رويدك يا هذا !
عبد الله بن راشد الراشد



أحْتسب في مقالي الذبَّ عن عِرْض مَن حفظ الله مكانتهم، وبوَّأهم منزلة سامية، لا يُوازيهم ولا يُساميهم فيها أحدٌ متى ما قاموا بمهمتهم، وحفظوا ميثاقَ الشرف فيها، ألاَ وهم العلماء العاملون، الذين يقضون بالحقِّ وبه يَعْدِلون، ومَن كان عملهم شاهدًا على صِدق علمهم، ومَن عمَّ خيرهم القاصي والداني، ومِن جميل صنعهم بالناس، وقُبْح صُنع الناس فيهم، ورَحِم الله ابن عساكر حينما نعَت العلماء بقوله: "لحومُ العلماء مسمومة، وعادَة الله في مُنتقصِيهم معلومة، فمَن رمَاهم بالثَّلْب، ابتلاه الله قبلَ موته بموت القلب".
أُقدِّم بين يدي ما أكتُب رِسالتين، أما الرسالة الأولى فسأبديها بجُرأة وشجاعة، وأمَّا الرسالة الثانية فسأبديها على استحياء وخجَل:
فالأولى: أبْعثُها لكلِّ مَن أراد إطلاق لسانه في الوقيعة في العلماء، والفَرْي في أعراضهم، ومجاراة السفهاء والمتهوِّكين، ممَّن لا يُقدِّر للعلماء قدْرَهم، ولا يعرِف لهم فضلهم، أقول له: اتّئِدْ واحذرْ مغبَّة فعلَك وشناعة مسلكِك، فأنت على شَفَا جُرف هارٍ يُوشِك أن يُدعثِرك في مكان سحيق، وتذكَّر أن أولَ مَن يخاصمك هو الله ربُّ العالمين، وأي خسارة ستبوء بها، وأي مهانة ستلبسك، وأي خِزي وعار سيكون ضجيعَك وظلَّك؟!
ومَن كان اللهُ خصمَه فأيَّ مددٍ يرتقب؛ (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)[الحج: 18]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: قال الله - عز وجل -: ((مَن عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرْب...))، ومَن له قِبَلٌ بمحاربة الله؟!
إنَّ أي إنسان لديه حظٌّ من الثقافة والمعرفة، أو تخصَّص في علم من العلوم التجريبية، تحترم العلمَ الذي يحمله وتُكِن له التقدير، وتُظهر له الحفاوة؛ لأنه مُنشغِل بما ينفع، فكيف إذا كان هذا العلمُ هو ميراثَ الأنبياء، ومشعل الهداية، ومِنْبرَ النور؟!
فإنَّ مَن يحمل العلم الشرعي ويعمل به، لخليقٌ أن يكون مسكنُه جفنَ العين، وسويداء القلب، وأوَّل مَن تعقد عليه الخنصر حين عدِّ الناس واستعراضهم.
ويأسف الإنسانُ حينما يسمع أو يقرأ لمَن يَصِمُهم بالنقيصة، ويغضُّ من أَقدارهم، ويلمزهم بالسبِّ والثلب.
إنَّ الجُرأة على العلماءِ هي جرأةٌ على الدِّين، واختراق لسياجِه، ومجاوزة حدِّ محظور، كان الأولى فيمَن تقحَّمه ألا يُقدِّم رِجلاً ويؤخِّر أخرى، بل كان الأولى به أن يَبرُكَ في مكانه مُظهرًا حاجتَه وفقره لنور الله الذي يُشعل فتيلَه، ويوقد زيتَه علماءُ عاملون.
أمَّا الرسالة الثانية: التي أبديها على استحياء، فهي للعلماء الذين شابتْ رؤوسهم في مدارسةِ العِلم، وتعليمه للأجيال، وسبب استحيائي مِن إبداء ما أُريد أن أبديَه هو أنني أمامَ قامات وجِبال، تتقاصَر أمامَهم هاماتُ الرجال، وأودُّ أن أقول لهم كلامًا هم علَّموني إياه، ولكنَّه شيءٌ محتبَس في نفسي فأُريد أن أزفره، إنَّ ما تواجهونه مِن هجوم وجرأة، وحماقة وطيش، قدْ واجهه مَن هو خيرٌ منكم وأكرم؛ أنبياء الله ورسله - عليهم الصلاة والسلام - وأنتم قد سلكتُم مسلكهم، وآثرتُم السيرَ على أثر خُطاهم، فلتصبِروا حتى يجمعَكم الله بهم، ولعلَّ الله أراد بكم خيرًا، بتطاول بعض الأسافل عليكم؛ ليَميزَ الله الخبيث من الطيب، ويجعل الله الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا، ولأنْ ينظر لكم الناس نظرة حسد خيرٌ مِن أن ينظروا لكم نظرةَ إشفاق، والضربات القويَّة تُهشِّم الزجاج، ولكنَّها تصقل الحديد، وستنكسر على صخرةِ صمودكم وثباتكم أمواجُ الزَّبد والغثاء؛ (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)[الرعد: 17]، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)[الشعراء: 227].
سدَّد الله خُطاكم، وأعْثر مَن أراد تعويقها، وجمعَكم على الهُدى والحق، وأراكم الحقَّ حقًّا ورزَقَنا وإيَّاكم اتباعه، والباطل باطلاً ورزقَنا اجتنابه، إنَّه خير مسؤول، وأعظم مأمول