تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: أفلا ينظرون

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي أفلا ينظرون

    النظر في آيات الله - نوعان نظر اليها بالبصر الظاهر
    فيرى مثلا زرقة السماء ونجومها وعلوها وسعتها وهذا نظر يشارك الانسان فيه غيره من الحيوانات وليس هو المقصود -
    الأمر الثاني - ان يتجاوز هذا الى النظر بالبصيرة الباطنة - فتفتح له ابواب السماء فيجول في اقطارها وملكوتها وبين ملائكتها ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته ويرى السموات السبع والارضين السبع بالنسبة اليه كحلقه ملقاة بأرض فلاة ويرى الملائكة حافين من حوله لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير والامر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها الا ربها ومليكها فينزل الامر باحياء قوم وإماتة آخرين وإعزاز قوم وإذلال آخرين واسعاد قوم وشقاوة آخرين وإنشاء ملك وسلب ملك وتحويل نعمة من محل الى محل وقضاء الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها من جبر كسر وإغناء فقير وشفاء مريض وتفريج كرب ومغفرة ذنب وكشف ضر ونصر مظلوم وهداية حيران وتعليم جاهل ورد آبق وأمان خائف وإجارة مستجير ومدد لضعيف وإغاثة الملهوف وإعانة لعاجز وانتقام من ظالم وكف العدوان فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة تنفذ في أقطار العوالم لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلافها وتباينها واتحاد وقتها ولا يتبرم بالحاح الملحين ولا تنقص ذرة من خزائنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيبته خاشعا لعظمته عان لعزته فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها الى يوم المزيد فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه وهذا من اعظم آيات الله وعجائب صنعه فياله من سفر ما أبركه واروحه واعظم ثمرته وربحه واجل منفعته واحسن عاقبته سفر هو حياة الارواح ومفتاح السعادة وغنيمته العقول والالباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب [مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - بن القيم]

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفلا ينظرون

    إذا نظرت الى الارض وكيف خلقت رأيتها من اعظم آيات فاطرها
    وبديعها خلقها سبحانه فراشا ومهادا وذللها لعباده وجعل فيه ارزاقهم واقواتهم ومعايشهم وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم وارساها بالجبال فجعلها اوتادا تحفظها لئلا تميد بهم
    ووسع اكنافها ودحاها فمدها وبسطها وطحاها فوسعها من جوانبها وجعلها كفاتا للاحياء تضمهم على ظهرها ما داموا احياء وكفاتا للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا فظهرها وطن للاحياء وبطنها وطن للاموات وقد اكثر تعالى من ذكر الارض في كتابه ودعا عباده الى النظر اليها والتفكر في خلقها فقال تعالى والارض فرشناها فنعم الماهدون الله الذي جعل لكم الارض قرارا الذي جعل لكم الارض فراشا افلا ينظرون الى الابل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت وإلى ارض كيف سطحت ان في السموات والارض لايات للؤمنين وهذا كثير في القرآن فانظر اليها وهي ميتة هامدة خاشعة فإذا انزلنا عليها الماء اهتزت فتحركت وربت فارتفعت واخضرت وانبتت من كل زوج بهيج فاخرجت عجائب النبات في المنظر والمخبر بهيج للناظرين كريم للمتناولين فأخرجت الاقوات على اختلافها وتباين مقاديرها واشكالها والوانها ومنافعها والفواكه والثمار وانواع الادوية ومراعي الدواب والطير ثم انظر قطعها المتجاورات وكيف ينزل عليها ماء واحدا فتنبت الازواج المختلفة المتباينة في اللون والشكل والرائحة والطعم والمنفعة واللقاح واحد والام واحدة كما قال تعالى وفي الارض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل ان في ذلك لايات لقوم يعقلون فكيف كانت هذه الاجنة المختلفة مودعة في بطن هذه الام وكيف كان حملها من لقاح واحد صنع الله الذي اتقن كل شيء لا إله إلا هو ولولا ان هذا من اعظم آياته لما نبه عليه عباده وهداهم الى التفكير فيه قال الله تعالى وترى الارض هامدة فإذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج ذلك بان الله هو الحق وانه يحيي الموتى وانه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور فجعل النظر في هذه الاية وما قبلها من خلق الجنين دليلا على هذه النتائج الخمس مستلزما للعلم بها ثم انظر كيف احكم جوانب الارض بالجبال الراسيات الشوامخ الصم الصلاب وكيف نصبها فأحسن نصبها وكيف رفعها وجعلها اصلب اجزاء الارض لئلا تضمحل علىتطاول السنين وترادف الامطار والرياح بل اتقن صنعها واحكم وضعها واودعها من المنافع والمعادن والعيون ما اودعها ثم هدى الناس الى استخراج تلك المعادن منها والهمهم كيف يصنعون منها النقود والحليوالزينة واللباس والسلاح وآلة المعاش على اختلافها ولولا هدايته سبحانه لهم الى ذلك لما كان لهم علم شيء منه ولا قدرة عليه ومن آياته الباهرة هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والارض يدرك بحس اللمس عند هبوبه يدرك جسمه ولا يرى شخصه فهو يجرى بين السماء والارض والطير مختلفة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء وتضطرب جوانبه وأمواجه

    عند هيجانه كما تضطرب امواج البحر فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقحا للسحاب يلقحه بحمل الماء كما يلقح الذكر الانثى بالحمل وتسمى رياح الرحمة المبشرات والنشر والذاريات والمرسلات والرخاء واللواقع ورياح العذاب العاصف والقاصف وهما في البحر والعقيم والصرصر وهما في البر وإن شاء حركه بحركة العذاب فجعله عقيما وأودعه عذابا اليما وجعله نقمة على من يشاء من عباده فيجعله صرصرا ونحسا وعاتيا ومفسدا لما يمر عليه وهي مختلفة في مهابها فمنها صبا ودبور وجنوب وشمال وفي منفعتها وتاثيرها اعظم اختلاف فريح لينة رطبة تغذى النبات وابدان الحيوان واخرى تجففه واخرى تهلكه وتعطبه وأخرى تشده وتصلبه وأخرى توهنه وتضعفه ولهذا يخبر سبحانه عن رياح الرحمة بصيغة الجمع لاختلاف منافعها وما يحدث منها فريح تثير السحاب وريح تلقحه وريح تحمله على متونها وريح تغذى النبات ولما كانت الرياح مختلفة في مهابها وطبائعها جعل لكل ريح ريحا مقابلتها تكسر سورتها وحدتها ويبقى لينها ورحمتها فرياح الرحمة متعددة وأما ريح العذاب فإنه ريح واحدة ترسل من وجه واحد لاهلاك ما ترسل باهلاكه فلاتقوم لها ريح اخرى تقابلها وتكسر سورتها وتدفع حدتها بل تكون كالجيش العظيم الذي لا يقاومه شيء يدمر كل ما اتى عليه وتأمل حكمة القرآن وجلالته وفصاحته كيف طرد هذا في البر وأما في البحر فجاءت ريح الرحمة فيه بلفظ الواحد كقوله تعالى هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان فإن السفن إنما تسير بالريح الواحدة التي تأتي من وجه واحد فإذا اختلفت الرياح على السفن وتقابلت لم يتم سيرها فالمقصود منها في البحر خلاف المقصود منها في البر إذ المقصود في البحر ان تكون واحدة طيبة لا يعارضها شيء فأفردت هنا وجمعت في البر ثم انه سبحانه اعطى هذا المخلوق اللطيف الذي يحركه اضعف المخلوقات ويخرقه من الشدة والقوة والباس ما يقلق به الاجسام الصلبة القوية الممتنعة ويزعجها عن اماكنها ويفتتها ويحملها على متنه فانظر اليه مع لطافته وخفته إذا دخل في الزق مثلا وامتلأ به ثم وضع عليه الجسم الثقيل كالرجل وغيره وتحامل عليه ليغمسه في الماء لم يطق ويضع الحديد الصلب الثقيل على وجه الماء فيرسب فيه فامتنع هذا اللطيف من قهر الماء له ولم يمتنع منه القوي الشديد وبهذه الحكمة امسك الله سبحانه السفن على وجه الماء مع ثقلها وثقل ما تحويه وكذلك كل مجوف حل فيه الهواء فإنه لا يرسب فيه لان الهواء يمتنع من الغوس في الماء فتتعلق به السفينة المشحونة الموقرة فتأمل كيف استجار هذا الجسم الثقيل العظيم بهذا اللطيف الخفيف وتعلق به حتى امن من الغرق وهذا كالذي يهوى في قليب فيتعلق بذيل رجل قوي شديد يمتنع عن السقوط في القليب فينجو بتعلقه به فسبحان من علق هذا المركب العظيم الثقيل

    بهذا الهواء اللطيف من غير علاقة ولاعقدة تشاهد ومن آياته السحاب المسخر بين السماء والارض كيف ينشئه سبحانه بالرياح فتثيره كسيفا ثم يؤلف بينه ويضم بعضه الى بعض ثم تلقحه الريح وهي التي سماها سبحانه لواقح ثم يسوقه على متونها الى الارض المحتاجة اليه فإذا علاها واستوى عليها اهراق ماءه عيها فيرسل سبحانه عليه الريح وهو في الجو فتذروه وتفرقه لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه اقلع عنها وفارقها فهي روايا الارض محمولة على ظهور الرياح وفي الترمذي وغيره ان النبي صلى الله عليه و سلم لما رأى السحاب قال هذه روايا الارض يسوقها الله الى قوم لا يشكرونه ولا يذكرونه فالسحاب حامل رزق العباد وغيرهم التي عليها ميرتهم وكان الحسن إذا رأى السحاب قال في هذا والله رزقكم ولكنكم تحرموه بخطاياكم وذنوبكم وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال بينا رجل بفلاة من الارض إذ سمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فمر الرجل مع السحابة حتى اتت على حديقة فلما توسطتها افرغت فيها ماءها فإذا برجل معه مسحاة يسحي الماء بها فقال ما اسمك يا عبد الله قال فلان للاسم الذي سمعه في السحابة وبالجملة فإذا تأملت السحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جو صاف لا كدورة فيه وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء وهو مع لينه ورخاوته حامل للماء الثقيل بين السماء والأرض إلى ان يأذن له ربه وخالقه في ارسال ما معه من الماء فيرسله وينزله منه مقطعا بالقطرات كل قطرة بقدر مخصوص اقتضته حكمته ورحمته فيرش السحاب الماء على الارض رشا ويرسله قطرات مفصلة لاتختلط قطرة منها باخرى ولا يتقدم متأخرها ولا يتأخر متقدمها ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمزج بها بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الارض قطرة قطرة قد عينت كل قطرة منها لجزء من الارض لا تتعداه إلى غيره فلو اجتمع الخلق كلهم على ان يخلقوا منها قطرة واحدة او يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقا للعباد والدواب والطير والذر والنمل يسوقه رزقا للحيوان الفلاني في الارض الفلانية بجانب الجبل الفلاني فيصل اليه على شدة من الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا ثم كيف اودعه في الارض ثم اخرج به انواع الاغذية والادوية والاقوات فهذا النبات يغذي وهذا يصلح الغذاء وهذا ينفذه وهذا يضعف وهذا اسم قاتل وهذا شفاء من السم وهذا يمرض وهذا دواء من المرض وهذا يبرد وهذا يسخن وهذا إذا حصل في المعدة قمع الصفراء من اعماق العروق وهذا إذا حصل فيها ولد الصفراء واستحال اليها وهذا يدفع البلغم والسوداء وهذا يستحيل اليهما

