- على التلازم، ولو سلم، فالتاثير اللفظي لوجود التأثير المعنوي، لا لماهيته، ولازم الوجود لا يجب ثبوته لكل فرد من أفراد ملزومه بل قد يثبت لبعضها فقط، ككون الجسم ذا ظل في الشمس، فإنه لازم لوجود الجسم، غير ثابت لبعض أفراده كالهواء"(25).
ونقل الشمني شرحاً منطقياً وافياً لقوله تعالى: "ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا"(26)، وللحديث المنسوب إلى عمر رضي الله عنه "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" عن التفتازاني صاحب المطول، يدل على مدى اتساع عقول أولئك البلاغيين المشارقة المتهمين بتجميد البلاغة العربية(27).
وإن سلمنا بأن المنطق جمد النحو العربي والبلاغة فمن ينكر أثر التفكير المنطقي في مثل كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف" للأنباري المتوفى عام 577هـ فهو يسرد في مطلع كل مسألة رأي الكوفيين فرأي البصريين، ثم حجج الكوفيين فحجج البصريين، وأخيراً يحكم بينهما مفنداً رأي أحد الطرفين.
يتبع