الجيل المثالي
للأستاذ: محبّ الدين الخطيب
من أيام أفلاطون (430 – 348ق.م) وكتابه "الجمهورية" ثم من عصر أبي نصر الفارابي (260 – 339هـ) وكتابه "المدينة الفاضلة" إلى زمن السر توماس مور (1478 – 1535م) وكتابه "يوتوبيا".
من تلك العصور والأزمان – إلى يوم الناس هذا - والإنسانية تحلم بالجيل المثالي الذي يود البشر لو يظفرون به فيتخذونه قدوة لهم فـي السلـم والحـرب،
والمَنْشط والمكره، في مختلف أطوار الحياة، ليكون لهم من كماله الإمكاني المثل المقتدى به في كمالهم الإنساني.
هي أمنية من أماني الشعوب والأمم، من أقدم الأزمان إلى الآن تحدّث عنها الحكماء، وتغنّى بها الشعراء، وترنّم بها رخيم أصوات الهاتفين، وهمس بها صفوة الضارعين والمناجين، من كل صادح أو باغم.
بل إن "الجيل المثالي" هو الذي دعا إلى تكوينه وعمل على تحقيقه الأنبياء من أولي العزم، وهو الذي تمناه الحكماء وأهل العلم، وهو الذي كانت الإنسانية ولا تزال إلى شبحه المرجى في أحلام يقظاتها وفترات غفوتها.
تريث موسى بقومه في آفاق العريش، وبرية سيناء وصحارى النّقب، وحوالي بئر سبع أربعين حولاً يلتحف معهم سحائب السماء ويفترش الغبراء، وهو يحاول أن يربي منهم جيلاً مثالياً يستنّ بسنن الله، ويتخلّق بأخلاق الرفق والحزم والتضحية والاستقامة والاعتدال فيرضى بها عن ربه ويرضى ربه عنه، ثم مات موسى ولما يبلغ من أمته هذه الأمنية.
ونبغ في الصين حكيمها الأعظم كونغ فوتس الذي عرفناه من طريق الإفرنج باسم "كونفوشيوس" (550 – 479ق.م) ولا شك أنه كان من أصدق الدعاة إلى أن يتعامل الناس بالمروءة، لكنه لم يرتفع بدعوته إلى تخليص الصين من عبوديتها لابن السماء "الإمبراطور" ولما في السماء من شمس وقمر وكواكب وسحائب ورعود وصواعق وأمطار، ولا إلى تخليصها من عبادة الأرض، وما في الأرض من جبال وبحار وأنهار، ولا من أرواح الآباء وما تقيمه في سبيلهم من حدود وسدود وقيود.
وقد أخفق كونغ فوتس في كل ما قام به من دعوة في أرجاء الصين، فعاد إلى بلده يؤلف الصحائف في الدعوة إلى المروءة، وقد رأينا تفصيل ذلك في كتابه "الحوار" ثم مات وليس له من المتأثرين بدعوته إلا عدد قليل من تلاميذه، وبقيت الصين هي الصين من ذلك الحين إلى الآن..