    وهذا يهيج الدم وهذا يسكنه وهذا ينوم وهذا يمنع النوم وهذا يفرح وهذا يجلب الغنم الى غير ذلك من عجائب النبات التي لا تكاد تخلو ورقة منه ولاعرق ولا ثمرة من منافع تعجز عقول البشر عن الاحاطة بها وتفصيلها وانظر الى مجاري الماء في تلك العروق الرقيقة الضئيلة الضعيفة التي لا يكاد البصر يدركها إلا بعد تحديقه كيف يقوى قسره واجتذابه من مقره ومركزه الى فوق ثم ينصرف في تلك المجاري بحسب قبولها وسعتها وضيقها ثم تتفرق وتتشعب وتدق الى غاية لا ينالها البصر ثم انظر الى تكون حمل الشجرة ونقلته من حال الى حال كتنقل احوال الجنين المغيب عن الابصار ترى العجب العجاب فتبارك الله رب العالمين واحسن الخالقين بينا تراها حطبا قائما عاريا لا كسوة عليها إذ كاسها ربها وخالقها من الزهر احسن كسوة ثم سلبها تلك السكوة وكساها من الورق كسوة هي اثبت من الاولى ثم اطلع فيها حملها ضعيفا ضئيلا بعد ان اخرج ورقها صيانة وثوبا لتلك الثمرة الضعيفة لتستجب به من الحر والبرد والافات ثم ساق الى تلك الثمار رزقها وغذاها في تلك العروق والمجاري فتغذت به كما يتغذى الطفل بلبان امه ثم رباها ونماها شيئا فشيئا حتى استوت وكملت وتناهى ادراكها فأخرج ذلك الجني اللذيذ اللين من تلك الحطبة الصماء هذا وكم لله من آية في كل ما يقع الحس عليه ويبصره العباد وما لايبصرونه تفنى الاعمار دون الاحاطة بها وجميع تفاصيلها
    ومن آياته سبحانه تعالى
    الليل والنهار وهما من اعجب آياته
    وبدائع مصنوعاته ولهذا يعيد ذكرهما في القرآن ويبديه كقوله تعالى ومن آياته الليل والنهار وقوله وهو الذي جعل الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا وقوله عز و جل وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون وقوله عز و جل الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا وهذا كثير في القرآن فانظر الى هاتين الايتين وما تضمنتاه من العبر والدلالات على ربوبية الله وحكمته كيف جعل الليل سكنا ولباسا يغشى العالم فتسكن فيه الحركات وتأوى الحيوانات الى بيوتها والطير الى اوكارها وتستجم فيه النفوس وتستريح من كد السعي والتعب حتى إذا اخذت منه النفوس راحتها وسباتها وتطلعت الى معايشها وتصرفها جاء فالق الاصباح سبحانه وتعالى بالنهار يقدم جيشه بشير الصباح فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق وكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون فانتشر الحيوان وتصرف في معاشه ومصالحه وخرجت الطيور من اوكارها فياله من معاد ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الاكبر وتكرره


    ودوام مشاهدة النفوس له بحيث صار عادةومألفا منعها من الاعتبار به والاستدلال به على النشأة الثانية وإحياء الحلق بعد موتهم ولا ضعف في قدرة القادر التام القدرة ولا قصور في حكمته ولا في علمه ويوجب تخلف ذلك ولكن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهذا ايضا من اياته الباهرة ان يعمى عن هذه الايات الواضحة البينة من شاء من خلقه فلا يهتدي بها ولا يبصرها لمن هو واقف في الماء الى حلقه وهويستغيث من العطش وينكر وجود الماء وبهذا وأمثاله يعرف الله عز و جل ويشكر ويحمد ويتضرع اليه ويسأل

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفلا ينظرون

    ومن آياته وعجائب مصنوعاته البحار المكتنفة لاقطار الارض التي هي
    خلجان من البحر المحيط الاعظم بجميع الارض حتى ان المكشوف من الارض والجبال والمدن بالنسبة الى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم وبقية الارض مغمورة بالماء ولولا امساك الرب تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته وحبسه الماء لطفح على الارض وعلاها كلها هذا طبع الماء وهذا حار عقلاء الطبيعيين في سبب بروز هذا الجزء من الارض مع اقتضاء طبيعة الماء للعلو عليه وإن يغمره ولم يجدوا ما يحيلون عليه ذلك إلا الاعتراف بالعناية الازلية والحكمة الالهية التي اقتضت ذلك العيش الحيوان الارضي في الارض وهذا حق ولكنه يوجب الاعتراف بقدرة الله وإرادته ومشيئته وعلمه وحكمته وصفات كماله ولا محيص عنه وفي مسند الامام احمد عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال ما من يوم الا والبحر يستأذن ربه ان يغرق بني آدم وهذا احدالاقوال في قوله عز و جل والبحر المسجور انه المحبوس حكاه ابن عطية وغيره قالوا ومنه ساجور الكلب وهي القلادة من عود او حديد التي تمسكه وكذلك لولا ان الله يحبس البحر ويمسكه لفاض على الارض فالارض في البحر كبيت في جملة الارض واذا تأملت عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف اجناسها وأشكالها ومقاديرها ومنافعها ومضارها وألوانها حتى ان فيها حيوانا امثال الجبال لا يقوم له شيء وحتى ان فيه من الحيوانات ما يرى ظهورها فيظن انها جزيرة فينزل الركاب عليها فتحس بالنار إذا اوقدت فتتحرك فيعلم انه حيوان وما من صنف من اصناف حيوان البر إلا وفي البحر امثاله حتى الانسان والفرس والبعير واصنافها وفيه اجناس لا يعهد لها نظير في البر اصلا هذا مع ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان فترى اللؤلؤة كيف اودعت في كن كالبيت لها وهي الصدفة تكنها وتحفظها ومنه اللؤلؤ المكنون وهو الذي في صدفه لم تمسه الايدي وتأمل كيف نبت المرجان في قعره في الصخرة الصماء تحت الماء على هيئة الشجر هذا مع ما فيه من العنبر واصناف النفائش
    التي يقذفها البحر وتستخرج منه ثم انظر الى عجائب السفن وسيرها في البحر تشقه وتمخره بلا قائد يقودها ولا سائق يسوقها وإنما قائدها وسائقها الرياح التي يسخرها الله لاجرائها فإذا حبس عنها القائد والسائق ظلت راكدة على وجه الماء قال الله تعالى ومن آياته الجواري في البحر كالاعلام ان يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لايات لكل صبار شكور وقال الله تعالى الله الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون فما اعظمها من آية وابينها من دلالة ولهذا يكرر سبحانه ذكرها في كتابه كثيرا وبالجملة فعجائب البحر وآياته اعظم وأكثر من ان يحصيها الا الله سبحانه وقال الله تعالى إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اذن واعية
    فصل ومن آياته سبحانه خلق الحيوان على اختلاف صفاته واجناسه
    واشكاله ومنافعه وألوانه وعجائبه المودعة فيه فمنه الماشي على بطنه ومنه الماشي على رجليه ومنه الماشي على اربع ومنه ما جعل سلاحه في رجليه وهو ذو المخالب ومنه ما جعل سلاحه المناقير كالنسر والرخم والغراب ومنه ما سلاحه الاسنان ومنه ما سلاحه الصياصي وهي القرون يدافع بها عن نفسه من يروم اخذه ومنه ما اعطى منها قوة يدفع بها عن نفسه لم يحتج الى سلاح كالاسد فإن سلاحه قوته ومنه ما سلاحه في ذرقه وهو نوع من الطير إذا دنا منه من يريد اخذه ذرق عليه فأهلكه ونحن نذكر هنا فصولا منثورة من هذا الباب مختصرة وإن تضمنت بعض التكرار وترك الترتيب في هذا المقام الذي هو من اهم فصول الكتاب بل هو لب هذا القسم الاول ولهذا يكرر في القرآن ذكر آياته ويعيدها ويبديها ويأمر عباده بالنظر فيها مرة بعد أخرى فهو من اجل مقاصد القرآن قال الله تعالى قل انظروا ماذا في السموات والارض وقال تعالى إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب وقال تعالى افلا ينظرون الى الابل كيف خلقت والى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت والى الارض كيف سطحت وقال الله تعالى اولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وقال تعالى ان الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ذلكم الله فاتى تؤفكون فالق الاصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الايات لقوم يفقهون وهو الذي انزل من السماء ماء فاخرجنا به نبات
    كل شيء

    فأخرجنا منه خضرا فنخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من اعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا الى ثمره إذا اثمر وينعه فأمر سبحانه بالنظر اليه وقت خروجه وإثماره ووقت نضجه وإدراكه يقال اينعت الثمار إذا نضجت وطابت لان في خروجه من بين الحطب والورق آية باهرة وقدرة بالغة ثم في خروجه من حدالعفوصة واليبوسة والمرارة والحموضة الى ذلك اللون المشرق الناصع والطعم الحلو اللذيذ الشهي لايات لقوم يؤمنون وقال بعض السلف حق على الناس ان يخرجوا وقت إدراك الثمار وينعها فينظروا اليها ثم تلي انظروا الى ثمره إذا اثمر وينعه ولو اردنا نستوعب ما في آيات الله المشهورة من العجائب والدلالات الشاهدة لله بان الله الذي لا إله إلا هو الذي ليس كمثله شيء وإنه الذي لا أعظم منه ولا أكمل منه ولا ابر ولا ألطف لعجزنا نحن والاولون والاخرون عن معرفة أدنى عشر معشار ذلك ولكن مالا يدرك جميعه لا ينبغي ترك التنبيه على بعض ما يستدل به على ذلك وهذا حين الشروع في الفصول

