بين الطبيب والكاتب
د. صفية الودغيري
حدثتْني عَبراتُ عمرِها عن حجم معاناتها القاسية، وهزَّتني خارطةُ الانشطار والانصهار على حدودها، فغُصتُ في ارتعاش رموشها، وأبحرتُ في مرايا عيونها، فأَسَرتْني لمعةُ أحلامها الخامدة، وهزَّتني نظراتُها الحسيرةُ، فشعرتُ أن بيني وبينها خطًّا أحمرَ يَفصلنا عند المرور، وكلتانا تَعشق أن تمد وصلَ الأماني بلا فواصل تسحقنا عند العبور، وبلا خوف يُمزقنا إلى نصفين لا يلتقيان إلا عند ميقات الغروب، وبلا صمت يُنسينا لغة الكلام عند حلول الرعود، وكلتانا انعكاس لَطيف لذاكرة لن تموت، وفصولنا تكتب تاريخنا بالخط الأخضر على تشقُّقات الأغصان والفروع؛ كي نكون ويكون لنا وجود!
هي سيدة ترتدي وجهًا متمردًا لا يُشبهني، وعلى شفتيها يَرقُد صمتُها الأسطوري، فيَخالها الرائي وجعًا يتأجَّج، أو دُخَان عاصفة جَبلية، تَهمس لِيُبْسِ الحطب في لحظات الاحتراق.
كانت تَسبح في أُفقها المخملي، وتلتحف البردَ والصقيع، وتستحم في عطر أحلامها؛ كي تتحلل من طحالب الذكريات الحزينة، ويدبُّ في عروقها نبضُ الحياة السعيدة.
كنتُ أراها من بعيد تَجلس على مقعدها الخشبي كتمثال صخري، وتتوكَّأ على كفِّها الخضيب، وتعد عقارب الزمن المتهالك، في انتظار القطار الذي كان يَحملها كل صباح إلى حيث كانت تعمل طبيبة في أحد المستشفيات القريبة من مدينتنا، التي تبتلع أفكارنا وسط ضجيجها وتلوُّثِها الخانق، وتُذيب خُطانا، وتَهد سواعدنا على أرصفة العابرين.
وكنت أشعر أن ما يجمعنا هو الإحساس بالاغتراب، والتَقينا ذات يوم في إحدى محطات السفر، وتبادَلنا النظرات، وغرِقنا في صمتنا المذاب، والمكان والزمان يسألنا في اندهاش وفضول: مَن يوقد الشمع الذي احترق من مواجعنا؟!
وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث، ونَرشُف الأحزان في أكواب قهوتنا الساخنة، وظل الخوف والخجل يلفُّني أمام جبل شموخها، فأتسلَّق ارتفاعها الشاهق، وإحساسي بالسقوط في متاهات حكاياتها يلازمني من القمة إلى القاع، فلا أجد ما يسعفني إلا الانتظار تلو الانتظار!
وأزِفت لحظة الكشف والاعتراف، وبدأت مشاعرنا تتساوى عند خط العبور، وتتوحد عاصفة الصعود والنزول، فصِرنا نتحدث بصوت مسموع، ولا يُخرِسُنا خريفُ الفصول.
وسألتها: أخبريني سيدتي عن حكاياتك في فصول الماضي والحاضر، فقد مَلِلت هذه الجسور الفاصلة بيننا، وهذه السدود بلا حدود!
ففي رؤاك شيء من حزن يبكيني، وأحلام خلف بياض وجهك تُذيبني، وبسمة كطقطقات الحطب تَصهَرني، ثم تَخمُد أنفاسي خلف دُخَانها، وشيء من الجرأة تَكنُس قشَّ خجلي، وتحتوي جسارتي في مِحرابها.
فابتسمتِ ابتسامة باردة، لفَظها صقيعُ آلامها، وارتدَتْ مِعطف أحزانها الممزَّق بالخروق، كأنها لم تَذُق طعم السعادة بلا مرار، ثم أجابتني بنبرة هادئة: يا بنتي الصغيرة، دعي الماضي يرقُد في سلام، فما حولنا لا يبشر بالسلام!
وفي حاضري ما يكفيني لأَحيا ضَعف الأيام والشهور، ولي في كل فصل حياةٌ مختلفة، بألوان ترسم على خارطتي صورَ هُويتي بتقاسيم وجهي المليء بالخطوط والسطور، ولي ذاكرة ما زالت تَزهَر بالأماني والأحلام السعيدة، تجعلني لا أَشيخ وسط مضايق الشعاب وعَتمة الدروب.
