العرض لا يبقى زمانين
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
فإن من القواعد التي استند إليها الأشاعرة في نفي صفات الله الاختيارية-الفعلية- قاعدة أن العرض لا يبقى زمانين .
وهذه القاعدة كما بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مخالفة للمعقول والمنقول , وقد ترتب على التزامهم بها تناقض في مسائل عدة .
توضيح معنى العرض
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : : ولفظ العرض في اللغة له معنى وهو ما يعرض ويزول كما قال تعالى:{ يأخذون عرض هذا الأدنى} وعند أهل الاصطلاح الكلامي قد يراد بالعرض ما يقوم بغيره مطلقا وقد يراد به ما يقوم بالجسم من الصفات ويراد به فى غير هذا الاصطلاح أمور أخرى .
مجموع الفتاوى (9|300)
كيف ظهرت هذه المقولة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فإن أئمة هؤلاء الطوائف صار كل منهم يلتزم ما يراه لازما ليطردها فيلتزم لوازم مخالفة للشرع والعقل فيجيء الآخر فيرد عليه ويبين فساد ما التزمه ويلتزم هو لوازم أخر لطردها فيقع أيضا في مخالفة الشرع والعقل .
فالجهمية التزموا نفي أسماء الله وصفاته إذ كانت الصفات أعراضا تقوم بالموصوف ولا يعقل موصوف بصفة إلا الجسم فإذا اعتقدوا حدوثه اعتقدوا حدوث كل موصوف بصفة والرب تعالى قديم فالتزموا نفي صفاته, وأسماؤه مستلزمة لصفاته ؛ فنفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى.
والمعتزلة استعظموا نفي الأسماء لما فيه من تكذيب القرآن تكذيبا ظاهر الخروج عن العقل والتناقض فإنه لا بد من التمييز بين الرب وغيره بالقلب واللسان فما لا يميز من غيره لا حقيقة له ولا إثبات وهو حقيقة قول الجهمية فإنهم لم يثبتوا في نفس الأمر شيئا قديما البتة ... والمقصود هنا أن المعتزلة لما رأوا الجهمية قد نفوا أسماء الله الحسنى استعظموا ذلك وأقروا بالأسماء ولما رأوا هذه الطريق توجب نفي الصفات نفوا الصفات فصاروا متناقضين فإن إثبات حي عليم قدير سميع بصير بلا حياة ولا علم ولا قدرة ولا حكمة ولا سمع ولا بصر مكابرة للعقل كإثبات مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وقائم بلا قيام ونحو ذلك من الأسماء المشتقة كأسماء الفاعلين والصفات المعدولة عنها ولهذا ذكروا في أصول الفقه أن صدق الاسم المشتق كالحي والعليم لا ينفك عن صدق المشتق منه كالحياة والعلم وذكروا النزاع مع من ذكروه من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم .
فجاء ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري والقلانسي : فقرروا أنه لا بد من إثبات الصفات متابعة للدليل السمعي والعقلي مع إثبات الأسماء وقالوا ليست أعراضا لأن العرض لا يبقى زمانين! وصفات الرب باقية سلكوا في هذا الفرق وهو أن العرض لا يبقى زمانين مسلكا أنكره عليهم جمهور العقلاء وقالوا إنهم خالفوا الحس وضرورة العقل وهم موافقون لأولئك على صحة هذه الطريقة طريقة الأعراض قالوا وهذه تنفى عن الله أن يقوم به حادث وكل حادث فإنما يكون بمشيئته وقدرته قالوا فلا يتصف بشيء من هذه الأمور لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يقوم به فعل اختياري يحصل بمشيئته وقدرته كخلق العالم وغيره بل منهم من قال لا يقوم به فعل بل الخلق هو المخلوق كالأشعري ومن وافقه ...
النبوات (46)
وجه الشبهة التي دعتهم إلى نفي الصفات الاختيارية
وقال أيضا : ومن هنا يظهر الأصل الثانى الذي تبنى عليه أفعال الرب تعالى اللازمة والمتعدية وهو أنه سبحانه هل تقوم به الأمور الاختيارية المتعلقة بقدرته ومشيئته أم لا؟ فمذهب السلف وأئمة الحديث وكثير من طوائف الكلام والفلاسفة جواز ذلك وذهب نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة والكلابية من مثبتة الصفات إلى امتناع قيام ذلك به .
أما نفاة الصفات فإنهم ينفون هذا وغيره ويقولون هذا كله أعراض والأعراض لا تقوم إلا بجسم والأجسام محدثة فلو قامت به الصفات لكان محدثا .