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفلا ينظرون

    تامل العبرة في موضع هذا العالم وتاليف أجزائه ونظمها على احسن
    نظام وأدلة على كمال قدرة خالقه وكمال علمه وكمال حكمته وكمال لطفه فإنك إذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع آلاته ومصالحه وكل ما يحتاج اليه فالسماء سقفه المرفوع عليه والارض مهاد وبساط وفراش ومستقر للساكن والشمس والقمر سرجان يزهران فيه والنجوم مصابيح له وزينة وأدلة للمنتقل في طرق هذه الدار والجواهر والمعادنمخزونة فيه كالذخائر والحواصل المعدة المهيأة كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له وضروب النبات مهيأ لمآربه وصنوف الحيوان مصروفة لمصالحه فمنها الركوب ومنها الحلوب ومنها الغذاء ومنها اللباس والامتعة والالات ومنها الحرس الذي وكل بحرس الانسان يحرسه وهو نائم وقاعد مما هو مستعد لاهلاكه وأذاه فلولا ما سلط عليه من ضده لم يقر للانسان قرار بينهم وجعل الانسان كالملك المخول في ذلك المحكم فيه المتصرف بفعله وأمره ففي هذا اعظم دلالة واوضحها على ان العالم مخلوق لخالق حكيم قدير عليم قدره احسن تقدير ونظمه احسن نظام وان الخالق له يستحيل ان يكون اثنين بل الاله واحد لا إله إلا هو تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا وإنه لو كان في السموات والارض إله غير الله لفسد امرهما واختل نظامهما وتعطلت مصالحهما وإذا كان البدن يستحيل ان يكون المدبر له روحان متكافئان متساويان ولو كان كذلك لفسد وهلك مع إمكان ان يكون تحت قهر ثالث هذا من المحال في اوائل العقول وبداية الفطر فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ما اتخذ الله من ولدوما كان معه من اله إذا لذهب
    كل اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون فهذان برهانان يعجز الاولون والاخرون ان يقدحوا فيهما بقدح صحيح او ياتوا بأحسن منهما ولا يعترض عليهما إلا من لم يفهم المراد منهما ولولا خشية الاطالة لذكرنا تقديرهما وبيان ما تضمناه من السر العجيب والبرهان الباهر وسنفرد إن شاء الله كتاب مستقلا لادلة التوحيد
    فصل فتأمل خلق السماء وارجع البصر فيها كرة بعد كرة كيف تراها من
    اعظم الايات في علوها وارتفاعها وسعتها وقرارها بحيث لا تصعد علوا كالنار ولا تهبط نازلة كالاجسام الثقيلة ولا عمد تحتها وعلاقة فوقها بل هي ممسوكة بقدرة الله الذي يمسك السموات والارض ان تزولا ثم تأمل استواءها واعتدالها فلا صدع فيها ولا فطر ولا شق ولا أمت ولا عوج ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو احسن الالوان واشدها موافقة للبصر وتقوية له حتى ان من اصابه شيء اضر ببصره يؤمر بادمان النظر الى الخضرة وما قرب منها الى السواد وقال الاطباء ان من كل بصره فإنه من دوائه ان يديم الاطلاع الى اجانة خضراء مملؤءة ماء فتأمل كيف جعل اديم السماء بهذا اللون ليمسك الابصار المتقلبة فيه ولا ينكأ فيها بطول مباشرتها له هذا بعض فوائد هذا اللون والحكمة فيه اضعاف ذلك
    فصل ثم تأمل حال الشمس والقمر في طلوعهما وغروبهما لاقامة دولتي
    الليل والنهار ولولا طلوعهما لبطل امر العالم وكيف كان الناس يسعون في معائشهم ويتصرفون في امورهم والدنيا مظلمة عليهم وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقد النور ثم تأمل الحكمة في غروبهما فإنه لولا غروبهما لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع فرط الحاجة الى السبات وجموم الحواس وانبعاث القوى الباطنة وظهور سلطانها في النوم المعين على هضم الطعام وتنفيذ الغذاء الى الاعضاء ثم لولا الغروب لكانت الارض تحمي بدوام شروق الشمس واتصال طلوعها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان ونبات فصارت تطلع وقتا بمنزلة السراج يرفع لاهل البيت ليقضوا حوائجهم ثم تغيب عنهم مثل ذلك ليقروا ويهدؤا وصار ضياء النهار مع ظلام الليل وحر هذا مع برد هذا مع تضادهما متعاونين متظاهرين بهما تمام مصالح العالم وقد اشار تعالى الى هذا المعنى ونبه عباده عليه بقوله عز و جل قل ارأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا الى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم ان جعل الله عليكم النهار


    سرمدا الى يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه افلا تبصرون خص سبحانه النهار بذكر البصر لانه محله وفيه سلطان البصر وتصرفه وخص الليل بذكر السمع لان سلطان السمع يكون بالليل وتسمع فيه الحيوانات مالا تسمع في النهار لانه وقت هدوء الاصوات وخمود الحركات وقوة سلطان السمع وضعف سلطان البصر والنهار بالعكس فيه قوة سلطان البصر وضعف سلطان السمع فقوله افلا تسمعون راجع إلى قوله قل ارايتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا الى يوم القيامة من اله غير الله يأتيكم بضياء به وقوله أفلا تبصرون راجع الى قوله قل أرايتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا الى يوم القيامة وقال تعالى تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد ان يذكر او أراد شكورا فذكر تعالى خلق الليل والنهار وإنهما خلفة أي يخلف احدهما الاخر لا يجتمع معه ولو اجتمع معه لفاتت المصلحة بتعاقبهما واختلافهما وهذا هو المراد باختلاف الليل والنهار كون كل واحد منهما يخلف الاخر لا يجامعه ولا يحاذيه بل يغشى احدهما صاحبه فيطلبه حثيثا حتىيزيله عن سلطانه ثم يجيء الاخر عقيبه فيطلبه حثيثا حتى يهزمه ويزيله عن سلطانه فهما دائما يتطالبان ولا يدرك احدهما صاحبه
    فصل ثم تأمل بعد ذلك احوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لاقامة
    هذه الازمنة والفصول وما فيها من المصالح والحكم إذ لو كان الزمان كله فصلا واحدا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه فلو كان صيفا كله لفاتت منافع مصالح الشتاء ولو كان شتاء لفاتت مصالح الصيف وكذلك لو كان ربيعا كله او خريفا كله ففي الشتاء تغور الحرارة في الاجواف وبطون الارض والجبال فتتولد مواد الثمار وغيرها وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء فيحصل السحاب والمطر والثلج والبرد الذي به حياة الارض وأهلها واشتداد أبدان الحيوان وقوتها وتزايد القوى الطبيعية واستخلاف ما حللته حرارة الصيف من الابدان وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيظهر النبات ويتنور الشجر بالزهر ويتحرك الحيوان للتناسل وفي الصيف يحتد الهواء ويسخن جدا فتنضج الثمار وتنحل فضلات الابدان والاخلاط التي انعقدت في الشتاء وتغور البرودة وتهرب الى الاجواف ولهذا تبرد العيون والابار ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الاطعمة الغليظة لانها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون فلما جاء الصيف خرجت الحرارة الى ظاهر الجسد وغارت البرودة فيه فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان وصفا الهواء وبرد فانكسر ذلك السموم وجعله الله بحكمته برزخا بين سموم الصيف وبرد الشتاء لئلا يتنقل الحيوان وهلة واحدة من


    الحر الشديد الى البرد الشديد فيجد اذاه ويعظم ضرره فإذا انتقل اليه بتدريج وترتب لم يصعب عليه فإنه عند كل جزء يستعد لقبول ما هو اشد منه حتى تأتي جمرة البرد بعد استعداد وقبول حكمة بالغة وآية باهرة وكذلك الربيع برزخ بين الشتاء والصيف ينتقل فيه الحيوان من برد هذا الى حر هذا بتدريج وترتيب فتبارك الله رب العالمين واحسن الخالقين
    فصل ثم تأمل حال الشمس والقمر وما اودعاه من النور والاضاءة وكيف
    جعل لهما بروجا ومنازل ينزلانها مرحلة بعد مرحلة لاقامة دولة السنة وتمام مصالح حساب العالم الذي لا غناء لهم في مصالحهم عنه فبذلك يعلم حساب الاعمار والاجال المؤجلة للديون والاجارات والمعاملات والعدد وغير ذلك فلولا حلوك الشمس والقمر في تلك المنازل وتنقلهما فيها منزلة بعدمنزلة لم يعلم شيء من ذلك وقد نبه تعالى على هذا في غير موضع من كتابه كقوله هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك الا بالحق يفصل الايات لقوم يعلمون وقال تعالى وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب
    فصل ثم تأمل الحكمة في طلوع الشمس على العالم كيف قدره العزيز
    العليم سبحانه فإنها لو كانت تطلع في موضع من السماء فتقف فيه ولا تعدوه لما وصل شعاعها الى كثير من الجهات لان ظل احد جوانب كرة الارض يحجبها عن الجانب الاخر وكان يكون الليل دائما سرمدا على من لم تطلع عليهم والنهار سرمدا على من هي طالعة عليهم فيفسد هؤلاء وهؤلاء فاقتضت الحكمة الالهية والعناية الربانية ان قدر طلوعها من اول النهار من المشرق فتشرق على ما قابلها من الافق الغربي ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي الى الغرب فتشرق على ما استتر عنها في اول النهار فيختلف عندهم الليل والنهار فتنتظم مصالحهم
    فصل ثم تأمل الحكمة في مقادير الليل والنهار تجدها على غاية
    المصلحة والحكمة وان مقدار اليوم والليلة لو زاد على ما قدر عليه او نقص لفاتت المصلحة واختلفت الحكمة بذلك بل جعل مكيالها اربعة وعشرين ساعة وجعلا يتقارضان الزيادة والنقصان بينهما فما يزيد في احدهما من الاخر يعود الاخر فيسترده منه قال الله تعالى يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وفيه قولان احدهما ان المعنى يدخل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك وضياء هذا في مكان ظلمة الاخر فيدخل كل واحد منهما في موضع صاحبه وعلى هذا فهي عامة في كل ليل ونهار والقول الثاني


    انه يزيد في احدهما ما ينقصه من الاخر فما ينقص منه يلج في الاخر لا يذهب جملة وعلى هذا فالاية خاصة ببعض ساعات كل من الليل والنهار في غير زمن الاعتدال فهي خاصة في الزمان وفي مقدار ما يلج في احدهما من الاخر وهو في الاقاليم المعتدلة غاية ما تنتهي الزيادة خمس عشرة ساعة فيصير الاخر تسع ساعات فإذا زاد على ذلك انحرف ذلك الاقليم في الحرارة او البرودة الى ان ينتهي الى حد لايسكنه الانسان ولا يتكون فيه النبات وكل موضع لا تقع عليه الشمس لا يعيش فيه حيوان ولا نبات لفرط برده ويبسه وكل موضع لاتفارقه كذلك لفرط حره ويبسه والمواضع التي يعيش فيها الحيوان والنبات هي التي تطلع عليها الشمس وتغيب وأعدلها المواضع التي تتعاقب عليها الفصول الاربعة ويكون فيها اعتدالان خريفين وربيعين
    فصل ثم تأمل إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل والحكمة في ذلك
    فإن الله تعالى اقتضت حكمته خلق الظلمة لهدو الحيوان وبرد الهواء على الابدان والنبات فتعادل حرارة الشمس فيقوم النبات والحيوان فلما كان ذلك مقتضى حكمته شاب الليل بشيء من الانوار ولم يجعله ظلمة داجية حندسا لا ضوء فيه اصلا فكان لا يتمكن الحيوان فيه من شيء من الحركة ولا لأعمال ولما كان الحيوان قد يحتاج في الليل الى حركة ومسير وعمل لايتهيأ له بالنهار لضيق النهار او لشدة الحر او لخوفه بالنهار كحال كثير من الحيوان جعل في الليل من اضواء الكواكب وضوء القمر ما يتأتى معه اعمال كثيرة كالسفر والحرث وغير ذلك من اعمال اهل الحروث والزروع فجعل ضوء القمر بالليل معونة للحيوان على هذه الحركات وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض مع نقص ضوئه عن الشمس لئلا يستوى الليل والنهار فتفوت حكمة الاختلاف بينهما والتفاوت الذي قدره العزيز العليم فتأمل الحكمة البالغة والتقدير العجيب الذي اقتضى ان اعان الحيوان على دولة الظلام بجند من النور يستعين به على هذه الدولة المظلمة ولم يجعل الدولة كلها ظلمة صرفا بل ظلمة مشوبة بنور رحمة منه وإحسانا فسبحان من اتقن ما صنع واحسن كل شيء خلقه
    فصل ثم تأمل حكمته تبارك وتعالى في هذه النجوم وكثرتها وعجيب خلقها
    وأنها زينة للسماء وأدلة يهتدي بها في طرق البر والبحر وما جعل فيها من الضوء والنور بحيث