يا بنتي الصغيرة، دعي الفصول تتحدث عن حكاياتنا القديمة، وتوقظ جذورها الغائرة في أعماق ذواتنا، ودعينا نَنْسَ أحاديث مواجعنا؛ كي تَندمل الجروح، ويهدأ أنينُ الفصول، ويَخرَس قيثارُ الرُّوح عن نَوح الحداد، ولا يمتد خرقُ الألم في جسد يبحث عن مهاد يسكُن إليه النسيان، فلا شيء غير النسيان يُريحنا من شقاء الحروب وعذابات الانتظار اللامنتهي.
فأدركت بعد رحلتي الطويلة وأنا أُصغي إلى حكاياتها مع المرضى، وحديثها الموصول بجسور منفاها السحيق - أنني لن أَصِل إلى مرتقاها الصعب، وفي تصوُّري تلك الرؤى التي يَحملها الأطفال في مُخيلتهم الصغيرة، ولن أكتشف أسرارها وأنا أَسبح في فضائي الضيق؛ حيث تَرتطم أحلامي الفتيَّة بقِمم أحلامها الكبيرة، وتتحوَّل إلى ذرات تسحقها مطارقُها، فتتلاشى من الاحتراق والتفحُّم.
وكيف لي أن أَشعر بمعاناة الطبيب المعالج، حين يقف عاجزًا أمام داء لم يجد له دواءً، وأنا اعتدتُ على التنزه في حدائق الأدب والاستجمام في حقول الكلمات والحروف؟!
ولكنني أَلِفتُ الصمود أمام ما هو مُفجع، وأن أُصغي إلى إشارات القلب الغامضة، وأترقَّب مشارق أنوار البصيرة؛ لذا كنت أُطيل التحديق في نظراتها العميقة، وأَغرق في تموُّجاتها، وأتأمَّل في كلماتها المكتوبة على سطور تجاعيدها، وأَغوص في خطوطها العربية وغضونها الغائرة، عساني أقرأ ألغازها، وما يختفي تحت ترهُّلات وجْهها، وأَلِج أبوابَها، وأفتح مغاليقها.
وسألت نفسي: هل يَملِك الكاتب أن يَصِل إلى الحقيقة الكاملة وهو لا يقرأ فصول الحكايات المنسية، وما يَختبئ وراء الحُجب الكثيفة من خبايا النفس وأسرارها؟!
فأجابتني: إن الكاتب الفطِن يَملِك أن يغيِّر العالم والناس بكلمة يقرؤها في كتب الأحياء أو الأموات، ويهتزُّ لها كِيانه، فينتج منها آلاف الكلمات والأفكار، ويولِّد من سطور الماضي والحاضر سطورًا تكتب عليها أجيال المستقبل تاريخَها، ويتصفَّح الوجوه، ويَسبر أغوارها، ويقرأ بواطنَ أسفارها، فيكشف لنا عُمق أسرار حياتها، وحقيقتها المحجوبة عنا خلف القشور والظلال، وأستار الغموض، بعدها يحمل القلم ليَصوغ العبارة، ويؤلِّف المعنى في تركيب متناسق وأسلوب جذَّاب.
وأمام هذه السيدة نسِيت أنني الكاتبة، ونسيت قلمي وعلبة ألواني، فصِرت أنا القارئة التي أتعلَّم من أحاديثها أبجديات القراءة، وأَنسِج أفكارًا أُحررها، وأبعث فيها روحًا وحياةً تتنفس على بياض الورق، وتعلَّمت كيف أقرأ ذاتي وأُصغي لحديث رُوحي حين أُصغي لحديث روحها، وأن أشعر وأفكِّر بروح القارئ والكاتب، وأُشاهد مشاهدة القلب الحي والعقل اليَقِظ، وأن أكتب لا لأُرضي غروري وعشقي للكتابة، بل لأُرضي ضميري الصاحي، فصِرت أكتب بحبر دمي لا بحبر القلم، كما كانت هي تكتب بمِشرط الطبيب الخبير بفنون الطب، الحاذق بأسرار المرض، المدرك لحقيقة الداء وما يعالجه من الأدواء.
وتعلَّمت أن حياة الكاتب تشتمل على كل ما تقع عليه عينُه، ويَلمُسه خياله، وتُدركه حواسُّه وعواطفه، فيُعانق أعماق الحياة، ويغوص في بواطنها وقِيعانها، ويُبحر في محيطاتها وشُطآنها، ولا تَكفيه تلك الحياة الرحيبة؛ كي يكتب تفاصيلها الدقيقة على سجل التاريخ!