أما الكلابية فانهم يقولون نحن نقول تقوم به الصفات ولا نقول هى أعراض فإن العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب تبارك وتعالى عندنا باقية بخلاف الأعراض القائمة بالمخلوقات فإن الأعراض عندنا لا تبقى زمانين وأما جمهور العقلاء فنازعوهم في هذا قالوا بل السواد والبياض الذى كان موجودا من ساعة هو هذا السواد بعينه كما قد بسط فى غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على مقالات الطوائف في هذا الأصل . مجموع الفتاوى (5|537)
وقال رحمه الله : ونظير هذا أن يقول لو كان له علم وقدرة لكان محلا للأعراض وما كان محلا للأعراض فهو محل الآفات والعيوب فلا يكون قدوسا ولا سلاما لأن أهل اللغة قالوا العرض بالتحريك ما يعرض للإنسان من مرض ونحوه فلو جاز أن تقوم به هذه لكان تعالى وتقدس معيبا ناقصا وهو سبحانه مقدس عن ذلك إذ هو السلام القدوس .
فيقال لفظ العرض مشترك بين ما ذكر من معناه في اللغة وبين معناه في عرف أهل الكلام فإن معناه عند من يسمى العلم والقدرة والحركة والسكون ونحو ذلك
وآخرون يقولون هو ما لا يبقى زمانين ويقولون إن صفات الخالق باقية بخلاف ما يقوم بالمخلوقات من الصفات فإنها لا تبقى زمانين
والمقصود هنا أنه إذا قال لو قام به العلم والقدرة لكان عرضا وما قام به العرض قامت به الآفات كلام فيه تلبيس فإن إحدى المقدمتين باطلة
فإن لفظ العرض إن فسر بالصفة فالمقدمة الثانية باطلة
وإن فسر بما يعرض للإنسان من المرض ونحوه فالمقدمة الأولى باطلة ونظير ذلك أن يقول لو كان قد استوى على العرش لكان قد أحدث حدثا وقامت به الحوادث لأن الاستواء فعل حادث كان بعد أن لم يكن فلو قام به الاستواء لقامت به الحوادث ومن قامت به الحوادث فقد أحدث حدثا والله تعالى منزه عن ذلك لقول النبى صلى الله عليه وسلم لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا .ولقوله صلى الله عليه وسلم :وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة .
مجموع الفتاوى (5|216)
بيان مخالفة هذه القاعدة للمحسوس والمعقول والمنقول والرد عليها
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قال الجمهور وأما تفريق الكلابية بين المعانى التى لا تتعلق بمشيئته وقدرته والمعاني التي تتعلق بمشيئته وقدرته التي تسمى الحوادث ومنهم من يسمى الصفات أعراضا لأن العرض لا يبقي زمانين فيقال قول القائل أن العرض الذى هو السواد والبياض والطول والقصر ونحو ذلك لا يبقى زمانين قول محدث فى الإسلام لم يقله أحد من السلف والأئمة وهو قول مخالف لما عليه جماهير العقلاء من جميع الطوائف بل من الناس من يقول أنه معلوم الفساد بالاضطرار كما قد بسط فى موضع آخر .
وأما تسمية المسمي للصفات أعراضا فهذا أمر اصطلاحي لمن قاله من أهل الكلام ليس هو عرف أهل اللغة ولا عرف سائر أهل العلم والحقائق المعلومة بالسمع والعقل لا يؤثر فيها اختلاف الاصطلاحات بل يعد هذا من النزاعات اللفظية والنزاعات اللفظية أصوبها ما وافق لغة القرآن والرسول والسلف فما نطق به الرسول والصحابة جاز النطق به باتفاق المسلمين وما لم ينطقوا به ففيه نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه .
مجموع الفتاوى (12|319)
وقال : و كذلك الذين قالوا بأن العرض لا يبقى زمانين خالفوا الحس و ما يعلمه العقلاء بضرورة عقولهم فإن كل أحد يعلم أن لون جسده الذي كان لحظة هو هذا اللون و كذلك لون السماء و الجبال و الخشب و الورق و غير ذلك.
و مما ألجأهم إلى هذا ظنهم أنهما لو كانا باقيين لم يمكن إعدامهما ...
مجموع الفتاوى (16|275)
وقال ابن القيم رحمه الله : قال المثبتون جوابنا لكم بعين الجواب الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات فإنهم قالوا لكم لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة لكان محلا للأعراض ولزم التركيب والتجسيم والانقسام كما قلتم لو كان له وجه ويد وإصبع لزم التركيب والانقسام فحينئذ فما هو جوابكم لهؤلاء نجيبكم به .
فإن قلتم نحن نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضا ولا نسميها أعراضا فلا يستلزم تركيبا ولا تجسيما
قيل لكم ونحن نثبت الصفات التي أثبتها الله لنفسه إذ نفيتموها أنتم عنه على وجه لا يستلزم الأبعاض والجوارح ولا يسمى المتصف بها مركبا ولا جسما ولا منقسما
فإن قلتم :هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء والأبعاض .