    يمكننا رؤيتها مع البعد المفرط ولولا ذلك لم يحصل لنا الاهتداء والدلالة ومعرفة المواقيت ثم تأمل تسخيرها منقادة بامر ربها تبارك وتعالى جارية على سنن واحد اقتضتحكمته وعلمه ان لا تخرج عنه فجعل منها البروج والمنازل والثوابت والسيارة والكبار والصغار والمتوسط والابيض الازهر والابيض الاحمر ومنها ما يخفى على الناظر فلا يدركه وجعل منطقة البروج قسمين مرتفعة ومنخفضة وقدر سيرها تقديرا واحدا ونزل الشمس والقمر والسيارات منها منازلها فمنها ما يقطعها في شهر واحد وهو القمر ومنها ما يقطعها في عام ومنها ما يقطعها في عدة اعوام كل ذلك موجب الحكمة والعناية وجعل ذلك اسباب لما يحدثه سبحانه في هذا العالم فيستدل بها الناس على تلك الحوادث التي تقارنها كمعرفتهم بما يكون مع طلوع الثريا إذا طلعت وغروبها إذا سقطت من الحوادث التي تقارنها وكذلك غيرها من المنازل والسيارات ثم تأمل جعله سبحانه بنات نعش وما قرب منها ظاهرة لا تغيب لقربها من المركز ولما في ذلك من الحكمة الالهية وانها بمنزلة الاعلام التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البر والبحر فهم ينظرون اليها وإلى الجدي والفرقدين كل وقت ارادوا فيهتدون بها حيث شاؤا
    فصل ثم تأمل اختلاف سير الكواكب وما فيه من العجائب كيف تجد بعضها لا
    يسير إلا مع رفقته لا يفرد عنهم سيره ابدا بل لا يسيرون الا جميعا وبعضها يسير سيرا مطلقا غير مقيد برفيق ولا صاحب بل إذا اتفق له مصاحبته في منزل وافقه فيه ليلة وفارقه الليلة الاخرى فبينا تراه ورفيقه وقرينه إذ رايتهما مفترقين متابعدين كأنهما لم يتصاحبا قط وهذه السيارة لها في سيرها سيران مختلفان غاية الاختلاف سير عام يسير بها فلكها وسير خاص تسير هي في فلكها كما شبهوا ذلك بنملة تدب على رحى ذات الشمال والرحى تأخذ ذات اليمين فللنملة في ذلك حركتان مختلفتان الى جهتين متاينتين احداهما بنفسها والاخرى مكرهة عليها تبعا للرحى تجذبها الى غير جهة مقصدها وبذلك يجعل التقديم فيها كل منزلة الى جهة الشرق ثم يسير فلكها وبمنزلتها الى جهة الغرب فسل الزنادقة والمعطلة أي طبيعة اقتضت هذا واي فلك اوجبه وهلا كانت كلها راتبه او منتقلة او على مقدار واحد وشكل واحد وحركة واحدة وجريان واحد وهل هذا الا صنع من بهرت العقول حكمته وشهدت مصنوعاته ومتبدعاته بانه الخالق البارئ المصور الذي ليس كمثله شيء احسن كل شيء خلقه واتقن كل ما صنعه وانه العليم الحكيم الذي خلق فسوى وقدر فهدى وان هذه احدى آياته الدالة عليه وعجائب مصنوعاته الموصلة للأفكار إذا سافرت فيها اليه وأنه خلق مسخر مربوب مدبر ان ربكم الله الذي خلق السموات


    والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بامره الا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين فإن قلت فما الحكمة في كون بعض النجوم راتبا وبعضها منتقلا قيل إنها لوكانت كلها راتبة لبطلت الدلالة والحكم التي نشأت من تنقلها في منازلها ومسيرها في بروجها ولو كانت كلها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف بها ولا رسم يقاس عليها لانه إنما يقاس مسير المتنقلة منها بالراتب كما يقاس مسير السائرين على الارض بالمنازل التي يمرون عليها فلو كانت كلها بحال واحدة لاختلط نظامها ولبطلت الحكم والفوائد والدلالات التي في اختلافها ولتشبث المعطل بذلك وقال لو كان فاعلها ومبدعها مختارا لم تكن على وجه واحد وأمر واحد وقدر واحد فهذا الترتيب والنظام الذي هي عليه من ادل الدلائل على وجود الخالق وقدرته وإرادته وعلمه وحكمته ووحدانيته
    فصل ثم تامل هذا الفلك الدوار بشمسه وقمره ونجومه وبروجه وكيف يدور
    على هذا العالم هذا الدوران الدائم الى آخر الاجل على هذا الترتيب والنظام وما في طي ذلك من اختلاف الليل والنهار والفصول والحر والبرد وما في ضمن ذلك من مصالح ما على الارض من اصناف الحيوان والنبات وهل يخفى على ذي بصيرة ان هذا ابداع المبدع الحكيم وتقدير العزيز العليم ولهذا خاطب الرسل امتهم مخاطبة من لا شك عنده في الله وإنما دعوهم الى عبادته وحده لا ألى الاقرار به فقالت لهم أفي الله شك فاطر السموات والارض فوجوده سبحانه وربوبيته وقدرته اظهر من كل شيء على الاطلاق فهو اظهر للبصائر من الشمس للابصار وابين للعقول من كل ما تعقله وتقر بوجدوده فما ينكره الا مكابر بلسانه وقلبه وعقله وفطرته وكلها تكذبه قال تعالى الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى يدبر الامر يفصل الايات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مد الارض وجعل فيها رواسي وانهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون وفي الارض قطع متجاورات الاية وقال تعالى ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات للمؤمنين وفي خلقكم واما يبث من دابة إلى قوله وآياته يؤمنون وقال تعالى خلق السموات بغير عمد ترونها والقى في الارض رواسي ان تميد بكم وبث فيها من كل دابة الى قوله في ضلال مبين وقال تعالى خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون الى قوله افمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وتأمل كيف وحد سبحانه الاية من قوله هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب الى آخرها وختمها باصحاب الفكرة فاما
    توحيد الاية

    فلأن موضع الدلالة واحد وهو الماء الذي انزله من السماء فاخرج به كلما ذكره من الارض وهو على اختلاف انواعه لقاحه واحد وأمه واحدة فهذا نوع واحد من آياته وأما تخصيصه ذلك بأهل الفكر فلأن هذه المخلوقات التي ذكرها من الماء موضع فكر وهو نظر القلب وتامله لا موضع نظر مجرد بالعين فلا ينتفع الناظر بمجرد رؤية العين حتى ينتقل منه الى نظر القلب في حكمة ذلك وبديع صنعه والاستدلال به على خالقه وباريه وذلك هو الفكر بعينه واما قوله تعالى في الاية التي بعدها ان في ذلك لايات لقوم يعقلون فجمع الايات لانها تضمنت الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وهي آيات متعددة مختلفة في انفسها وخلقها وكيفياتها فإن إظلام الجو لغروب الشمس ومجيء الليل الذي يلبس العالم كالثوب ويسكنون تحته آية باهرة ثم ورد جيش الضياء يقدمه بشير الصباح فينهزم عسكر الظلام وينتشر الحيوان وينكشط ذلك اللباس بجملته آية اخرى ثم في الشمس التي هي آية النهار آية أخرى وفي القمر الذي هو آية الليل آية اخرى وفي النجوم آيات أخر كما قدمناه هذا مع ما يتبعها من الايات المقارنة لها من الرياح واختلافها وسائر ما يحدثه الله بسببها آيات أخر فالموضع موضع جمع وخص هذه الايات بأهل العقل لانها اعظم مما قبلها وأدل وأكبر والاولى كالباب لهذه فمن استدل بهذه الايات واعطاها حقها من الدلالة استحق من الوصف ما يستحقه صاحب الفكر وهو العقل ولأن منزله المنزلة العقل بعد منزلة الفكر فلما دلهم بالاية الاولى على الفكر نقلهم بالاية الثانية التي هي اعظم منها الى العقل الذي هو فوق الفكر فتأمله فأما قوله في الاية الثالثة إن في ذلك لاية لقوم يذكرون فوحد الاية وخصها بأهل التذكر فأما توحيدها فكتوحيد الاولى سواء فإن ما ذرأ في الارض على اختلافه من الجواهر والنبات والمعادن والحيوان كله في محل واحد فهو نوع من انواع آياته وإن تعددت أصنافه وانواعه واما تخصيصه اياها بأهل التذكر فطريقة القرآن في ذلك ان يجعل آياته للتبصر والتذكر كما قال تعالى في سورة ق والارض مددناها والقينا فيها رواسي وانبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب فالتبصرة التعقل والتذكرة التذكر والفكر باب ذلك ومدخله فإذا فكر تبصر وإذا تبصر تذكر فجاء التذكير في الاية لترتيبه على العقل المرتب على الفكر فقدم الفكر إذ هو الباب والمدخل ووسط العقل إذ هو ثمرة الفكر ونتيجته وأخر التذكر إذ هو المطلوب من الفكر والعقل فتأمل ذلك حق التأمل فإن قلت فما الفرق بين التذكر والتفكر فإذا تبين الفرق ظهرت الفائدة قلت التفكر والتذكر اصل الهدى والفلاح وهما قطبا السعادة ولهذا وسعنا الكلام في التفكر في هذا الوجه لعظم المنفعة وشدة الحاجة اليه قال الحسن ما زال اهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت فإذا لها اسماع وابصار فاعلم ان التفكر طلب القلب ما ليس بحاصل من العلوم من امر هو حاصل

    منها هذا حقيقته فإنه لو لم يكن ثم مراد يكون موردا للفكر استحال الفكر لان الفكر بغير متعلق متفكر فيه محال وتلك المواد هي الامور الحاصلة ولو كان المطلوب بها حاصلا عنده لم يتفكر فيه فإذا عرف هذا فالمتفكر ينتقل من المقدمات والمبادي التي عنده الى المطلوب الذي يريده فإذا ظفر به وتحصل له تذكر به وابصر مواقع الفعل والترك وما ينبغي ايثاره وما ينبغي اجتنابه فالتذكر هو مقصود التفكر وثمرته فإذا تذكر عاد بتذكرة على تفكره فاستخرج ما لم يكن حاصلا عنده فهو لا يزال يكرر بتفكره على تذكره وبتذكره على تفكره ما دام عاقلا لان العلم والارادة لا يقفان على حد بل هو دائما سائر بن العلم والارادة وإذا عرفت معنى كون آيات الرب تبارك وتعالى تبصرة وذكرى يتبصر بها من عمى القلب ويتذكر بها من غفلته فان المضاد للعلم اما عمى القلب وزواله بالتبصر وإما غفلته وزواله بالتذكر والمقصود تنبيه القلب من رقدته بالاشارة الى شيء من بعض آيات الله ولو ذهبنا نتتبع ذلك لنفذ الزمان ولم نحط بتفصيل واحدة من آياته على التمام ولكن مالا يدرك جملة لا يترك جملة واحسن ما انفقت فيه الانفاس التفكر في آيات الله وعجائب صنعه والانتقال منها الى تعلق القلب والهمة به دون شيء من مخلوقاته فلذلك عقدنا هذه الكتاب على هذين الاصلين إذ هما افضل ما يكتسبه العبد في هذه الدار

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفلا ينظرون

    فسل المعطل الجاحد ما تقول في دولاب دائر على نهر قد احكمت
    آلاته وأحكم تركيبه وقدرت ادواته احسن تقدير وأبلغه بحيث لا يرى الناظر فيه خللا في مادته ولا في صورته وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل انواع الثمار والزروع يسقيها حاجتها وفي تلك الحديقة من يلم شعثها ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها فلا يختل منها شيء ولا يتلف ثمارها ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به ويقسمه هكذا على الدوام اترى هذا اتفاقا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقا من غير فاعل ولا قيم ولا مدبر أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان وما الذي يفتيك به وما الذي يرشدك اليه ولكن من حكمة العزيز الحكيم ان خلق قلوبا عميا لا بصائر لها فلا ترى هذه الايات الباهرة إلا رؤية الحيوانات البهيمية كما خلق اعينا لا أبصار لها والشمس والقمر والنجوم مسخرات بامره وهي لا تراها فما ذنبها ان انكرتها وجحدتها فهي تقول في ضوء النهار هذا ليل ولكن اصحاب الاعين لا يعرفون شيئا ولقد احسن القائل
    وهبني قلت هذا الصبح ليل ... ايعمى العالمون عن الضياء