وتعلَّمت منها أن مَن يكتب عليه أن يفكِّر طويلًا في أحاديث الناس ويؤمن بمعاناتهم، ويكتسب الجرأة للدفاع عن قضاياهم بما أُوتي من علمٍ وفصاحة وبيانٍ، وأن مَن يكتب عليه أن يَقتات من الأفراح والأحزان، والعلل والأسقام، فيَهتز شِريانه الطموح، ويُنجب لكل فصل حقيقةً تستحق البقاء والخلود في ذاكرة الأمة؛ لأنها من إنتاج الحياة الصعبة، ومخاض الشدائد التي تصنع الأفكار العظيمة والكتابات الخالدة.
فالكاتب مهما أدمَن القراءة في الكتب، فلن يصل إلى احتواء الحقيقة الكاملة، إلا إذا خاض معارك الواقع، وحارَب بسلاح القلم في ميدانه، كما يحارب الطبيب المرض بِمِشرطه، وأن يتذَّوق طعم المرار والعلقم، وطعم الشَّهد والسكر، ويُخالط ألوان الحياة في السِّلم والحرب، ويَعجِن أفكاره بعجين الحياة وطينها، ويَعرُكها بآلام المتألمين ومسرَّات السعداء، ويَطحَنها بطحين الأفراح والأحزان، ويَسقيها بالدمع والضحكات!
وتذكَّرت حينها ما قاله الكاتب والشاعر المغربي محمد الصباغ حين قدَّم الدرس الأول في تاريخ الأدب العربي لتلاميذ فصل التعليم الثانوي، ونظر في المنهج المقرر، ولم يتحمل أن يعاكس ذوقه في الأدب، ويخالف جوهره وماهيته، فشارَك إخوانه الطلبة همومَ الأدب، ونفَذ معهم إلى عوالِمَ أرحبَ مِن عوالم الفصول الدراسية، وغاص معهم في بحور الأدب ومحيطاته؛ ليلتقط دُرره الكامنة في زوايا الحياة وخفاياها، وليخرج ناشئة الأدب الأصيل مَن عرَكتهم الحياة وصقَلتهم التجارب والخبرات، فجعلوا للأدب روحًا تَرسُم أجمل الصور وأصدق المشاهد، وتَبلغ أصفى المشاعر الإنسانية لعشاق الأدب ومُريديه.
لهذا وجَّه إليهم خطابه السامي في مقالته الماتعة "درس في الأدب" فقال: "ما الحياة إلا مجموعة من العواطف، والآمال، والأحلام، والآلام، والمخاوف، والأشواق، والأفراح، والنزعات، وما ينتاب الإنسان، وغير الإنسان من جماد وحيوان ونبات، وما يعتريه ويطرأ عليه في هذا الوجود، عواطف تلك الأغصان الرطيبة التي تمد أعناقها إلى ضرع الصباح؛ لتَدِرَّ منه حليبًا، فتكتسي بالندى، وأحلام تلك الموجة التي تغفو على أُختها في الشاطئ حالمةً بالتسلق إلى هامات الجبال، ثم التغلغل في شرايين الأرض العميقة، وأشواق تلك الصبية التي فقَدت لُهاثها في البحث عن أمه، ونزعات التربية المتخومة بالأنفاس المخنوقة، والأصلاب المرضوضة، والأعضاء المكدودة مِن قبل آدم إلى يومنا هذا"[1].
وغايته من وراء هذه الجولة القصيرة في دروب الحياة: أن يضرب مثلًا لتلاميذه، ويقدِّم إليهم درسًا عمليًّا لا تنظيريًّا؛ ليتعلَّموا الأدب ذوقًا وحسًّا وروحًا، ومحورَ حياة، وهذا ما نلمُسه من خطابه العميق للارتقاء بالأدب؛ حيث قال: "إن في كل صفحة من صفحات دفاتركم لأسرارًا بيضاءَ، إذا أنتم تتبَّعتُم أدوارها وأطوارها وصَيرورتها، منذ أن كانت جُذوعًا، وقبل أن تكون بذورًا، وبعدما ستصير عليه، إني لأتخشَّع كلما تغلغل خيالي في أسرار الحياة، وأُريدكم أن تتغلغلوا أنتم بخيالكم في هذه الأسرار؛ لتَشعروا بها، وتُحسوها، وتعيشوها، ولتَشحَذ خيالكم، وتُرهف أذواقكم، وتَملأَكم بروح الحياة، ومتى نفَذتم إلى هذه الأسرار، وانبلجَت أمامكم دروبُ الحياة بروَّادها الذين صنعوا تاريخها الصحيح - لا المكذوب - في أسفار تواريخ الآداب"[2].
[1] درس في الأدب؛ محمد الصباغ، مجلة دعوة الحق، العدد الأول، ربيع الأول، شتنبر (السنة الثانية 1378هـ - 1958م)، ص 54 - 55.
[2] درس في الأدب، ص 55.