قلنا لكم وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض .
فإن قلتم العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب باقية قديمة أبدية فليست أعراضا
قلنا :وكذلك الأبعاض هي ما جاز مفارقتها وانفصالها وانفكاكها وذلك في حق الرب تعالى محال فليست أبعاضا ولا جوارح فمفارقة الصفات الإلهية للموصوف بها مستحيل مطلقا في النوعين والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه
فإن قلتم إن كان الوجه عين اليد وعين الساق والإصبع فهو محال وإن كان غيره لزم التمييز ويلزم التركيب .
قلنا لكم : وإن كان السمع هو عين البصر وهما نفس العلم وهي نفس الحياة والقدرة فهو محال وإن تميزت لزم التركيب فما هو جواب لكم فالجواب مشترك فإن قلتم نحن نعقل صفات ليست أعراضا تقوم بغير جسم متحيز وإن لم يكن لها نظير في الشاهد .
قلنا لكم فاعقلوا صفات ليست بأبعاض تقوم بغير جسم وإن لم يكن له في الشاهد نظير ونحن لا ننكر الفرق بين النوعين في الجملة ولكن فرق غير نافع لكم في التفريق بين النوعين وأن أحدهما يستلزم التجسيم والتركيب والآخر لا يستلزمه ولما أخذ هذا الإلزام بحلوق الجهمية قالوا الباب كله عندنا واحد ونحن ننفي الجميع
فتبين أنه لا بد لكم من واحد من أمور ثلاثة:
إما هذا النفي العام والتعطيل المحض
وإما أن تصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ولا تتجاوزوا القرآن والحديث وتتبعوا في ذلك سبيل السلف الماضين الذين هم أعلم الأمة بهذا الشأن نفيا وإثباتا وأشد تعظيما لله وتنزيها له عما لا يليق بجلاله .
الصواعق (1|229)
من المسائل التي ترتبت على هذه القاعدة الفاسدة
1- قولهم النبي الآن ليس نبيا الآن لأن العرض لا يبقى زمانين
2-قال ابن القيم رحمه الله : فصل وأما قول من قال مستقرها العدم – أي الروح –المحض
فهذا قول من قال إنها عرض من أعراض البدن وهو الحياة وهذا قول ابن الباقلانى ومن تبعه وكذلك قال أبو الهذيل العلاف النفس عرض من الأعراض ولم يعينه بأنه الحياة كما عينه ابن الباقلانى ثم قال هي عرض كسائر أعراض الجسم وهؤلاء عندهم أن الجسم إذا مات عدمت روحه كما تقدم وسائر أعراضه المشروطة بالحياة ومن يقول منهم أن العرض لا يبقى زمانين كما يقوله أكثر الأشعرية فمن قولهم إن روح الإنسان الآن هي غير روحه قبل وهو لا ينفك يحدث له روح ثم تغير ثم روح ثم تغير هكذا أبدا فيبدل له ألف روح فأكثر في مقدار ساعة من الزمان فما دونها فإذا مات فلا روح تصعد إلى السماء وتعود إلى القبر وتقبضها الملائكة ويستفتحون لها أبواب السموات ولا تنعم ولا تعذب وإنما ينعم ويعذب الجسد إذا شاء الله تنعيمه أو تعذيبه رد إليه الحياة في وقت يريد نعيمه أو عذابه وإلا فلا أرواح هناك قائمة بنفسها البتة
وقال بعض أرباب هذا القول ترد الحياة إلى عجب الذنب فهو الذي يعذب وينعم وحسب وهذا قول يرده الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقول والفطن والفطرة وهو قول من لم يعرف روحه فضلا عن روح غيره ..
ولما أورد ذلك على ابن الباقلانى لج في الجواب وقال يخرج على هذا أحد وجهين إما بأن يوضع عرض من الحياة في أول جزء من أجزاء الجسم وإما أن يخلق لتلك الحياة والنعيم والعذاب جسد آخر .
وهذا قول في غاية الفساد من وجوه كثيرة؛ أي قول أفسد من قول من يجعل روح الإنسان عرضا من الأعراض تتبدل كل ساعة ألوفا من المرات فإذا فارقه هذا العرض لم يكن بعد المفارقة روح تنعم ولا تعذب ولا تصعد ولا تنزل ولا تمسك ولا ترسل فهذا قول مخالف للعقل ونصوص الكتاب والسنة والفطرة وهو قول من لم يعرف نفسه وسيأتي ذكر الوجوه الدالة على بطلان هذا القول في موضعه من هذا الجواب إن شاء الله وهو قول لم يقل به أحد من سلف الأمة ولا من الصحابة والتابعين ولا أئمة الإسلام .
الروح(111)