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفلا ينظرون

    الان النظر فيك وفي نفسك مرة ثانية من الذي دبرك بالطف التدبير وانت جنين في بطن امك في موضع لا يد تنالك ولا بصر يدركك ولا حيلة لك في التماس الغذاء ولا في دفع الضرر فمن الذي اجرى اليك من دم الام ما يغذوك كما يغذو الماء النبات وقلب ذلك الدم لبنا ولم يزل يغذيك به في اضيق المواضع وابعدها من حيلة التكسب والطلب حتى إذا كمل خلقك واستحكم وقوى اديمك على مباشرة الهواء وبصرك على ملاقاة الضياء وصلبت عظامك على مباشرة الايدي والتقلب على الغبراء هاج الطلق بأمك فازعجك الى الخروج إيما ازعاج الى عالم الابتلاء فركضك الرحم ركضة من مكانك كأنه لم يضمك قط ولم يشتمل عليك فيما بعد ما بين ذلك القبول والاشتمال حين وضعت نطفة وبين هذا الدفع والطرد والاخراج وكان مبتهجا بحملك فصار يستغيث ويعج الى ربك من ثقلك فمن الذي فتح لك بابه حتى ولجت ثم ضمه عليك حتى حفظت وكملت ثم فتح لك ذلك الباب ووسعه حتى خرجت منه كلمح البصر لم يخنقك ضيقه ولم تحبسك صعوبة طريقك فيه فلو تأملت حالك في دخولك من ذلك الباب وخروجك منه لذهب بك العجب كل مذهب فمن الذي اوحى اليه ان يتضايق عليك وانت نطفة حتى لاتفسد هناك واوحى اليه ان يتسع لك وينفسح حتى تخرج منه سليما الى ان خرجت فريدا وحيدا ضعيفا لا قشرة ولا لباس ولا متاع ولا مال احوج خلق الله واضعفهم وافقرهم فصرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذى به في بطن امك الى خزانتين معلقتين على صدرها تحمل غذاءك على صدرها كما حملتك في بطنها ثم ساقه الى تينك الخزانتين الطف سوق على مجار وطرق قد تهيأت له فلا يزال واقفا في طرقه ومجاريه حتىتستوفي ما في الخزانة فيجرى وينساق اليك فهو بئر لاتنقطع مادتها ولا تنسد طرقها يسوقها اليك في طرق لا يهتدي اليها الطواف ولا يسلكها الرجال فمن رققه لك وصفاه واطاب طعمه وحسن لونه واحكم طبخه اعدل احكام لا بالحار المؤذي ولا بالبارد الردي ولا المر ولا المالح ولا الكريه الرائحة بل قلبه الى ضرب آخر من التغذية والمنفعة خلاف ما كان في البطن فوافاك في أشد اوقات الحاجة اليه على حين ظمأ شديد وجوع مفرط جمع لك فيه بين الشراب والغذاء فحين تولد قد تلمظت وحركت شفتيك للرضاع فتجد الثدي المعلق كالاداوة قدتدلى اليك وأقبل بدره عليك ثم جعل في راسه تلك الحلمة التي هي بمقدار صغر فمك فلا يضيق عنها ولا تتعب بالتقامها ثم نقب لك في راسها نقبا لطيفا بحسب احتمالك ولم يوسعه فتختنق باللبن ولم يضيقه فتمصه بكلفة بل جعله بقدر اقتضته حكمته ومصلحتك فمن عطف عليك قلب الام ووضع فيه الحنان العجيب والرحمة الباهرة حتى تكون في أهنا ما يكون من شأنها وراحتها ومقيلها فإذا احست منك بأدنى صوت او بكاء قامت اليك وآثرتك علىنفسها على عدد الانفس منقادة اليك بغير قائد ولا سائق الا قائد الرحمة وسائق

    الحنان تود لو ان كل ما يؤلمك بجسمها وانه لم يطرقك منه شيء وان حياتها تزاد في حياتك فمن الذي وضع ذلك في قلبها حتى إذا قوى بدنك واتسعت امعاؤك وخشنت عظامك واحتجت الى غذاء اصلب من غذائك ليشتد به عظمك ويقوى عليه لحمك وضع في فيك آله القطع والطحن فنصب لك أسنانا تقطع بها الطعام وطواحين تطحنه بها فمن الذي حبسها عنك ايام رضاعك رحمة بأمك لطفا بها ثم اعطاكها ايام اكلك رحمة بك وأحسانا اليك ولطفا بك فلو انك خرجت من البطن ذا سن وناب وناجذ وضرس كيف كان حال امك بك ولو انك منعتها وقت الحاجة اليها كيف كان حالك بهذه الاطعمة التي لا تسيغها الا بعد تقطيعها وطحنها وكلما ازددت قوة وحاجة الى الاسنان في اكل المطاعم المختلفة زيد لك في تلك الالات حتى تنتهي الى النواجذ فتطيق نهش اللحم وقطع الخبز وكسر الصلب ثم إذا ازددت قوة زيد لك فيها حتى تنتهي الى الطواحين التي هي آخر الاضراس فمن الذي ساعدك بهذه الالات وانجدك بها ومكنك بها من ضروب الغذاء ثم انه اقتضت حكمته ان اخرجك من بطن امك لا تعلم شيئا بل غبيا لا عقل ولا فهم ولا علم وذلك من رحمته بك فإنك على ضعفك لا تحتمل العقل والفهم والمعرفة بل كنت تتمزق وتتصدع بل جعل ذلك ينتقل فيك بالتدريح شيئا فشيئا فلا يصادفك ذلك وهلة واحدة بل يصادفك يسيرا يسيرا حتى يتكامل فيك واعتبر ذلك بأن الطفل إذا سبي صغيرا من بلده ومن بين ابويه ولا عقل له فإنه لا يؤلمه ذلك علما كان اقرب الى العقل كان اشق عليه واصعب حتى إذا كان عاقلا فلاتراه إلا كالواله الحيران ثم لو ولدت عاقلا فهيما كحالك في كبرك تنغصت عليك حياتك اعظم تنغيص وتنكدت اعظم تنكيد لانك ترى نفسك محمولا رضيعا معصبا بالخرق مربطا بالقمط مسجونا في المهد عاجزا ضعيفا عما يحاوله الكبير فكيف كان يكون عيشك مع تعلقك التام في هذه الحالة ثم لم يكن يوجد لك من الحلاوة واللطافة والوقع في القلب والرحمة بك ما يوجد للمولود الطفل بل تكون انكد خلق الله واثقلهم واعنتهم واكثرهم فضولا وكان دخولك هذا العالم وانت غبي لا تعقل شيئا ولا تعلم ما فيه اهله محض الحكمة والرحمة بك والتدبير فتلقى الاشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد فيك العقل والمعرفة شيئا فشيئا حتى تالف الاشياء وتتمرن عليها وتخرج من التأمل لها والحيرة فيها وتستقبلها بحسن التصرف فيها والتدبير لها والاتقان لها وفي ذلك وجوه أخر من الحكمة غير ما ذكرناه فمن هذا الذي هو قيم عليك بالمرصاد يرصدك حتى يوافيك بكل شيء من المنافع والاراب والالات في وقت حاجتك لا يقدمها عن وقتها ولا يؤخرها عنه ثم انه اعطاك الاظفار

    وقت حاجتك اليها لمنافع شتى فإنها تعين الاصابع وتقويها فإن اكثر العمل لما كان برؤوس الاصابع وعليها الاعتماد اعينت بالاظافر قوة لها مع ما فيها من منفعة حك 2الجسم وقشط الاذى الذي لا يخرج باللحم عنه الى غير ذلك من فوائدها ثم جملك بالشعر على الراس زينة ووقاية وصيانة من الحر والبرد إذ هو مجمع الحواس ومعدن الفكر والذكر وثمرة العقل تنتهي اليه ثم خص الذكر بأن جمل وجهه باللحية وتوابعها وقارا وهيبة له وجمالا وفصلا له عن سن الصبا وفرقا بينه وبين الاناث وبقيت الانثى على حالها لما خلقت له من استمتاع الذكر بها فبقى وجهها على حاله ونضارته ليكون اهيج للرجل على الشهوة وأكمل للذة الاستمتاع فالماء واحد الجوهر واحد والوعاء واحد واللقاح واحد فمن الذي اعطى الذكر الذكورية والانثى الانوثية ولا تلتفت الى ما يقوله الجهلة من الطبائعيين في سبب الاذكار والايناث وإحالة ذلك على الامور الطبيعية التي لاتكاد تصدق في هذا الموضع الا اتفاقا وكذبه اكثر من صدقها وليس استناد الاذكار والايناث الا الى محض المرسوم الالهي الذي يلقيه الىملك التصوير حين يقول يا رب ذكر ام انثى شقى ام سعيد فما الرزق فما الاجل فيوحي ربك ما يشاء ويكتب الملك فإذا كان للطبيعة تأثيرا في الاذكار والايناث فلها تاثير في الرزق والاجل والشقاوة والسعادة وإلا فلا أذ مخرج الجميع ما يوحيه الله الى الملك ونحن لا ننكر ان لذلك اسبابا اخر ولكن تلك من الاسباب التي استأثر الله بها دون البشر قال الله تعالى لله ملك السموات والارض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور الى قوله قدير فذكر اصناف النساء الاربعة مع الرجال احدها من تلد الاناث فقط الثانية من تلد الذكور فقط الثالثة من تلد الزوجين الذكر والانثى وهو معنى التزويج هنا ان يجعل ما يهب له زوجين ذكرا او انثى الرابعة العقيم التي لا تلد اصلا ومما يدل على ان سبب الاذكار والايناث لا يعلمه البشر ولا يدرك بالقياس والفكر وإنما يعلم بالوحي ما روى مسلم في صحيحه من حديث ثوبان قال كنت عند النبي صلى الله عليه و سلم فجاء حبر من احبار اليهود فقال السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال لم تدفعني فقلت الا تقول يا رسول الله فقال اليهودي إنما ندعوه باسمه الذي سماه به اهله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان أسمي محمد الذي سماني به اهلي قال اليهودي جئت أسالك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أينفعك شيء إن حدثتك قال اسمع بأذني فنكت رسول الله صلى الله عليه و سلم بعود معه فقال سل فقال اليهودي اين يكون الناس يوم تبدل الارض غير الارض والسموات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هم في الظلمة دون الجسر قال فمن اول الناس إجازة قال فقراء المهاجرين قال اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون الجنة فقال زيادة كبد حوت ذي النون قال فما غذاؤهم على أثرها قال

    ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من اطرافها قال فما شرابهم عليه قال من عين تسمى سلسبيلا قال صدقت وجئت أسالك عن شيء لايعلمه الا نبي او رجل او رجلان قال ينفعك ان حدثتك قال اسمع بأذني قال جئت أسألك عن الولد قال ماء الرجل ابيض وماء المرأة اصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة اذكر بإذن الله وإن علا مني المرأة مني الرجل اثني بإ ذن الله قال اليهودي لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد سالني عن هذا الذي سالني عنه ومالي علم به حتى أتاني الله به والذي دل عليه العقل والنقل ان الجنين يخلق من الماءين جميعا فالذكر يقذف ماءه في رحم الانثى وكذلك هي تنزل ماءها الى حيث ينتهي ماؤه فيلتقى الماآن على امر قد قدره الله وشاءه فيخلق الولد بينهما جميعا وايهما غلب كان الشبه له كما في صحيح البخاري عن حميد عن انس قال بلغ عبدالله بن سلام قدوم النبي صلى الله عليه و سلم فاتاه فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن الا نبي قال ما أول اشراط الساعة وما اول طعام يأكله اهل الجنة ومن أي شيء ينزع الولد إلى ابيه ومن أي شيء ينزع الى أخواله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اخبرني بهن آنفا جبريل فقال عبد الله ذاك عدو اليهود من الملائكة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اما اول اشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق الى المغرب واما اول طعام ياكله اهل الجنة فزيادة كبد الحوت وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشى المرأة وسبقها ماؤه كان الشبه له وإن سبقت كان الشبه لها فقال اشهد انك رسول الله وذكر الحديث وفي الصحيحين عن ام سلمة قالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت قال نعم إذا رأت الماء الاصفر فضحكت ام سلمة فقالت او تحتلم المراة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيم يشبهها الولد فهذه الاحاديث الثلاثة تدل على ان الولد يخلق من الماءين وان الاذكار والايناث يكون بغلبة احد الماءين وقهره للآخروعلوه عليه وان الشبه يكون بالسبق فمن سبق ماؤه الى الرحم كان الشبه له وهذه امور ليس عند أهل الطبيعة ما يدل عليها ولا تعلم الا بالوحي وليس في صناعتهم ايضا ما ينافيها على ان في النفس من حديث وبان ما فيها وأنه يخاف ان لا يكون احد رواته حفظه كما ينبغي وأن يكون السؤال إنما وقع فيه عن الشبه لا عن الاذكار والايناث كما سأل عنه عبدالله بن سلام ولذلك لم يخرجه البخاري وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن ابي بكر عن انس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ان الله وكل بالرحم ملكا فيقول يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فإذا اراد ان يخلقها قال يا رب اذكر ام انثى شقي ام سعيد فما الرزق فما الاجل فيكتب كذلك في بطن امه أفلا ترى كيف أحال بالاذكار والايناث على مجرد المشيئة وقرنه بما لاتأثير للطبيعة فيه من الشقاوة والسعادة والرزق والاجل ولم يتعرض الملك لكتبه الذي للطبيعة فيه مدخل اولا ترى عبد الله بن سلام لم يسأل الا عن الشبه الذي يمكن الجواب عنه ولم يسال عن الاذكار والايناث

    مع انه ابلغ من الشبه والله اعلم وان كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قاله فهو عين الحق وعلى كل تقدير فهو يبطل ما زعمه بعض الطبائعيين من معرفة اسباب الاذكار والايناث والله اعلم
    فصل فانظر كيف جعلت آلات الجماع في الذكر والانثى جميعا على وفق
    الحكمة فجعلت في حق الذكر آلة ناشزة تمتد حتى توصل المنى الى قعر الرحم بمنزلة من يناول غيره شيئا فهو يمد يده اليه حتى يوصله إياه ولأنه يحتاج الى ان يقذف ماءه في قعر الرحم وأما الانثى فجعل لها وعاء مجوف لانها تحتاج الى ان تقبل ماء الرجل وتمسكه وتشتمل عليه فأعطيت آلة تليق بها ثم لما كان ماء الرجل ينحدر من اجزاء الجسد رقيقا ضعيفا لا يخلق منه الولد جعل له الانثيان وعاء يطبخ فيهما ويحكم انضاجه ليشتد وينعقد ويصير قابلا لان يكون مبدأ للتخليق ولم تحتج المرأة الى ذلك لان رقة مائها ولطفاته إذا مازج غلظ ماء الرجل وشدته قوى به واستحكم ولو كان الماآن رقيقان ضعيفان لم يتكون الولد منهما وخص الرجل بآلة النضج والطبخ لحكم منها ان حرارته اقوى والانثى باردة فلو اعطيت تلك الالة لم يستحكم طبخ الماء وانضاجه فيها ومنها ان ماءها لا يخرج عن محله بل ينزل من بين ترائبها الى محله ومنها انها لما كانت محلا للجماع اعطيت من الالة ما يليق بها فلو اعطيت آلة الرجل لم تحصل لها اللذة والاستمتاع ولكانت تلك الالة معطلة بغير منفعة فالحكمة التامة فيما وجدت خلقة كل منهما عليه
    فصل فارجع الان الى نفسك وكرر النظر فيك فهو يكفيك وتأمل اعضاءك
    وتقدير كل عضو منها للأرب والمنفعة المهيأ لها فاليدان للعلاج والبطش والاخذ والاعطاء والمحاربة والدفع والرجلان لحمل البدن والسعي والركوب وانتصاف القامة والعينان للاهتداء والجمال والزينة والملاحة ورؤية ما في السموات والارض وآياتهما وعجائبهما والفم للغذاء والكلام والجمال وغير ذلك والانف للنفس وإخراج فضلات الدماغ وزينة للوجه واللسان للبيان والترجمة عنك والاذنان صاحبتا الاخبار تؤديانها اليك واللسان يبلغ عنك والمعدة خزانة يستقر فيها الغذاء فتنضجه وتطبخه وتصلحه اصلاحا آخر وطبخا آخر غير الاصلاح والطبخ الذي توليته من خارج فأنت تعاني إنضاجه وطبخه وإصلاحه حتى تظن انه قد كمل وانه قد استغنى عن طبخ آخر وانضاج آخر وطباخه الداخل ومنضجه يعاني من نضجه وطبخه مالا تهتدي اليه ولا تقدر عليه فهو يوقد عليه نيرانا تذيب الحصى وتذيب مالا تذيبه النار وهي في الطف موضع منك لا تحرقك ولا تلتهب وهي اشد حرارة من النار وإلا فما يذيب هذه الاطعمة الغليظة الشديدة جدا حتى يجعلها ماء ذائبا وجعل الكبد للتخليص واخذ صفو الغذاء والطفه ثم رتب منها مجاري


    وطرقا يسوق بها الغذاء الى كل عضو وعظم وعصب ولحم وشعر وظفر وجعل المنازل والابواب لادخال ما ينفعك وإخراج ما يضرك وجعل الاوعية المختلفة خزائن تحفظ مادة حياتك فهذه خزانة للطعام وهذه خزانة للحرارة وهذه خزائن للدم وجعل منها خزائن مؤديات لئلا تختلط بالخزائن الاخر فجعل خزائن للمرة السوداء وأخرى للمرة الصفراء وأخرى للبول وأخرى للمنى فتأمل حال الطعام في وصوله الى المعدة وكيف يسرى منها في البدن فإنه إذا استقر فيها اشتملت عليه وانضمت فتطبخه وتجيد صنعته ثم تبعثه الى الكبد في مجار دقاق وقد جعل بين الكبد وبين تلك المجاري غشاء رقيقا كالمصفات الضيقة الابخاش تصفية فلا يصل الى الكبد منه شيء غليظ خشن فينكؤها لان الكبد رقيقة لا تحمل الغليظ فإذ قبلته الكبد انفذته الى البدن كله في مجار مهيأ قلة بمنزلة المجاري المعدة للماء ليسلك في الارض فيعمها بالسقي ثم يبعث ما بقي من الخبث والفضول الى مغايض ومصارف قد اعدت لها فما كان من مرة صفراء بعثت به الى المرارة وما كان من مرة سوداء بعثت به الى الطحال وما كان من الرطوبة المائية بعثت به الى المثانة فمن ذا الذي تولى ذلككله وأحكمه ودبره وقدره احسن تقدير وكأني بك ايها المسكين تقول هذا كله من فعل الطبيعة وفي الطبيعة عجائب واسرار فلو أراد الله ان يهديك لسالت نفسك بنفسك وقلت اخبريني عن هذه الطبيعة اهي ذات قائمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الافعال العجيبة ام ليست كذلك بل عرض وصفة قائمة بالمطبوع تابعة له محمولة فيه فإن قالت لك بل هي ذات قائمة بنفسها لها العلم التام والقدرة والارادة والحكمة فقل لها هذا هو الخالق البارئ المصور فلم تسمينه طبيعية ويا لله من ذكر الطبائع ومن يرغب فيها فهلا سميته بما سمى به نفسه على السن رسله ودخلت في جملة العقلاء والسعداء فإن هذا الذي وصفت به الطبيعة صفته تعالى وإن قالت تلك بل الطبيعة عرض محمول مفتقر الى حامل وهذا كله فعلها بغير علم منها ولا إرادة ولا قدرة ولا شعور اصلا وقد شوهد من آثارها ما شوهد فقل لها هذا مالا يصدقه ذو عقل سليم كيف تصدر هذه الافعال العجيبة والحكم الدقيقة التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها وعن القدرة عليها ممن لا عقل له ولا قدرة ولا حكمة ولا شعور وهل التصديق بمثل هذا إلا دخول في سلك المجانين والمبرسمين ثم قل لها بعد ولو ثبت لك ما ادعيت فمعلوم ان مثل هذه الصفة ليست بخالقة لنفسها ولا مبدعة لذاتها فمن ربها ومبدعها وخالقها ومن طبعها وجعلها تفعل ذلك فهي إذا من ادل الدلائل على بارئها وفاطرها وكمال قدرته وعلمه وحكمته فلم يجد عليك تعطيلك رب العالم وجحدك لصفاته وأفعاله الا مخالفتك العقل والفطرة ولو حاكمناك الى الطبيعة لرايناك انك خارج عن موجبها فلا انت مع موجب العقل ولا الفطرة ولا الطبيعة ولا الانسانية اصلا وكفى بذلك جهلا وضلالا فإن رجعت الى العقل وقلت لا يوجد حكمة الا من حكيم قادر عليم ولا تدبير

    متقن الا من صانع قادر مختار مدبر عليم بما يريد قادر عليه لا يعجزه ولا يؤؤده قيل لك فإذا اقررت ويحك بالخلاق العظيم الذي لا اله غيره ولا رب سواه فدع تسميته طبيعة اوعقلا فعالا او موجبا بذاته وقل هذا هو الله الخالق البارئ المصور رب العالمين وقيوم السموات والارضين ورب المشارق والمغارب الذي احسن كل شيء خلقه واتقن ما صنع فمالك جحدت اسماءه وصفاته وذاته اضفت صنيعه الى غيره وخلقه الى سواه مع انك مضطر الى الاقرار به إضافة الابداع والخلق والربوبية والتدبير اليه ولا بد والحمد لله رب العالمين على انك لو تأملت قولك طبيعة ومعنى هذه اللفظة لدلك على الخالق الباريء لفظها كما دل العقول عليه معناها لان طبيعة فعيلة بمعنى مفعولة أي مطبوعة ولا يحتمل غيرهذا البتة لانها على بناء الغرائز التي ركبت في الجسم ووضعت فيه كالسجية والغريزة والبحيرة والسليقة والطبيعة فهي التي طبع عليها الحيوان وطبعت فيه ومعلوم ان طبيعة من غير طابع لها محال فقد دل لفظ الطبيعة على البارئ تعالى كما دل معناها عليه والمسلمون يقولون ان الطبيعة خلق من خلق الله مسخر مربوب وهي سنته في خليقته التي اجراها عليه ثم انه يتصرف فيها كيف شاء وكما شاء فيسلبها تاثيرها إذا اراد ويقلب تأثيرها الى ضده إذا شاء ليرى عباده أنه وحده الخالق البارئ المصور وأنه يخلق ما يشاء كما يشاء وإنما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون وإن الطبيعة التي انتهى نظر الخفافيش اليها إنما هي خلق من خلقه بمنزلة سائر ملخوقاته فكيف يحسن بمن له حظ من انسانية اوعقل ان ينسى من طبعها وخلقها ويحيل الصنع والابداع عليها ولم يزل الله سبحانه يسلبها قوتها ويحيلها ويقلبها الى ضد ما جعلت له حتى يرى عباده انها خلقه وصنعه مسخرة بامره الا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين
    فصل فاعد النظر في نفسك وتأمل حكمة اللطيف الخبير في تركيب البدن
    ووضع هذه الاعضاء مواضعها منه واعدادها لما اعدت له وإعداد هذه الاوعية المعدة لحمل الفضلات وجمعها لكيلا تنتشر في البدن فتفسده ثم تأمل الحكمة البالغة في تنميتك وكثرة اجزائك من غير تفكيك ولا تفصيل ولو ان صائغا اخذ تمثالا من ذهب او فضة او نحاس فأراد ان يجعله اكبر مما هو هل كان يمكنه ذلك الا بعد ان يكسره ويصوغه صياغة اخرى والرب تعالى ينمي جسم الطفل واعضاءه الظاهرة والباطنة وجميع اجزائه وهو باق ثابت على شكله وهيئته لا يتزايل ولا ينفك ولا ينقص وأعجب من هذا كله تصويره في الرحم حيث لاتراه العيون ولا تلمسه الايدي ولا تصل اليه الالات فيخرج بشرا سويا مستوفيا لكل ما فيه مصلحته وقوامه


    من عضو وحاسة وآلة من الاحشاء والجوارح والحوامل والاعصاب والرباطات والاغشية والعظام المختلفة الشكل والقدر والمنفعة والموضع الى غير ذلك من اللحم والشحم والمخ وما في ذلك من دقيق التركيب ولطيف الخلقة وخفي الحكمة وبديع الصنعة كل هذا صنع الله احسن الخالقين في قطرة من ماء مهين وما كرر عليك في كتابه مبدأ خلقك وإعادته ودعاك الى التفكير فيه إلا لما بك من العبرة والمعرفة ولا تستطل هذا الفصل وما فيه من نوع تكرار يشتمل على مزيد فائدة فإن الحاجة اليه ماسة والمنفعة عظيمة فانظر الىبعض ما خصك به وفضلك به على البهائم المهملة إذ خلقك على هيئة تنتصب قائما وتستوي جالسا وتستقبل الاشياء ببدنك وتقبل عليها بجملتك فيمكنك العمل والصلاح والتدبير ولو كنت كذوات الاربع المكبوبة على وجهها لم يظهر لك فضيلة تمييز واختصاص ولم يتهيأ منك ما تهيأ من هذه النسبة
    فصل قال الله تعالى ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر
    ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم الاية فسبحان من البسه خلع الكرامة كلها من العقل والعلم والبيان والنطق والشكل والصورة الحسنةوالهيئة الشريفة والقد المعتدل واكتساب العلوم بالاستدلال والفكر واقتناص الاخلاق الشريفة الفاضلة من البر والطاعة والانقياد فكم بين حاله وهو نطفة في داخل الرحم مستودع هنا وبين حاله والملك يدخل عليه في جنات عدن فتبارك الله احسن الخالقين فالدنيا قرية والمؤمن رئيسها والكل مشغول به ساع في مصالحه والكل قد اقيم في خدمته وحوائجه فالملائكة الذين هم حملة عرش الرحمن ومن حوله يستغفرون له والملائكة الموكلون به يحفظونه والموكلون بالقطر والنبات يسعون في رزقه ويعملون فيه والافلاك سخرت منقادة دائرة بما فيه مصالحه والشمس والقمر والنجوم مسخرات جاريات بحساب ازمنته واوقاته وإصلاح رواتب اقواته والعالم الجوي مسخر له برياحه وهوائه وسحابه وطيره وما اودع فيه والعالم السفلي كله مسخر له مخلوق لمصالحه ارضه وجباله وبحاره وأنهاره وأشجاره وثماره ونباته وحيوانه وكل ما فيه كما قال تعالى الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره الى قوله يتكفرون وقال تعالى الله الذي خلق السموات والارض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم الى قوله كفار فالسائر في معرفة آلاء الله وتأمل حكمته وبديع صفاته اطول باعا وأملأ صواعا من اللصيق بمكانه المقيم في بلد عادته وطبعه راضيا بعيش بني جنسه لا يرضى لنفسه إلا ان يكون واحدا منهم يقول لي اسوة بهم وهل


    انا الا من ربيعة او مضر وليست نفائس البضائع الا لمن امتطى غارب الاغتراب وطوف في الافاق حتى رضى من الغنيمة بالاياب فاستلان ما استوعره البطالون وأنس بما استوحش منه الجاهلون
    فصل فاعد النظر في نفسك وحكمة الخلاق العليم في خلقك وانظر الى
    الحواس التي منها تشرف على الاشياء كيف جعلها الله في الراس كالمصابيح فوق المنارة لتتمكن بها من مطالعة الاشياء ولم تجعل في الاعضاء التي تمتهن كاليدين والرجلين فتتعرض للافات بمباشرة الاعمال والحركات ولاجعلها في الاعضاء التي في وسط البدن كالبطن والظهر فيعسر عليك التلفت والاطلاع على الاشياء فلما لم يكن لها في شيء من هذه الاعضاء موضع كان الراس اليق المواضع بها وأجملها فالراس صومعة الحواس ثم تأمل الحكمة في ان جعل الحواس خمسا في مقابلة المحسوسات الخمس ليلقى خمسا بخمس كي لا يبقى شيء من المحسوسات لا يناله بحاسة فجعل البصر في مقابلة المبصرات والسمع في مقابلة الاصوات والشم في مقابلة أنواع الروائح المختلفات والذوق في مقابلة الكيفيات المذوقات واللمس في مقابلة الملموسات فأي محسوس بقي بلا حاسة ولو كان في المحسوسات شيء غير هذه لاعطاك له حاسة سادسة ولما كان ما عداها إنما يدرك بالباطن اعطاك الحواس الباطنة وهي هذه الاخماس التي جرت عليها السنة العامة والخاصة حيث يقولون في المفكر المتأمل ضرب اخماسه في أسداسه فأخماسه حواسه الخمس واسداسه جهانه الست وأرادوا بذلك انه جذبه القلب وسار به في الاقطار والجهات حتى قلب حواسه الخمس في جهاته ألست وضربها فيها لشدة فكره
    فصل ثم اعينت هذه الحواس بمخلوقات اخر منفصلة عنها تكون واسطة في
    احساسها فاعينت حاسة البصر بالضياء والشعاع فلولاه لم ينتفع الناظر ببصره فلو منع الضياء والشعاع لم تنفع العين شيئا واعينت حاسة السمع بالهواء يحمل الاصوات في الجو ثم يلقيها الى الاذن فتحويه ثم تقلبه الىالقوة السامعة ولولا الهواء لم يسمع الرجل شيئا واعينت حاسة الشم بالنسيم اللطيف يحمل الرائحة ثم يؤديها اليها فتدركها فلولا هو لم تشم شيئا واعينت حاسة الذوق بالريق المتحلل في الفم تدرك القوة الزائقة به طعوم الاشياء ولهذا لم يكن له طعم لا حلو ولا حامض ولا مالح ولا حريف لانه كان يحيل تلك الطعوم الى طعمه ولا يحصل به مقصوده واعينت حاسة اللمس بقوة جعلها الله فيها تدرك بها الملموسات ولم تحتج الى شيء


    من خارج بخلاف غيرها من الحواس بل تدرك الملموسات بلا واسطة بينها وبينها لانها إنما تدركها بالاجتماع والملامسة فلم تحتج الىواسطة
    فصل ثم تأمل حال من عدم البصر وما يناله من الخلل في أموره فإنه
    لا يعرف موضع قدمه ولا يبصر ما بين يديه ولا يفرق بين الالوان والمناظر الحسنة من القبيحة ولا يتمكن من استفادة علم من كتاب يقرأه ولايتهيأ له الاعتبار والنظر في عجائب ملك الله هذا مع انه لا يشعر بكثير من مصالحه ومضاره فلا يشعر بحفرة يهوى فيها ولا بحيوان يقصده كالسبع فيتحرز له ولا بعدو يهوى نحوه ليقتله ولا يتمكن من هرب ان طلب بل هو ملق السلم لمن رامه باذى ولولا حفظ خاص من الله له قريب من حفظ الوليد وكلاءته لكان عطبه اقرب من سلامته فإنه بمنزلة لحم على وضم ولذلك جعل الله ثوابه إذا صبر واحتسب الجنةومن كمال لطفه ان عكس نوربصره الى بصيرته فهو اقوى الناس بصيرة وحدسا وجمع عليه همه فقلبه مجموع عليه غير مشتت ليهنأ له العيش وتتم مصلحته ولا يظن انه مغموم حزين متاسف هذا حكم من ولد اعمى فأما من اصيب بعينيه بعدالبصر فهو بمنزلة سائر اهل البلاء المنتقلين من العافية الى البلية فالمحنة عليه شديدة لانه قد حيل بينه وبين ما الفه من المرائي والصور ووجوه الانتفاع ببصره فهذا له حكم آخر وكذلك من عدم السمع فإنه يفقد روح المخاطبة والمحاورة ويعدم لذة المذاكرة ونغمة الاصوات الشجية وتعظم المؤنة علىالناس في خطابه ويتبرمون به ولا يسمع شيئا من اخبار الناس واحاديثهم فهو بينهم شاهد كغائب وحي كميت وقريب كبعيد وقد اختلف النظار في ايهما اقرب الى الكمال واقل اختلالا لاموره الضرير او الاطرش وذكروا في ذلك وجوها وهذا مبني على اصل آخر وهو أي الصفتين اكمل صفة السمع او صفة البصر وقد ذكرنا الخلاف فيهما فيما تقدم من هذا الكتاب وذكرنا اقوال الناس وأدلتهم والتحقيق في ذلك فأي الصفتين كانت اكمل فالضرر بعدمها اقوى والذي يليق بهذا الموضع ان يقال عادم البصر اشدهما ضررا وأسلمهما دينا واحمدهما عاقبة وعادم السمع اقلهما ضررا في دنياه واجهلهما بدينه واسوا عاقبة فإنه إذا عدم السمع عدم المواعظ والنصائح وانسدت عليه ابواب العلوم النافعة وانفتحت له طرق الشهوات التي يدركها البصر ولا يناله من العلم ما يكفه عنها فضرره في دينه اكثر وضرر الاعمى في دنياه اكثر ولهذا لم يكن في الصحابة اطرش وكان فيهم جماعة اضراء وقل ان يبتلى الله اولياءه بالطرش ويبتلى كثيرا منهم بالعمى فهذا فصل الخطاب في هذه المسئلة فمضرة الطرش في الدين ومضرة العمى في الدنيا والمعافى من عافاه الله منهما ومتعه بسمعه وبصره وجعلهما الوارثين منه

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفلا ينظرون

    فصل وأما من عدم البيانين بيان القلب وبيان اللسان فذلك بمنزلة
    الحيوانات البهيمة بل هي احسن حالا منه فإن فيها ما خلقت له من المنافع والمصالح التي تستعمل فيها وهذا يجهل كثيرا مما تهتدي اليه البهائم ويلقى نفسه فيما تكف البهائم انفسها عنه وان عدم بيان اللسان دون بيان القلب ومن عدم خاصة الانسان وهي النطق اشتدت المؤمنة به وعليه وعظمت حسرته وطال تأسفه على رد الجواب ورجع الخطاب فهو كالمقعد الذي يرى ما هو محتاج اليه ولا تمتد اليه يده ولا رجله فكم لله على عبده من نعمة سابغة فيهذه الاعضاء والجوارح والقوى والمنافع التي فيه فهو لا يلتفت اليها ولا يشكر الله عليها ولو فقد شيئا منها لتمنى انه له بالدنيا وما عليها فهو يتقلب في نعم الله بسلامة اعضائه وجوارحه وقواه وهو عار من شكرها ولوعرضت عليه الدنيا ما فيها بزوال واحدة منها لابي المعاوضة وعلم انها معاوضة غبن ان الانسان لظلوم كفور
    فصل ثم تأمل حكمته في الاعضاء التي خلقت فيك آحادا ومثنى وثلاث
    ورباع وما في ذلك من الحكم البالغة فالراس واللسان والانف والذكر خلق كل منهما واحدا فقط إذلا مصلحة في كونه اكثر من ذلك الا ترى انه لو اضيف الى الراس راس آخر لاثقلا بدنه من غير حاجة اليه لان جميع الحواس التي يحتاج اليها مجتمعة في رأس واحد ثم ان الانسان كان ينقسم براسه قسمين فإن تكلم من احدهما وسمع به وابصر وشم وذاق بقي الاخر معطلا لا أرب فيه وإن تكلم وابصر وسمع بهما معا كلاما واحدا وسمعا واحدا وبصرا واحدا كان الاخر فضله لا فائدة فيه وإن اختلف إدراكهما اختلفت عليه احواله وإدراكاته وكذلك لو كان له لسانان في فم واحد فإن تكلم بهما كلاما واحدا كان احدهما ضائعا وان تكلم باحدهما دون الاخر فكذلك وان تكلم بهما معا كلامين مختلفين خلط على السامع ولم يدر باي الكلامين يأخذ وكذلك لو كان له هنوان وفمان لكان مع قبح الخلقة احدهما فضلة لا منفعة فيه وهذا بخلاف الاعضاء التي خلقت مثنى كالعينين والاذنين والشفتين واليدين والرجلين والساقين والفخذين والوركين والثديين فإن الحكمة فيها ظاهرة والمصلحة بينه والجمال والزينة عليها بادية فلو كان الانسان بعين واحدة لكان مشوه الخلقة ناقصها وكذلك الحاجبان وأما اليدان والرجلان والساقان والفخذان فتعددهما ضروري للانسان لا تتم مصلحته الا بذلك الا ترى من قطعت احدى يديه او رجليه كيف تبقى حاله وعجزه فلو ان النجار والخياط والحداد والخباز والبناء واصحاب الصنائع التي لا تتأتى الا باليدين شلت يد احدهما لتعطلت عليه صنعته فاقتضت الحكمة


    ان اعطى من هذا الضرب من الجوارح والاعضاء اثنين اثني وكذلك اعطى شفتين لانه لا تكمل مصلحته إلا بهما وفيهما ضروب عديدة من المنافع ومن الكلام والذوق وغطاء الفم والجمال والزينة والقبلة وغير ذلك وأما الاعضاء الثلاثة فهي جوانب انفه وحيطانه وقد ذكرنا حكمة ذلك فيما تقدم واما الاعضاء الرباعية فالكعاب الاربعة التي هي مجمع القدمين والممسكة لهما وبهما قوة القدمين وحركتهما وفيهما منافع الساقين وكذلك اجفان العينين فيها من الحكم والمنافع انها غطاء للعينين ووقاية لهما وجمال وزينة وغير ذلك من الحكم فاقتضت الحكمة البالغة ان جعلت الاعضاء على ما هي عليه من العدد والشكل والهيئة فلو زادت او نقصت لكان نقصا في الخلقة ولهذا يوجد في النوع الانساني من زائد في الخلقة وناقص منها ما يدل على حكمة الرب تعالى وأنه لو شاء لجعل خلقه كلهم هكذا وليعلم الكامل الخلقة تمام النعمة عليه وانه خلق خلقا سويا معتدلا لم يزد في خلقه مالا يحتاج اليه ولم ينقص منه ما يحتاج اليه كما يراه في غيره فهو اجدر ان لم يزداد شكرا وحمدا لربه ويعلم ان ذلك ليس من صنع الطبيعة وإنما ذلك صنع الله الذي اتقن كل شيء خلقه وانه يخلق ما يشاء
    فصل من اين للطبيعة هذا الاختلاف والفرق الحاصل في النوع الانسان
    بين صورهم فقل ان يرى اثنان متشابهان من كل وجه وذلك من اندر ما في العالم بخلاف اصناف الحيوان كالنعم والوحوش والطير وسائر الدواب فإنك ترى السرب من الظباء والثلة من الغنم والذود من الابل والصوار من البقر تتشابه حتى لا يفرق بين واحد منهما وبين الاخر إلا بعد طول تأمل او بعلامة ظاهرة والناس مختلفة صورهم وخلقتهم فلا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة وخلقة واحدة بل ولا صوت واحد وحنجرة واحدة والحكمة البالغة في ذلك ان الناس يحتاجون الى ان يتعارفوا بأعينهم وحلاهم لما يجرى بينهم من المعاملات فلولا الفرق والاختلاف في الصور لفسدت احوالهم وتشت نظامهم ولم يعرف الشاهد من المشهود عليه ولا المدين من رب الدين ولا البائع من المشتري ولا كان الرجل يعرف عرسه من غيرها للاختلاط ولا هي تعرف بعلها من غيره وفي ذلك اعظم الفساد والخلل فمن الذي ميز بين حلاهم وصورهم واصواتهم وفرق بينها بفروق لا تنالها العبارة ولا يدركها الوصف فسل المعطل اهذا فعل الطبيعة وهل في الطبيعة اقتضاء هذا الاختلاف والافتراق في النوع وأين قول الطبائعيين ان فعلها متشابه لانها واحدة في نفسها لا تفعل بإرادة ولا مشيئة فلا يمكن اختلاف افعالها فكيف يجمع المعطل بين هذا وهذا فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وربما وقع في النوع الانساني تشابه بين اثنين لا يكاد يميز بينهما فتعظم عليهم المؤنة في


    معاملتهما وتشتد الحاجة الى تمييز المستحق منهما والمؤاخذ بذنبه ومن عليه الحق وإذا كان هذا يعرض في التشابه في الاسماء كثيرا ويلقى الشاهد والحاكم من ذلك ما يلقى فما الظن لو وضع التشابه في الخلقة والصورة ولما كان الحيوان البهيم والطير والوحوش لا يضرها هذا التشابه شيئا لم تدع الحكمة الى الفرق بين كل زوجين منها فتبارك الله احسن الخالقين الذي وسعت حكمته كل شيء

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفلا ينظرون

    قل للطبيب الفيلسوف بزعمه ** إنّ الطبيعة علمها برهان
    أين الطبيعة عند كونك نطفة ** في البطن إذ مشجت به المآن
    أين الطبيعة حين عدت عليقة ** في أربعين و أربعين تواني
    أين الطبيعة عند كونك مضغة ** في أربعين و قد مضى العددان
    أترى الطبيعة صوّرتك مصوّرا ** بمسامع و نواظر و بنان
    أترى الطبيعة أخرجتك منكسا ** من بطن أمّك واهي الأركان
    أم فجّرت لك باللبان ثديها ** فرضعتها حتى مضى الحولان
    أم صيّرت في والديك محبّة ** فهما بما يرضيك مغتبطان
    يا فيلسوف لقد شُغِلت عن الهدى ** بالمنطق الروميّ و اليوناني

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: أفلا ينظرون

    لله في الآفاق آيــــــــات لعـــــلّ أقلها هو ما إليه هــــــــــــــ ـــــــــــــــ داكَ
    ولعل ما في النفـــــس من آيــــــــاته عجبٌ عجابٌ لو ترى عينــــــــــــ اكَ
    والكون مشحــــون بأســـــــــرار إذا حاولت تفسيراً لها أعيــــــــــــ ــــاكَ
    قل للطبـــــيب تخطفته يد الـــــــــردى من يا طبـــــــــيب بطبِّــــــــه أرداكَ
    قل للمريض نجــــــــــا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عــــــــافاكَ
    قل للصحـــــــــــ ـيح يموت لا من علة من بالمنـــــايا يا صحيح دهـــــــاكَ
    قل للبصـــــير وكــــــــان يحذر حفرة ً فهوى بها من ذا الذي أهــــــــواكَ
    بل سائل الأعمـــــى خطا بين الزحـام بلا اصطــــــــــدا م من يقود خــطاكَ
    قل للجنين يعيش معـــــــــــــ ــزولاً بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعــــــــــاك َ
    قل للوليد بكـــــــى وأجهش بالبــــكاءِ لدى الولادة ما الذي أبكــــــــــــ ــاكَ
    وإذا ترى الثعبــــــــان ينفث ســــــُمَّه فاسأله من ذا بالسموم حشــــــــاكَ
    واسأله كيف تعيش يا ثعبــــــــــــ ـــان أو تحيــا وهذا السم يملأُ فــــــــــاكَ
    واسأل بطون النحـــــل كيف تقـاطرت شهـــــــــــــ داً وقل للشهد من حـلاّكَ
    بل سائل اللبن المصفـــــى كان بــيـن دمٍ وفرثٍ من الذي صفّــــــــــــ ــــاكَ
    وإذا رأيت الحي يخرج من حنايا ميت فاسأله من يا حي قد أحيــــــــــــ ـاكَ
    قـــــل للنبـــــــــــ ــــات يجـف بعد تعهدٍ ورعايةٍ من بالجفافِ رمـــــــــــــ اكَ
    وإذا رأيت النبت في الصحـــــــــــ راء يربو وحده فاسأله من أربـــــــــــا كَ
    وإذا رأيت البــــــــــــ در يســـــــــــري ناشراً أنواره فاسأله من أســــــراكَ
    واسأل شعـــــــــــــ ــــاع الشمس يدنو وهي أبعد كل شيء ما الذي أدنــاكَ
    قل للمريــــــــــ ـر من الثمار من الذي بالمر من دون الثمارغــــــــ ــــــذاكَ
    وإذا رأيت النخل مشقـــــــــوق النوى فاسأله مـــــــــــن يا نخل شق نواكَ
    وإذا رأيت النـــــــار شب لهيبـــــــــها فاسأل لهيب النــــــــــــ ار من أوراكَ
    وإذا ترى الجــــــــبل الأشم مناطحـــاً قمم الســــــــــحا ب فسله من أرساكَ
    وإذا ترى صخراً تفجر بالميــــــــــ ــاه فسله مـــــــــن بالماء شق صفــــاكَ
    وإذا رأيت النــــــــــهر بالعذب الزلال سرى فسله مــــــــــن الذي أجـــراكَ
    وإذا رأيت البحر بالمـــــــــاء الأجاج طغى فسله مـــــــــــــن الذي أطغــاكَ
    وإذا رأيت الليل يغشــــــــــــ ــى داجياً فاسأله من يا ليل حاك دجـــــــــــــ اكَ
    وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحكـــــــــاً فاسأله من يا صبح صاغ ضحــــــاكَ
    ستجيب ما في الكــــــــون من آيــاته عجبٌ عجابٌ لـــــــــو ترى عينــــــاكَ
    ربي لك الحمد العظـــــــــــ ــــيم لذاتك حمداً وليــــــــــــ ـــــــــس لواحدٍ إلاّ كَ
    يا مدرك الأبصــــــار والأبصـــــــــ ـار لا تدركه ولكنـــــــــــ ـــه إدراكَ
    إن لم تكــــــــــن عيني تراك فإننــــي في كل شيء أستبيـــن عـــــــــــــل اكَ
    يا مُنبت الأزهار عاطـــــــــرة الشذى ما خاب يومــــــــــــ اً من دعا ورجاكَ
    يا مجري الأنهــــــــــ ـار عاذبة الندى ما خاب يومـــــــاً من دعا ورجـــــاكَ
    يا أيهـــــــــــا الإنســان مهلاً ما الذي با لله جل جلاله أغـــــــــــــ ــــــــــراكَ

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •