تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 49

الموضوع: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

  1. #1

    افتراضي تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    قال الشيخ الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآباذي رحمه الله:
    الْحَمدُ للهِ حقَّ حَمدِه وَصلوات الله على مُحَمَّد خير خلقِهِ وعَلى أصحابه وأهل بَيتهِ.
    لما رَأَيْت حَاجَة من يتفقه ماسّة الى معرفَة مَا يُعْتَرضُ بِهِ على الأدلة وَمَا يُجَاب بِهِ عَن الاعتراضات، وَوجدت مَا عملت من الملخص فِي الجدل مَبْسُوطا، صنفت هَذِه الْمُقدمَة لتَكون مَعُونَةً للمبتدئينَ وَتَذْكِرَة للمنتهينَ، مجزية فِي الجدل، كَافِيَة لأهل النّظر، وقدمّت على ذَلِك بَابا فِي بَيَان الأدلة ليَكُون مَا بعده من الاعتراضات والأجوبة على ترتيبهِ.
    وَمَا توفيقي إلا بِاللَّه عَلَيْهِ توكّلت وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل، وإيّاه أسأَل أَن ينفع بِهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة إنه قريب مُجيبٌ.


    أقول: علم الجدل من العلوم التي تكاد تموت في هذا العصر مع أن حاجة من يتفقه إليه ماسّة كما قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله، وإن كتاب المعونة في الجدل من أفضل ما صنف في هذا العلم، ولم أجد له شرحا ولا حاشية، وكان قد سألني بعض الأصحاب أن أشرحه له فرأيت أن أكتب عليه ما يفتح الله به وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت هو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
    علم الجدل: مسائل يبحث فيها عن الأدلة الشرعية الإجمالية من حيث ما يعترض به عليها وما يجاب به.
    وموضوعه: الأدلة الشرعية الإجمالية من حيث الاعتراضات الواردة والأجوبة عنها.
    وفائدته: معرفة طريق المناظرة في الفروع الفقهية.
    وهذا العلم من فروع علم المناظرة إلا أنه خصّ بالأدلة الشرعية الإجمالية كالكتاب والسنة والإجماع والقياس.
    مثاله: من مسائل علم الجدل"أن الاعتراض على دليل الخصم بأنه مبني على قاعدة أصولية لا يحتج هو بها اعتراض موجّه مقبول"
    كأن يحتج الحنفي على حكم شرعي بآية من كتاب الله ويتوقف الاحتجاج بها على القول بمفهوم المخالفة، وهو يصرح في علم أصول الفقه بأنه ليس بحجة فيتوجه الاعتراض عليه بذلك.
    ثم يبين في هذا العلم بماذا يمكن أن يدفع هذا الاعتراض كأن يخصص بعض المفاهيم بأن يقول الحنفي إن مفهوم المخالفة أنواع ومنه مفهوم الشرط وهو عند بعض أصحابنا حجة دون البقية وأنا أقول به.
    فالفقهاء قد يحتجون على الحكم بآية أو حديث أو إجماع أو قياس فيبين في هذا العلم الاعتراضات المقبولة التي يصح الاعتراض بها على دليلهم، ثم يبين ما يمكن أن يجاب به عن تلك الاعتراضات.

  2. #2

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ أدلَّةِ الشَّرْع
    وأدلة الشَّرْع ثَلَاثَة: أصلٌ، ومعقولُ أصلٍ، واستصحابُ حَال.
    فالأصلُ ثَلَاثَةٌ: الْكتابُ، وَالسّنةُ، والإجماعُ. وأضاف اليه الشَّافِعِيُّ رَحمَه الله فِي الْقَدِيم قَولَ الْوَاحِد من الصَّحَابَة فَجعله أربعة.


    أقول: قبل بيان الاعتراضات والأجوبة أراد أن يبين الأدلة بشكل مختصر.
    فأدلة الشرع هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب.
    وقسمه المصنف إلى ثلاثة: أصل ومعقول أصل- القياس- واستصحاب حال.
    فالأصل ثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع.
    وأضاف إليه الإمام الشافعي رحمه الله في قوله القديم قول الواحد من الصحابة فإنه حجة يقدم على القياس، فإن اختلفوا كان اختلافهم كاختلاف الحجج- كأن يختلف حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيرجح أحدها من خارج، فجعل الأصل أربعة، وأما في القول الجديد فلم يحتج بقول الواحد من الصحابة واختلافهم كاختلاف المجتهدين لا كاختلاف الحجج.

  3. #3

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    فأما الْكتابُ فدلالته ثَلَاثَة النَّص وَالظَّاهِر والعموم.
    فالنَّصُّ هُوَ :اللَّفْظُ الَّذِي لَا يحْتَمل إلا معنى وَاحِدًا.
    كَقَوْلِه تَعَالَى {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} {وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} وَمَا أشبهَ ذَلِك مِمَّا لَا يحْتَملُ إلا معنىً وَاحِدًا.
    وَحكمه أن يُصَار إليه وَلَا يتْرك إلا بِنَصّ يُعَارضهُ.

    أقول: المنطوق إما أن لا يحتمل إلا معنى واحدا، وإما أن يحتمل، فالذي لا يحتمل إلا معنى واحدا هو النص مثل: هذا زيدٌ، والذي يحتمل إما أن يكون أحد المعاني أظهر فيه، وإما أن لا يكون أحد المعاني أظهر فيه، فالأول هو الظاهر مثل: جاء الأسدُ، يحتمل الحيوان والشجاع، لكنه في الحيوان أظهر لأنه حقيقة اللفظ، والثاني هو المجمل مثل: هذا جون، يحتمل الأبيض والأسود.
    وأما العام فهو مندرج في الظاهر؛ لأن الظاهر ما احتمل أمرين وهو في أحدهما أظهر، والعام ظاهر في العموم، محتمل في الخصوص.
    ومن دلالة النص قوله تعالى: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} وقوله {وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} وقوله: { محمد رسول الله} وقوله: { ولكم نصف ما ترك أزواجكم} ونحوها من النصوص الصريحة في بيان الأحكام التي لا تحتمل إلا المعنى المفهوم من منطوقها.
    وَحكم النص أن يُصَار إليه ويعمل به وَلَا يتْرك إلا بِنَصّ يُعَارضهُ فيصار حينئذ إلى النسخ أو الترجيح.

  4. #4

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    وَالظَّاهِرُ: كلُّ لفظٍ احْتملَ أمرينِ وَهُوَ فِي أحدهما أظهر.
    وَهُوَ ضَرْبَانِ: ظَاهرٌ بِوَضْع اللُّغَة. كالأمر يحْتَمل الإيجابَ وَيحْتَمل الندبَ إِلَّا أنه فِي الإيجاب أظهر، وكالنهي يحْتَمل التَّحْرِيم وَيحْتَمل الْكَرَاهَة والتنزيه إلا أنه فِي التَّحْرِيم أظهر، وكسائر الألفاظ المحتملة لمعنيين وَهُوَ فِي أحدهما أظهر. وَحكمه أن يحمل على أظهر الْمَعْنيين وَلَا يحمل على غَيره إلا بِدَلِيل.
    وَظَاهرٌ بِوَضْع الشَّرْع كالأسماء المنقولة من اللُّغَة إلى الشَّرْع كَالصَّلَاةِ فِي اللُّغَة اسْم للدُّعَاء وَفِي الشَّرْع اسْم لهَذِهِ الافعال الْمَعْرُوفَة، وَالْحج فِي اللُّغَة اسْم للقصد وَفِي الشَّرْع اسْم لهَذِهِ الأفعال الْمَعْرُوفَة وَغير ذَلِك من الأسماء المنقولة من اللُّغَة إلى الشَّرْع.
    وَحكمه أن يحمل على مَا نُقل إليه فِي الشَّرْع وَلَا يحمل على غَيره إلا بِدَلِيل.
    وَمن أصحابنا من قَالَ: لَيْسَ فِي الأسماء شَيْء مَنْقُول بل الصَّلَاة هِيَ الدُّعَاء وَالْحج هُوَ الْقَصْد وإنما هَذِه الافعال زيادات أضيفت إليها وليست مِنْهَا كَمَا أضيفت الطَّهَارَة إلى الصَّلَاة وَلَيْسَت مِنْهَا، فعلى هَذَا تحمل هَذِه الألفاظ على موضوعها فِي اللُّغَة وَلَا تحمل على غَيره إلا بِدَلِيل.

    أقول: الظاهر: ما احتمل أمرين هو في أحدهما أظهر. كالأسد. وهو نوعان:
    1- ظاهر بوضع اللغة كالأمر يحتمل الوجوب والندب ولكن المعنى الحقيقي الظاهر في وضع اللغة هو الإيجاب.
    ومثل النهي يحتمل التحريم والكراهة إلا أنه في التحريم أظهر.
    ومثل: الألفاظ التي تحتمل الحقيقة والمجاز إلا أنها في الحقيقة أظهر.
    وحكم هذا النوع أنه يحمل على أظهر المعاني ولا يصار إلى غيره إلا بدليل، فإن وجد الدليل حمل على المعنى الثاني ويسمى حينئذ ظاهرا بالدليل.
    وذلك مثل قوله عز وجل: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء. فلفظه موضوع للخبر إلا أن الدليل دلّ على أنه لا يجوز أن يكون المراد به الخبر؛ لأنا لو جعلناه خبرا لوقع خلاف مخبره؛ لأنا نرى من المطلقات من يتربصن، ومن لا يتربصن، وخبر الله سبحانه وتعالى لا يقع بخلاف مخبَره، فثبت أنه أراد به الأمر فيحمل على ذلك ولا يعدل عنه إلا بدليل. اهـ الملخص في الجدل.
    2- ظاهر بوضع الشرع كالصلاة موضوعة في الشرع لهذه الأفعال وهي في اللغة للدعاء، والصوم موضوع في الشرع للإمساك المخصوص وهو في اللغة لمطلق الإمساك، والحج موضوع للأفعال المعلومة ومعناه في اللغة هو القصد.
    وحكم هذا النوع أن يحمل في النصوص الشرعية على الوضع الشرعي إلا بدليل.
    هذا هو القول المشهور.
    ومن الشافعية من قال: ليس في الأسماء شيء منقول من اللغة إلى الشرع بل الصلاة في الشرع هي الدعاء إلا أن الشرع أضاف لها هذه الأفعال كالركوع والسجود، وهي ليست منها، كما أضاف الشرع الطهارة للصلاة وليست منها اتفاقا.
    وكذلك الحج اسم للقصد، والطواف والسعي زيادات أضيفت إلى الحج وليست من الحج بل هي شروط في الاعتداد به شرعا. وكذا القول في الصوم والزكاة ونحوهما.
    فعلى قولهم تحمل هذه الألفاظ على معناها اللغوي ولا تحمل على غيره إلا بدليل.
    والدليل على أن هذه الأسماء منقولة كما هو قول الجمهور أنها إذا أطلقت في لسان الشرع لم يعقل ويتبادر منها المعاني التي وضعت لها في اللغة، فدل على أنها منقولة إذْ لا يفهم من قوله تعالى: وأقيموا الصلاة. أن المقصود أقيموا الدعاء.

  5. #5

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    والعمومُ: كلُّ لفظٍ عَمَّ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا على وَجهٍ وَاحِدٍ لَا مزيَّة لأحدهما على الآخر.
    وألفاظُهُ أربعةٌ: أسماء الجموع كالمسلمين وَالْمُشْرِكين والأبرار والفجّار.
    وَالِاسْم الْمُفْرد إذا عرِّف بالألف وَاللَّام كَالرّجلِ وَالْمَرْأَة وَالْمُسلم والمشرك.
    وَمن أصحابنا من قَالَ: لَيْسَ هَذَا من ألفاظ الْعُمُومِ.
    والأول أصحّ.
    والأسماء المبهمة كـ "مَن" فِيمَن يعقل وَ"مَا" فِيمَا لَا يعقل وَ"أيّ" فِي الْجَمِيع وَ"حَيْثُ" وَأَيْنَ" فِي الْمَكَان وَ"مَتى" فِي الزَّمَانِ.
    وَالنَّفْي فِي النكرات كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا يقتلُ مُسلمٌ بِكَافِر. وَمَا رَأَيْتُ رجلا وَمَا أشبهه.
    فَحكم هَذِه الألفاظ أن تحمل على الْعُمُوم وَلَا يخصّ مِنْهُ شَيْءٌ إلا بِدَلِيل.

    أقول: ذو العموم وهو اللفظ العام: اللفظ الذي عمّ شيئين فصاعدا، على وجه واحد لا مزية لأحدهما على الآخر. مثل: الرجال.
    وقوله: "على وجه واحد" أي يتناولها تناولا واحدا احترز به عن تناول اللفظ المشترك لمعانيه مثل: تناول لفظ القرء للحيض والطهر فإنه لا يسمى عاما لأنه على البدل.
    وقوله: "لا مزية لأحدهما على الآخر" يخرح تناول اللفظ لحقيقته ومجازه معا فإن للحقيقة مزية على المجاز فليس عاما.
    وصيغ العموم أربعة:
    1- أسماء الجموع- أي اللفظ الدال على جماعة- كالمسلمين والمشركين والأبرار والفجار.
    2- الاسم المفرد إذا عرف بالألف واللام كالرجل والمرأة والمسلم والمشرك والسارق والقاتل.
    ومن أصحابنا من قال: إن الاسم المفرد المعرف بالألف واللام يحمل على العهد ولا عموم فيه.
    والقول الأول أصح لأن الله تعالى يقول: إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا. والاستثناء دليل العموم.
    مثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: استنزهوا من البول. رواه الحاكم. فقيل إن البول عام ولذا استدل به على نجاسة جميع الأبوال. وأما من قال بطهارة بول المأكول كالإمام مالك فيمنع العموم.
    3- الأسماء المبهمة كمَن فيمن يعقل وما فيما لا يعقل وأي في الجميع العاقل وغير العاقل، وحيث وأين في المكان، ومتى في الزمان.
    4- النفي في النكرات مثل: لا رجل في الدار وما رأيت رجلا وما عندي شيء.
    ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: لا يقتل مسلم بكافر. رواه البخاري فيعم كل كافر ذميا أو معاهدا أو مستأمنا.
    وحكم هذا النوع أن يحمل على العموم ولا يخص من العموم شيء إلا بدليل.

  6. #6

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    وأما السّنة فدلالتها ثَلَاثَة: قَولٌ وَفعل وإقرار.
    فَالْقَوْلُ على ضَرْبَيْنِ: مُبْتَدأ، وخارج على سَبَبٍ.
    فالمبتدأ يَنْقَسِم إلى مَا يَنْقَسِم إليه الْكتاب من النَّص وَالظَّاهِر والعموم.
    فالنصُّ كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام فِي أربعينَ شَاة شَاةٌ. وَمَا أشبهه.
    فَحكمه أن يُصَار إليه وَلَا يتْرك إلا بِنَصّ يُعَارضهُ.
    وَالظَّاهِر كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: حتِّيه ثمَّ اقرصيه ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ. فَيحمل على الْوُجُوب وَلَا يصرف إلى الِاسْتِحْبَاب إلا بِدَلِيل.
    والعموم كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: مَنْ بدّل دينه فَاقْتُلُوهُ. فَيحمل على الْعُمُوم فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء وَلَا يخص إلا بِدَلِيل.
    وَالْخَارِجُ على سَبَب ضَرْبَان: مُسْتَقِلٌّ دون السَّبَب كَمَا رُوِيَ أنه قيل لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام: إنك تتوضأ من بِئْر بضَاعَة وإنما يطْرَح فِيهَا دم المحايض وَلُحُوم الْكلاب وَمَا يُنجي النَّاس فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شَيْء.
    فَحكمُهُ حكم القَوْل المبتدأ.
    وَمن أصحابنا من قَالَ: يقصر على السَّبَب الَّذِي ورد فِيهِ وَلَيْسَ بِشَيْء.
    وَضرب لَا يسْتَقلّ دون السَّبَب كَمَا رُوِيَ أن أعرابيا قَالَ لَهُ: جامعتُ فِي شهر رَمَضَان بِالنَّهَارِ. فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَة.
    فَيصير قَول الرَّسُول مَعَ السَّبَب كالجملة الْوَاحِدَة كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: اذا جامعتَ فاعتقْ.

    أقول: السنة قول وفعل وإقرار.
    والقول ضربان: مبتدأ لم يقع على سبب، وخارج على سبب.
    1- المبتدأ وهو ثلاثة أقسام: نص وظاهر وعام.
    مثال النص قوله عليه الصلاة والسلام: في كل أربعين شاة شاة. رواه أبو داود. ومثل: قوله: فيما سقت السماء والأنهار والعيون العشر. رواه مسلم.
    فحكمه أن يصار إليه ولا يترك إلا بنص يعارضه.
    ومثال الظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ. رواه البخاري ومسلم. وظاهر الأمر يقتضي الوجوب.
    وحكم هذا النوع هو أن يصار إلى ما ظهر منه ولا يعدل عنه إلا بدليل.
    ومثال العموم: قوله عليه الصلاة والسلام: من بدل دينه فاقتلوه. رواه البخاري. فيعم الرجال والنساء.
    وحكم هذا النوع هو أن يصار إلى عمومه ولا يخص منه شيء إلا بدليل.
    2- الخارج على سبب. وهو ضربان: مستقل، وغير مستقل.
    أ- المستقل وهو الذي إذا روي مفردا عن السبب عقل معناه وعرف المراد منه. كما في الحديث أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من بئر بضاعةَ وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنَّتنُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماء طهور لا ينجّسه شيء. رواه أبو داود. فقوله: الماء طهور لا ينجسه شيء. مستقل يصح الاستدلال به في غير محل وروده ولا يقصر على السبب الذي ورد فيه.
    وحكم هذا النوع حكم القول المبتدأ.
    ومن أصحابنا من قال: يقصر على السبب الذي ورد فيه.
    وليس بشيء لأن اللفظ عام فوجب حمله على عمومه.
    ب- غير مستقل وهو الذي إذا أفرد عن السؤال لم يعرف معناه وافتقر إلى معرفة المراد الذي ضم السؤال إليه.
    كما في حديث الأعرابي الذي جامع أهله في رمضان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتق رقبة. رواه البخاري ومسلم. فهذا الجواب يكون مقصورا على ما وقع السؤال عنه فيختص به ولا يتعداه إلى غيره؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة". لا يعقل معناه إذا روي مفردا عن السبب لأنه معلق على شرط يعلم من سبب الحديث.
    وحكم هذا النوع أنه يصير قول النبي صلى الله عليه وسلم مع السبب كالجملة الواحدة كأنه قال: إذا جامعت فأعتق.

  7. #7

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    وأما الْفِعْلُ فضربانِ:
    أحدهما: مَا فعله على غير وَجهِ الْقُرْبَةِ كالمشي والأكلِ وَغَيرِهمَا فَيدلُّ على الْجَوَاز.
    وَالثَّانِي: مَا فعله على وَجه الْقرْبَة فَهُوَ على ثَلَاثَة أضرب:
    أحدها: أن يكون امتثالا لأمر فَيُعْتَبر بذلك الأمر إن كَانَ وَاجِبا فَهُوَ وَاجِب، وإن كَانَ ندبا فَهُوَ ندب.
    وَالثَّانِي: أن يكون بَيَانا لمجمل فَيعْتَبر بالمبيّن إن كَانَ وَاجِبا فَهُوَ وَاجِب، وإن كَانَ ندبا فَهُوَ ندبٌ.
    وَالثَّالِث: أن يكون مُبْتَدأ فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه:
    أحدهما: أنه يَقْتَضِي الْوُجُوب وَلَا يصرف إلى غَيره إلا بِدَلِيل.
    وَالثَّانِي: أنه يَقْتَضِي النّدب وَلَا يصرف إلى غَيره إلا بِدَلِيل.
    وَالثَّالِث: أنه على الْوَقْف فَلَا يحمل على وَاحِد مِنْهُمَا إلا بِدَلِيل.

    أقول: فعل النبي صلى الله عليه وسلم نوعان:
    أولا: ما فعله على غير وجه القربة والطاعة كالبيع والاكل والشرب والنوم فيدلّ على الجواز.
    ثانيا: ما فعله على وجه القربة والطاعة كالصلاة والصوم والحج فهذا على ثلاثة أضرب:
    1- أن يكون امتثالا لأمر.
    2- أن يكون بيانا لمجمل.
    3- أن يكون مبتدأ لا امتثالا لأمر ولا بيانا لمجمل.
    فإن كان امتثالا لأمر كان معتبرا بذلك الأمر؛ فإن كان على الوجوب ففعله واجب، وإن كان على الندب ففعله ندب.
    وإن كان بيانا لمجمل فهو أيضا معتبر بذلك المبيّن: إن كان ذلك المبين واجبا فهو واجب، وإن كان ندبا فهو ندب.
    وإن كان فعله مبتدأ فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه:
    أ- فمنهم من قال إنه يدل على الوجوب ولا يحمل على غيره إلا بدليل.
    ب- ومنهم من قال إنه يدل على الندب ولا يحمل على غيره إلا بدليل.
    ج- ومنهم من قال يجب التوقف فيه فلا يحمل على الوجوب ولا على الندب بل يحمل على ما دل عليه الدليل.

  8. #8

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    وأما الإقرارُ فضربانِ:
    أحدهما: أن يسمع قولا فَيقر عَلَيْهِ. كَمَا رُوِيَ أنه سمع رجلا يَقُول: الرجل يجد مَعَ امْرَأَته رجلا إن قتل قَتَلْتُمُوهُ وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ أم كَيفَ يصنع.
    فَحكمُهُ حكمُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام وَقد بَيّناهُ.
    وَالثَّانِي: أن يرى رجلا يفعل فعلا فيقره عَلَيْهِ. كَمَا رُوِيَ أنه رأى قيسا يُصَلِّي رَكْعَتي الْفجْر بعد الصُّبْح فأقره عليه.
    فَحكمه حكم فعله وَقد بَيناهُ.

    أقول: الإقرار نوعان:
    أولا: أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم أحدا يقول شيئا فلا ينكره مثل قول الرجل: يا رسول الله إنْ أحدُنا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ. رواه أحمد.
    فهذا حكمه حكم قوله عليه الصلاة والسلام فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي قاله.
    ثانيا: أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم أحدا يفعل فعلا فلا ينكره عليه مثل ما جاء في سنن أبي داود أنه: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أصلاة الصبح مرتين ؟ " فقال الرجل : إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدل على جوازه.
    وحكم هذا النوع حكم فعله صلى الله عليه وسلم.

  9. #9

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    وأما الإجماعُ فَهُوَ اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ على حُكْمِ الْحَادِثَةِ. وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
    أحدهما: مَا ثَبتَ بقولِ جَمِيعِهم. كإجماعِهِم على جَوَازِ البيعِ وَالشَّرِكَة وَالْمُضَاربَةِ وَغيرِ ذَلِكَ مِنَ الأحكامِ.
    فَحكمه أن يُصَارَ إليه وَيُعْملَ بِهِ وَلَا يجوز تَركه بِحَالٍ.
    وَالثَّانِي: مَا ثَبتَ بقول بَعضهم أوْ فعله وسكوتِ البَاقِينَ مَعَ انتشارِ ذَلِك فيهم.
    فَذَلِك حجَّةٌ. وَهل يُسمى إجماعًا ؟ فِيهِ وَجْهَان.
    وَقَالَ أبو عَليّ بنُ أبي هُرَيْرَةَ: إن كَانَ ذَلِك حكمًا مِن إمام أوْ قَاضٍ لم يكنْ حجَّةً، وإن كَانَ فتيا من فَقِيهٍ فَهُوَ حجَّةٌ.
    والأوَّلُ أصحُّ.

    أقول: الدليل الثالث هو الإجماع وهو: اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة. كإجماعهم على جواز البيع والشراء.
    وهو لا ينعقد إلا عن دليل؛ فإذا رأينا إجماع أهل عصر على حكم حادثة علمنا أن هناك دليلا حملهم على إجماعهم عليه، وسواء عرفنا ذلك الدليل أم لم نعرفه، وسواء كان هذا الدليل كتابا أم سنة أم قياسا.
    وهو نوعان:
    الأول: الإجماع الصريح وهو أن تتفق أقوال الجميع على حكم الحادثة. مثل اتفاقهم على جواز البيع والشركة والمضاربة والضمان والحوالة وغير ذلك من الأحكام.
    فهذا حكمه أن يصار إليه ويعمل به ولا يجوز تركه بحال.
    الثاني: الإجماع غير الصريح وهو إذا وجد من بعضهم قول أو فعل وانتشر ذلك في الباقين وسكتوا عن معارضته ولم يظهروا خلافا.
    فهل يكون ذلك إجماعا؟ وهل يكون ذلك حجة؟ فيه خلاف.
    الصحيح أنه إجماع وأنه حجة. وذهب أبو بكر الصيرفي من أصحابنا إلى أنه حجة ولكن لا يسمى إجماعا.
    وذهب أبو علي بن أبي هريرة من أصحابنا إلى أنه إن كان ذلك حكما من إمام أو حاكم فسكتوا عن مخالفته لم يكن ذلك حجة؛ لأن الاعتراض على الإمام والحاكم يعد سوء أدب، فلعل سكوتهم كان لذلك، وإن كان ذلك فتيا فقيه فسكتوا عنه فهو حجة.
    والدليل على أنه حجة وأنه إجماع: أن العادة قد جرت أن أهل الاجتهاد إذا سمعوا جوابا من مجتهد ما عن حكم في مسألة حادثة اجتهدوا فأظهروا ما عندهم، فلما لم يظهروا الخلاف في جواب المجتهد غلب على الظن أنهم راضون بذلك موافقون له.

  10. #10

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    وأمَّا قَولُ الْوَاحِدِ من الصَّحَابَةِ إذا لم ينتشرْ فَفِيهِ قَولَانِ:
    قَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَيْسَ بِحجَّةٍ. فعلى هَذَا لَا يحْتَجُّ بِهِ وَلَكِن يرجَّحُ بِهِ.
    وَقَالَ بعضُ أصحابنا: يحْتَجُّ بِهِ مَعَ قِيَاسٍ ضَعِيفٍ. وَلَيْسَ بِشَيْء.
    وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: هُوَ حجَّةٌ. فعلى هَذَا يحْتَجُّ بِهِ، وَيقدَّمُ على الْقيَاسِ. وَهل يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.

    أقول: إذا قال بعض الصحابة قولا، ولم ينتشر ذلك في علماء الصحابة([1] ) ، ولم يعرف له مخالف، لم يكن ذلك إجماعا. وهل هو حجّة أو لا؟ فيه قولان:
    قال الإمام الشافعي في الجديد: هو ليس بحجة. فعلى هذا لا يحتج به في إثبات الأحكام، ويقدم القياس عليه، ولكن يرجح به عند تعارض الأقوال والأدلة.
    وقال بعض أصحابنا: يحتج بقول الواحد من الصحابي مع قياس ضعيف.
    وليس بشيء؛ لأن قوله منفردا ليس بحجة، والقياس الضعيف ليس بحجة، فلا يجوز أن يترك بمجموعهما قياس هو حجة.
    وقال في القديم: هو حجة. فعلى هذا يحتج به ويقدم على القياس، ويلزم التابعي -ومن بعده- العمل به ولا يجوز له مخالفته.
    وعلى القول بأنه حجة هل يخص به عموم الآية أو الحديث؟ فيه وجهان لأصحابنا.
    قال بعضهم: نعم يخص به عموم النصوص.
    وقال بعضهم: لا يخص به العموم.
    والدليل على أنه ليس بحجة أن الله سبحانه وتعالى إنما أمر باتباع سبيل جميع المؤمنين؛ فدل على أن اتباع بعضهم لا يجب.
    فرع: إذا اختلفوا على قولين: فإن قلنا: إن قول الصحابي ليس بحجة، لم يكن قول بعضهم حجة ووجب الرجوع إلى الدليل.
    وإن قلنا: إن قول الصحابي حجة، فهما حجتان تعارضتا؛ فيرجح أحد القولين على الآخر بكثرة العدد؛ فإن كان على أحد القولين أكثر الصحابة، وعلى الآخر الأقل قدّم ما عليه الأكثر.


    ([1] ) أما إذا انتشر في الباقين وسكتوا عنه فقد ذكرنا أنه حجة وهل يسمى إجماعا؟ على الخلاف الذي ذكرنا. شرح اللمع.

  11. #11

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    فصلٌ: وأمَّا أدِلَّةُ الْمَعْقُولِ فَثَلَاثَةٌ: فحوى الْخطابِ، وَدَلِيلُ الْخطابِ، وَمعنى الْخطابِ.
    فأمَّا فحوى الْخطابِ فَهُوَ: أن ينصّ على الأعلى وينبّه على الأدنى، أوْ ينصّ على الأدنى فينبِّه على الأعلى.
    وَذَلِكَ مثلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار لَا يؤده إِلَيْك}.
    وَكنَهْيهِ عَن التَّضْحِيَة بالعوراء، وَنبّهَ بِهِ على العمياءِ.
    فَحكم هَذَا حكم النَّصِّ.
    وأَما دَلِيلُ الْخطابِ فَهُوَ: أنْ يُعَلِّقَ الحكمَ على أَحَدِ وصفي الشَّيْءِ.
    كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَإِن كنَّ أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ}.
    وَكقَولِهِ صلى الله عليه وسلم: فِي سَائِمَةِ الْغنم زَكَاةٌ.
    فَدلَّ على أَنّ غيرَ الْحَامِلِ لَا نَفَقَة لَهَا. وَغيرَ السَّائِمَةِ لَا زَكَاةَ فِيهَا.
    وَقَالَ أبو الْعَبَّاسِ بنُ سُرَيجٍ: لَا يدلُّ على حكمِ مَا عدا الْمَذْكُورِ.
    وَالْمذهب الأول.

    أقول: الحكم إما أن يستفاد من نفس ألفاظ النصوص وهو المنطوق وينقسم إلى نص، وظاهر، وعام. وإما أن يستفاد من معقولها وينقسم إلى ثلاثة أقسام: مفهوم الموافقة، ومفهوم المخالفة، والقياس.
    فمفهوم الموافقة -ويسمى أيضا فحوى الخطاب([1] ) - هو: أن ينصّ على الأعلى وينبّه على الأدنى، أوْ ينصّ على الأدنى فينبِّه على الأعلى.
    مثاله: قوله تعالى: وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار لَا يؤده إِلَيْك. فنص على القنطار ونبه على ما دونه، ونصّ على الدينار، ونبّه على ما فوقه.
    ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: لا يجوز من الضحايا: العوراء البيّن عورُها. رواه أبو داود. ونبه به على عدم جواز العمياء.
    فحكم هذا النوع حكم النص فيكون المستفاد من المفهوم كالمستفاد من المنطوق.

    ومفهوم المخالفة-ويسمى أيضا دليل الخطاب- هو: أن يعلق الحكم على أحد وصفي الشيء. فيدل على انتفائه عما عداه.
    كقوله تعالى: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا. فلما علق الحكم على الفاسق دلّ على أنه إن جاءنا عدل لا نتبين.
    ومثله قوله تعالى: وإن كنّ أولات حمل فأنفقوا عليهن. فلما علق الحكم على كونهن أولات حمل دلّ على أن غير الحامل لا نفقة لها.
    وكقوله صلى الله عليه وسلم: في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة. رواه أبو داود. فدل على انتفاء الزكاة عما عدا السائمة وهي المعلوفة.
    وقال الإمام أبو العباس بن سريج من كبار أصحابنا: تعليق الحكم على أحد الوصفين لا يدل على انتفاء الحكم عما عداه.
    ومذهبنا هو القول بمفهوم المخالفة.


    ([1] ) وظاهر كلامه أن مفهوم الموافقة المساوي لا يسمى فحوى خطاب. مثال المساوي قوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما.. الآية فهي دالة بمنطوقها على حرمة أكل أموال اليتامى، ودالة بمفهومها على حرمة إحراقها، وحرمة الإحراق مساوية لحرمة الأكل؛ إذ كلا الأمرين إتلاف للمال.

  12. #12

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    فأمّا معنى الْخطابِ فَهُوَ الْقيَاسُ: وَهُوَ حملُ فرعٍ على أصلٍ بعلةٍ جَامِعَة بَينهمَا وإجراءُ حكم الأصل على الْفَرْعِ.
    وَهُوَ ضَرْبَانِ:
    أحدهما: قِيَاس الْعلَّة وَهُوَ: أن يحمل الْفَرْع على الأصل بِالْمَعْنَى الَّذِي يتَعَلَّق الحكمُ بِهِ فِي الشَّرْعِ. وَذَلِكَ مثل قِيَاسِ النَّبِيذ على الْخمر بعلةِ أنه شرابٌ فِيهِ شِدَّة مطربَةٌ، وَقِيَاس الأرز على الْبر بعلة أنه مطعومُ جنسٍ.
    وَالثَّانِي: قِيَاسُ الدّلَالَة وَهُوَ ثَلَاثَةُ أضْرُبٍ:
    أحدها: أن يسْتَدلّ بخصيصة من خَصَائِص الشَّيْء عَلَيْهِ.
    كَقَوْلِنَا فِي سُجُود التِّلَاوَةِ: إنَّهُ لَا يجبُ لأنه سُجُودٌ يجوزُ فعلهُ على الرَّاحِلَةِ فِي غير عذرٍ فأشبَهَ سُجُودَ النَّفْلِ، وإن جَوَاز فعله على الرَّاحِلَة من خَصَائِص النَّوَافِل فيستدلّ بِهِ على أنه نفلٌ.
    وَالثَّانِي: أن يسْتَدلّ بالنَّظيرِ على النَّظيرِ.
    كَقَوْلِنَا فِي الزَّكَاة فِي مَال الصَّبِي: إن من وَجب الْعشْر فِي زرعه وَجب ربع الْعشْر فِي مَاله كَالْبَالِغِ. وكقولنا فِي ظِهَار الذِّمِّي: مَن صَحَّ طَلَاقُه صَحَّ ظِهَاره كَالْمُسلمِ.
    وإنَّ الْعشْرَ نَظِيرُ ربعِ الْعشْرِ، وَالظِّهَارَ نَظِيرُ الطَّلَاقِ فَيدلُّ أحدهما على الآخر.
    وَالثَّالِث: أن يسْتدَلَّ بِضَرْبٍ من الشّبَه. مثلُ أن يَقُولَ فِي إيجاب التَّرْتِيب فِي الْوضُوء: إنه عبَادَة يُبْطِلهَا النّوم فَوَجَبَ فِيهَا التَّرْتِيب كَالصَّلَاةِ.
    فَفِيهِ وَجْهَانِ:
    مِن أصحابِنا مَن قَالَ: إنَّهُ دَلِيلٌ.
    وَمِنْهُم مَن قَالَ: لَيْسَ بِدَلِيلٍ وإنما يُرجَّحُ بِهِ غَيرُهُ. وَهُوَ الأصحُّ.

    أقول: القياس هو: حمل فرع على أصل بعلة جامعة بينهما، وإجراء حكم الأصل على الفرع. كحمل النبيذ على الخمر بجامع الإسكار. والمقصود بالحمل الإلحاق والتسوية في الحكم؛ فيكون إجراء حكم الأصل على الفرع تفسيرا للحمل.
    وهو نوعان: الأول: قياس العلة وهو: أن يحمل الفرع على الأصل بالمعنى الذي يتعلق به الحكم في الشرع. أي أن يصرح القائس في قياسه بالعلة التي علق الشارع الحكم عليها بحيث لو سئل صاحب الشرع عن ذلك لنص عليه. كما لو قيل: يحرم النبيذ كالخمر للإسكار. فالإسكار هو المعنى الذي علق الشارع حكم تحريم الخمر عليه، فإذا جمع بين النبيذ والخمر في الحكم بسبب الإسكار المعبر عنه بالشدة المطربة فهو قياس علة.
    ومثل قياس الأرز على البر بعلة الطعم([1] ) في الربوية.
    وسواء علمت الحكمة أم لا، كالإسكار هو علة تحريم الخمر والحكمة في ذلك أنها توقع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة كما قال تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدَّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون.
    وكالطعم فهو علة الربا عندنا لحديث معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل. رواه مسلم. ولم يطلعنا الله تعالى على الحكمة في ذلك؛ فلا نعلم أنه إذا كان الجنس مطعوما لم حرّم بيع بعضه ببعض متفاضلا.
    والثاني قياس الدلالة وهو: وهو حمل فرع على أصل بدليل العلة([2] ) . أي أن لا يذكر العلة التي علق الشارع الحكم عليها، ولكن يذكر ما يدل على العلة([3] ) وهو على ثلاثة أوجه:
    1- أن يستدل بخاصة من خواص الشيء على الشيء لأن خاصة الشيء ما يوجد فيه ولا يكون في غيره.
    مثاله: قول أصحابنا في سجود التلاوة: سجود يجوز فعله على الراحلة من غير عذر فلا يجب كسجود النفل.
    فالفرع: سجود التلاوة، والأصل: صلاة النافلة، والجامع هو: جواز الفعل على الراحلة، والحكم هو الندب وعدم الوجوب.
    فقد استدلوا بحكم من أحكام النفل- وهو الفعل على الراحلة من غير عذر - على كون سجود التلاوة نفلا.
    فجواز الفعل على الراحلة التي هي خصيصة النوافل ليس علة نفي الوجوب بل لأن الله تعالى لم يخاطبنا به خطابا جازما، وإنما جعلنا ذلك دليلا على نفي الوجوب حيث وجدنا فيه خصيصة من خصائص النفي.
    2- أن يستدل بنظير الحكم على الحكم.
    مثاله: استدلال الشافعي على وجوب الزكاة في مال الصبي: إنه يجب العشر في زرعه، فوجبت الزكاة في ماله كالبالغ. فالعشر الذي هو حق الزروع نظير ربع العشر الذي هو حق أموال الزكاة.

    ألا ترى أن مَن وجب عليه أحدهما- العشر أو ربع العشر- وجب عليه الآخر وذلك في المسلم البالغ، ومن لم يجب عليه أحدهما لم يجب عليه الآخر كما في الذمي. فلما رأينا العشر قرنت الزكاة به في الوجوب والسقوط دلنا ذلك على أن الزكاة هنا في مال الصبي واجبة حيث وجب العشر. لأنهما لما اتفقا في الوجود والعدم فلم يوجد أحدهما إلا مع وجود الآخر ولم يعدم أحدهما إلا مع عدم الآخر دل على أن علتهما واحدة([4] ) .
    مثال آخر: الاستدلال على صحة ظهار الذمي- خلافا للحنفية وغيرهم-: (إنه يصح طلاقه فيصح ظهاره) لأن الظهار نظير الطلاق. ألا ترى أنه من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم البالغ، ومن لا يصح طلاقه لا يصح ظهاره كالصبي والمجنون وهذا يدل على اتفاقهما في العلة التي هي التكليف مع الزوجية.
    فتحصل أنه في قياس العلة توجد العلة الجالبة للحكم، وفي قياس الدلالة يوجد دليل العلة، فنستدل بذلك على وجود العلة نفسها، فيشتركان في الحكم.
    3- الاستدلال بضرب من الشبه أي أن يحمل الفرع على الأصل بنوع شبه بينهما ويسمى قياس الشبه([5] ) وذلك مثل أن يتردد الفرع بين أصلين يشبه أحدهما في ثلاثة أوصاف ويشبه الآخر في وصفين فيرد إلى أشبه الأصلين به.
    مثاله: العبد يشبه الحر في أنه آدمي مثاب معاقب، ويشبه البهيمة في أنه مملوك مقَوَّم أي يباع ويشترى، وألحق بالبهيمة لأنه أشبه بها من جهة المالية فيجب في قتله القيمة.
    مثال آخر: أن نقول في الترتيب في الوضوء: عبادة يبطلها الحدث فوجب فيها الترتيب كالصلاة.
    فالمشابهة في الحكم الذي هو البطلان بالحدث جعلت دليلا على استحقاق الترتيب.
    وقد اختلف أصحابنا في قياس الشبه: فمنهم من قال: يصح الاحتجاج به.
    ومنهم من قال: لا يصح الاحتجاج به لأنه لم يثبت بالعلة ولا بدليلها. وإنما يصلح لترجيح قياس على غيره وهو الأصح عند الإمام أبي إسحاق. والله أعلم.








    ([1] ) وقوله مطعوم جنس من إضافة الصفة للموصوف والأصل جنس مطعوم.

    ([2] ) واعترض به على تعريف القياس المتقدم حمل أصل على فرع بعلة جامعة. بأنه لا توجد هنا علة جامعة فليس تعريف القياس جامعا. وأجيب بأن المراد بالعلة هنا مطلق المعرف للحكم.

    ([3] ) كما لو قيست المرأة التي حبلت وهي غير ذات زوج على الزانية في وجوب الحد. فالزنا هو علة الحد، وحبلها دليل على أنها قد زنت فيقام عليها الحد وإن لم تعترف أو يشهد عليها الشهود. وهو مذهب الإمام مالك والمذهب عندنا أنها لا تحد لجواز الإكراه والحدود تدرأ بالشبهات.


    ([4] ) وهذا كما نقول في العقليات إذا رأينا نفسين يحضران لسماع الدرس وينقطعان في أيام العطلة نعلم أنهما ما اتفقا في الحضور في أيام الدرس والانقطاع في أيام العطلة إلا وعلتهما واحدة وهو سماع الدرس. شرح اللمع.

    ([5] ) عد قياس الشبه نوعا من قياس الدلالة طريقة لبعض الأصوليين والطريقة الأخرى عده قسما منفصلا برأسه.

  13. #13

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    فصلٌ في استصحابِ الحال
    وأمَّا اسْتِصْحَاب الْحَال فضربانِ:
    اسْتِصْحَابُ حَالِ الْعقل فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّة.
    كَقَوْلِنَا فِي إسقاط دِيَةِ الْمُسلمِ إذا قُتِل فِي دَار الْحَرْب، أَوْ فِي إسقاطِ مَا زَادَ على ثلثِ الدِّيَة فِي قتلِ الْيَهُودِيّ: إن الأصل بَرَاءَة الذِّمَّة وفراغِ السَّاحَةِ وَطَريقِ اشتغالِها بِالشَّرْعِ وَلم نجدْ فِي الشَّرْع مَا يدُّلُّ على الِاشْتِغَالِ فِي قتلِ الْمُسلمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا على الاشْتِغَالِ فِيمَا زَادَ على الثُّلُثِ فِي قَتْلِ الْيَهُودي فَبَقيَ على الأصل.
    فَهَذَا دَلِيلٌ يَفزعُ إليه الْمُجْتَهدُ عِنْد عدمِ الأَدلة.
    وَالثَّانِي اسْتِصْحَاب حَال الإجماع وَذَلِكَ مثل أن يَقُول فِي الْمُتَيَمم إذا رأى المَاء فِي صلَاته: إنه يمْضِي فِي صلَاتِه لأن صلاته انْعَقَدتْ بالإجماعِ فَلَا يَزُولُ عَن ذَلِك إلا بِدَلِيلٍ.
    وهَذَا فِيهِ وَجْهَان:
    مِن أصحابنا مَن قَالَ: هُوَ دَلِيلٌ.
    وَمِنْهُم من قَالَ: لَيْسَ بِدَلِيلٍ وَهُوَ الأصحُّ.

    أقول: الاستصحاب: إبقاء ما كان على ما كان عليه. وهو نوعان: عقلي، وشرعي.
    فأما العقلي فهو الرجوع إلى براءة الذمة.
    مثل أن يُسأل الشافعي عن مسلم قتل مسلما في دار الحرب وكان يظنه حربيا فبان أنه مسلم، فيقول: لا تجب الدية؛ لأن الأصل براءة الذمة، وفراغ الساحة، وطريق إشغالها الشرع، وقد طلبت في الشرع فلم أجد ما يدل على وجوب الدية؛ فيجب أن يبقى على الأصل.
    وهذا صحيح بلا خلاف والاستدلال به جائز.
    ومن استصحاب العقل في براءة الذمة القول بأقل ما قيل([1] ) .
    مثاله: أن يقول الشافعي في دية اليهودي والنصراني: إنها ثلث دية المسلم؛ لأن الأصل براءة الذمة، فقد اختلفوا في ديته فمنهم من أوجب دية كاملة، ومنهم من أوجب نصف الدية، ومنهم من أوجب ثلث الدية، فالثلث مجمع عليه متيقن، فوجب الأخذ به، وما زاد عليه باق على الأصل، فمن ادعى وجوبه احتاج إلى دليل.

    فهذا النوع من الاستصحاب دليل صحيح يفزع إليه المجتهد عند عدم أدلة الشرع فإن وَجد دليلا من أدلة الشرع انتقل إليه، سواء كان ذلك الدليل نطقا نصا أو ظاهرا أو مفهوما؛ لأن هذه الحال إنما استصحبها لعدم دليل شرعي، فأي دليل ظهر من جهة الشرع حرم عليه استصحاب الحال بعده.
    وأما الشرعي فهو مثل أن يقول الشافعي في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة: إنه لا يبطل تيممه وصلاته؛ لأنا أجمعنا على صحة إحرامه وانعقاد صلاته، فمن ادعى البطلان احتاج إلى دليل.
    وهذا استصحاب حال الإجماع في موضع الخلاف.
    فهذا فيه وجهان: قيل: هو دليل يحتج به وهو قول أبي بكر الصيرفي.
    وقيل: لا يحتج به وهو الصحيح؛ لأن موضع الإجماع هو تيمم عادم الماء، وموضع الخلاف المتيمم الواجد للماء، وهما صورتان مختلفتان ومسألتان منفردتان؛ والاستدلال في إحداهما بما يدل على الأخرى باطل.


    ([1] ) وهو أن يختلف العلماء في مسألة على قولين أو ثلاثة فيوجب بعضهم قدرا، ويوجب بعضهم أقل من ذلك. شرح اللمع.

  14. #14

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    (بَابُ وُجُوهِ الْكَلامِ على الِاسْتِدْلَالِ بِالْكتابِ)
    وَذَلِكَ من ثَمَانِيَةِ أوجهٍ:
    أحدها: الاعتراضُ عليهِ بأنَّكَ لا تقولُ به. وذلكَ مُثِّل بِوجهين:
    أَحدهما: أن يسْتَدلّ بطرِيقٍ من الأصول لَا يَقُول بِهِ.
    وَذَلِكَ مثل أن يسْتَدلّ الْحَنَفِيّ فِي إسقاط الْمُتْعَة للمدخول بهَا بقوله عزَّ وجلَّ {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة ومتِّعوهنَّ} فَشرطَ فِي إيجاب الْمُتْعَة أن لَا يكونَ قد مَسّهَا.
    فَيَقُول الشَّافِعِي: هَذَا اسْتِدْلَال بِدَلِيل الْخطابِ وأنتَ لَا تَقولُ بِهِ.
    والْجَوَاب أن يَقُول:
    إنّ هَذَا من مسَائِل الأصول وأنا أقولُ بِهِ.
    أو يقول إنّ هَذَا بِلَفْظ الشَّرْط لأنه قَالَ {إِن طلّقْتُم النِّسَاء} و"إنْ" من أمهات حُرُوف الشَّرْط، وأنا اقول بِدَلِيل الْخطاب إذا كَانَ بِلَفْظ الشَّرْط.
    وَالثَّانِي أن لَا يَقُول بِهِ فِي الْموضع الَّذِي تنَاوله.
    كاستدلال الْحَنَفِيّ فِي جواز شَهَادَة أهل الذِّمَّة بقوله عزّ وجل: {أَو آخرَانِ من غَيْركمْ} أَي من غير أهل ملتكم.
    فَيَقُول الشَّافِعِي: كَانَ هَذَا فِي قضيّـة بَينَ الْمُسلمين والكفار، وعندك لَا تقبل شَهَادَة أهل الذِّمَّة على الْمُسلمين.
    وتكلّف بَعضهم الْجَواب عَنهُ فَقَالَ: إنه لما قَبِل شَهَادَتهم على الْمُسلمين دلّ على أن شَهَادَتهم على الْكفَّار أولى بِالْقَبُولِ، ثمَّ دلّ الدَّلِيل على أن شَهَادَتهم لَا تقبلُ على الْمُسلمينَ فَبَقيَ فِي حق الْكفَّار على مَا اقْتَضَاهُ.


    أقول: يتجّه على من يستدل بآية من كتاب الله سبحانه وتعالى على حكم ثمانية اعتراضات:
    الأول: أن يستدل المستدل بما لا يقول هو به. وذلك على وجهين:
    1- أن يستدل بطريق من الأصول لا يقول هو به.
    كأن يستدل الظاهري بالقياس على حكم وهو يصرح في كتب الأصول أن القياس ليس بحجة فيكون قد ناقض نفسه.
    ومثل أن يستدل الحنفي بمفهوم المخالفة وهو يقرر في الأصول أنه ليس بحجة معتبرة.
    مثاله: استدلال الحنفية في متعة المطلقة بقوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء.. الآية. وإليك البيان:
    المتعة في الشرع: اسم لمال يدفعه الرجل لمطلقته التي فارقها، تعويضا عما حصل لها من وحشة الفراق.
    وهي غير مؤخر الصداق الباقي في ذمته.
    فيشرع لمن طلق زوجته أن يعطيها بعض المال. قيل إن أقله ثلاثة أثواب للمرأة. وقيل يرجع في تحديده إلى القاضي مراعيا حال الزوج يسرا وعسرا. وبعض القوانين تقدره بنفقة سنتين تدفع للزوجة ولو على شكل أقساط.
    وقد اختلف العلماء في حكمه:
    فذهب الأحناف إلى إيجاب المتعة إذا طلقت المرأة قبل الدخول بها ولم يكن قد سمّى لها مهرا في عقد الزواج.
    أما المطقة المدخول بها سواء سمى لها المهر أو لم يسم فلا تجب لها المتعة بل تستحب.
    وذهب الشافعية إلى إيجاب المتعة لكل مطلقة عدا التي طلقت قبل الدخول بها وقد سمى لها مهرها فإن لها نصف المهر ولا متعة لها.
    وذهب المالكية إلى أن المتعة مستحبة لكل مطلقة. وذهب الظاهرية إلى أن المتعة واجبة لكل مطلقة.
    إذا علم هذا فقد احتج الأحناف على عدم وجوب المتعة على المدخول بها بقوله تعالى: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضة، ومتعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) فدل على أن الأمر بالمتعة إنما هو عند عدم المسّ وعدم فرض المهر و"أو" في الآية بمعنى الواو.
    فيقول له الشافعي بأن هذا استدلال بدليل مفهوم المخالفة المسمى بدليل الخطاب وأنت لا تقول به. فقد احتججت بقاعدة وطريق من الأصول أنت لا تقول به.
    ويمكن للفقيه الحنفي أن يجيب بما يلي:
    أولا: إن ذلك الطريق من مسائل علم الأصول وأنا أقول به فإنه ليس عن أبي حنيفة نص في مفهوم المخالفة وأهل الأصول اختلفوا فيه وأنا أقول به ولست ملزما بما يقوله عامة الحنفية من عدم الاحتجاج به.
    ثانيا: إن ذلك الطريق نوع مخصوص أقول به لأن هذا نوع مخصوص من مفهوم المخالفة وهو الحاصل بالشرط فإن قوله تعالى: ( إنْ طلقتم النساء) جاء بصيغة الشرط، و"إنْ" من أصول حروف الشرط، وبعض الحنفية ذهبوا إلى صحة مفهوم الشرط دون مفهوم الصفة وأنا أقول به.
    2- أن يستدل بدليل وهو لا يقول بمقتضاه في الموضع الذي ورد فيه.
    مثاله: استدلال الحنفية على جواز شهادة أهل الذمة على بعضهم البعض بقوله تعالى: ( أو آخران من غيركم). توضيحه:
    اتفق الفقهاء على جواز شهادة المسلمين بعضهم على بعض، وعلى شهادة المسلمين على أهل الذمة، واتفقوا أيضا على أن الأصل عدم جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين، ولكن وقع خلاف في جواز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض فذهب الجمهور إلى عدم جوازها لأنهم ليسوا بذوي عدل. وذهب الحنفية إلى جوازها مستدلين بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) تقريره:
    إن الله أجاز شهادة غير أهل الملة على المسلمين فمن باب أولى تجوز شهادتهم بعضهم على بعض.
    وهنا يتجه اعتراض وهو: أن الآية نزلت في مسلم حضرته الوفاة وقد أشهد على وصيته اثنين ممن كانا نصارى، فهي بين مسلمين وكفار، وأنتم ونحن لا نجيز شهادة الكافر على المسلم فلا يصح لكم الاحتجاج بها؛ فإن مقتضى الآية والموضع الذي سيقت من أجله هو شهادة الكافر على المسلم وأنتم لا تقولون به فكيف تحتجون به على شهادة الكافر على الكافر ومعنى الآية الأصلي أنتم لا تقولون به!
    وهذا كما قال - الإمام أبو إسحاق الشيرازي في الملخص- أصعب ما في هذا الباب على المستدل.
    وقد تكلف بعض المخالفين الجواب عن هذا بأن الآية دلت على قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين من طريق المنطوق، ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق المفهوم وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلأن تقبل شهادتهم على أهل الذمة أولى، ثم دل الدليل على بطلان شهادتهم في حق المسلمين، وبقي قبول شهادتهم على أهل الذمة على ما دلّ عليه الدليل.
    وهذا ليس بشيء لأن قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لشهادتهم على المسلمين، فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهو الأصل فلأن تبطل شهادتهم على أهل الذمة وهي فرعها أولى. اهـ من الملخص في الجدل بتصرف يسير.
    تنبيه: ذهب الإمام أحمد إلى قبول شهاد الكافر على المسلم في السفر في وصية الموت إذا لم يوجد غيرهم لنص الآية "أو آخران من غيركم"، وذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى عدم الجواز وأن ذلك منسوخ بقوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم. ذكر ذلك القرطبي في تفسيره. والله أعلم.

  15. #15

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    والاعتراضُ الثَّانِي أنْ يَقُولَ بموجَبِها وَذَلِكَ على ضَرْبَيْنِ:
    أحدِهما: أنْ يحْتَجَّ مِنَ الْآيَةِ بِأحدِ الوضعينِ. فَيَقُول السَّائِلُ بِمُوجبِه بَأنْ يحمِلهُ على الْوَضعِ الآخرِ.
    كاستدلالِ الْحَنَفِيِّ فِي تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا بقولِهِ تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكحَ آباؤكم} وَالْمرَاد لَا تطؤوا مَا وطِئ آباؤكم.
    فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: النِّكَاحُ فِي الشَّرْعِ هُوَ العقدُ؛ فَيكونُ مَعْنَاهُ: لَا تتزوجوا مَنْ تزوَّجَ آباؤكم من النساء.وَالْجَوَابُ أنْ تسلُكَ طَريقَةَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الأَسماءَ غيرُ منقولَةٍ، وإنَّ الْخِطابَ بلغَةِ الْعَرَبِ، وَالنِّكَاحُ فِي عرفِ اللُّغَةِ هُوَ الْوَطْءُ.
    وَالضَّرْبُ الثَّانِي أنْ يَقُولَ بِمُوجَبِهِ فِي الوضعِ الَّذِي احْتجَّ بِهِ.وَذَلِكَ مثلُ أنْ يسْتَدِلَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْعَفوِ عَنِ الْقِصاصِ إلى الدِّيَةِ مِنْ غيرِ رِضى الْجَانِي بقولهِ:{فَمنْ عُفيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وَالْعَفوُ هُوَ الصَّفحُ وَالتّرْكُ.فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ بلِ الْعَفوُ هَا هُنَا هُوَ الْبَذْلُ وَمَعْنَاهُ إذا بَذَلَ الْجَانِي للْوَلِيّ الدِّيَة اتَّبعَ الْمَعْرُوفَ.وَالْجَوَابُ عَنهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
    أحدِهما: أنْ يبيّن أنَّ الْعَفوَ فِي الصَّفحِ وَالتّرْكِ أَظهرُ فِي اللُّغَةِ.
    وَالثَّانِي: أنْ يبيّن بِالدَّلِيلِ مِن سِيَاقِ الآيةِ أَوْ غَيرهِ أَنَّ المُرَادَ بِهِ الصَّفحُ.

    أقول: الاعتراض الثاني أن يقول بموجب الآية التي استدل بها المستدل ولكنه ينازعه في مقتضاها ومعناها الذي حملها عليه. وذلك على نوعين:
    الأول: أن يحتج المستدل بالآية بحملها على أحد الوضعين ويحملها المعترض على وضع آخر.
    مثاله: مسألة الزواج ممن زنا بها الأب أو الابن، فلو أن شخصا زنا بامرأة- والعياذ بالله- ثم أراد ابنه أن يتزوجها فهل يجوز ذلك في الشرع؟ قولان:
    ذهب الحنفية وغيرهم إلى حرمة ذلك وأنه كما لا يجوز للابن أن يتزوج امرأة أبيه فلا يجوز له أن يتزوج من زنا بها أبوه.
    وذهب الشافعية وغيرهم إلى جواز ذلك؛ لأن المصاهرة والأحكام تنبني على ما شرع الله من الزواج لا على المسافحة.
    استدل الحنفية بقوله تعالى: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء. وهذا يقتضي أنه لا يجوز أن يطأ من وطأها الأب، وهذه المراة التي زنا بها قد وطئها الأب فيجب أن لا يجوز للابن أن يطأها. فموطوءة الأب حرام على ابنه.
    فيقول الشافعي: هذا لا حجة فيه؛ لأن النكاح هو العقد في عرف الشريعة فكأنه قال: لا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم.
    فهنا قال الشافعي بموجب الآية التي استدل بها الحنفي ولكن لم يقل بها بالمعنى الذي قال به الحنفي فهو حمل النكاح على الوضع الشرعي وهو العقد، وحمله الحنفي على الوضع اللغوي وهو الوطء.
    وللحنفي أن يجيب بأحد جوابين:
    1- أن يمنع أن يكون النكاح في عرف الشرع هو العقد، والدليل عليه أنه قد ورد في الشرع والمراد به العقد، وورد في الشرع والمراد به الوطء ألا ترى أنه تعالى قال: والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك. والمراد به الوطء
    ([1] ) . والمواضع التي حمل فيها على العقد إنما حمل عليها بقرائن اقترنت بها كقوله صلى الله عليه وسلم: لا نكاح إلا بولي. رواه أبو داود. فذكر الولي دليل على أنه أراد العقد. وأما النكاح بإطلاقه مجردا عن القرينة فيراد به الوطء.
    2- أن يسلك طريقة من يقول من الأصوليين: إنه ليس في الألفاظ شيء منقول عن اللغة إلى الشرع، بل الألفاظ مبقاة على موضوعها في اللغة، وإنما الشرع أضاف عليها زيادات على موضوعها اللغوي، مثل الصلاة فهي في اللغة الدعاء، والشارع لم ينقلها عن الدعاء ويضع لها وضعا جديدا بل أضاف عليها بعض الشروط كالركوع والسجود والقراءة. وحينئذ فالنكاح باق على موضوعه اللغوي وهو الوطء.
    الثاني: أن يقول بموجب الدليل في الوضع الذي احتج به.
    مثاله: مسألة العفو عن القصاص إلى الدية، فمن قُتل له قتيل فهل يجوز أن يعفو عن القصاص ويقبل بالدية ولو لم يرض القاتل بذلك؟ قولان:
    فذهب الشافعية إلى جواز ذلك وأن الأمر ليس موقوفا على رضاه بل يجبر على دفع الدية إذا اختارها ولي الدم بدل القصاص.
    وذهب الحنفية إلى عدم جواز ذلك وأن الجاني إذا لم يرض ببذل الدية فلا سبيل لولي الدم أن يختارها ولم يبق عليه إلا القصاص أو العفو.
    استدل الشافعي بقوله تعالى: فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف. والعفو في اللغة هو الصفح والترك.
    فيقول الحنفي: أنا قائل بموجَب هذا الدليل، والعفو ها هنا هو البذل لأن العفو في اللغة قد يراد به البذل كقوله تعالى: خذ العفو. أي ما سهل أي خذ ما عفا وسهل وتيسر من أخلاق الناس، وارض منهم بما تيسر من أعمالهم وتسهل من غير كلفة، فكأنه قال: إن الولي متى بُذل له شيء فليقبل وليتبع المعروف.
    فهنا الحنفي قائل بموجب الآية في نفس الوضع اللغوي ولم يذهب إلى وضع آخر، وإنما الوضع اللغوي نفسه له معنيان: فاختار المستدل أحدهما واختار المعترض الثاني، فهو يشبه الاعتراض السابق، ولكنه حاصل بوضع واحد.
    وللشافعي أن يجيب بأحد جوابين:
    أحدهما: أن يبين أن العفو في الصفح والترك أظهر في اللغة من البذل. فإن ورود كلمة العفو في القرآن بمعنى الصفح والترك والإسقاط للحق أكثر وأظهر في القرآن الكريم كقوله تعالى: واعف عنا. وقوله: عفا الله عنك لم أذنت لهم. وقوله: ولقد عفا الله عنهم. واللفظ إذا احتمل معنيين وجب حمله على أظهرهما وأشهرهما، ولا يحمل على الآخر إلا بدليل.
    ثانيهما: أن يبين بالدليل من سياق الآية أو غيره ما يمنع حمله على البذل كأن يقول: قوله عز وجل فمن عفي له. كناية يرجع إلى مذكور متقدم، والذي تقدم ذكره هو القاتل دون الولي، فلا يجوز حمله عليه.




    ([1] ) يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :" هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة ، أي : لا يطاوعه على مراده من الزنى إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك ، وكذلك : ( الزانية لا ينكحها إلا زان ) أي : عاص بزناه ، ( أو مشرك ) لا يعتقد تحريمه، عن ابن عباس رضي الله عنهما : ليس هذا بالنكاح ، إنما هو الجماع ، لا يزني بها إلا زان أو مشرك . وهذا إسناد صحيح عنه ، وقد روي عنه من غير وجه أيضا . وقد روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، والضحاك ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان ، وغير واحد ، نحو ذلك " انتهى.

  16. #16

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    والاعتراض الثَّالِث أن يدّعي إجمال الآية إما فِي الشَّرْع وإمَّا فِي اللُّغَة.
    فأمَّا فِي الشَّرْع فَمثل أن يسْتَدلّ الْحَنَفِيّ فِي نِيَّة صَوْمِ رَمَضَانَ بقوله تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} وَهَذَا قد صَامَ.
    فَيَقُول الشَّافِعِي: هَذَا مُجملٌ لَأن المُرَادَ صَوْمٌ شَرْعِي وَنحن لَا نسلّم أن هَذَا صَوْم شَرْعِي.
    وَالْجَوَاب عَنهُ: أن يبين أن الْخطاب بلغَة الْعَرَبِ ويسلك طَريقَة من يَقُول: لَيْسَ فِي الأسماء شَيْءٌ مَنْقُولٌ، وَالصَّوْم فِي اللُّغَةِ هُوَ الإمساكُ فَوَجَبَ أن يجزئ كلُّ إمساكٍ إلا مَا خصّه الدَّلِيلُ.
    وأمّا فِي اللُّغَةِ فَمثل أن يسْتَدلّ الشَّافِعِي فِي أن الإحرام بِالْحَجِّ لَا يَصحّ فِي غير أشهره بقوله تَعَالَى: {الْحَجّ أشهر مَعْلُومَات فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج فَلَا رفث وَلَا فسوق}.

    فَيَقُول الْمُخَالف: هَذَا مُجمل لأن الْحَج لَيْسَ بأشهر فَلَا بُدّ فِي معرفَة المُرَاد مِنْهُ من إضمار، وَيجوز أن يكون مَعْنَاهُ: وَقتُ إحرام الْحَج أشهر مَعْلُومَات، وَيجوز أن يكون مَعْنَاهُ: وَقتُ أفعال الْحَج أشهر مَعْلُومَات، فَوَجَبَ التَّوَقُّف فِيهِ.
    وَالْجَوَاب: أن يبين بِالدَّلِيلِ أن المُرَاد بِهِ وَقت إحرام الْحَج؛ لأن الأفعال لَاتفْتَقر إلى أشهر، ولأنه قَالَ: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج فَلَا رفث} وَالْفَرْضُ هُوَ الإحرامُ.


    أقول: الاعتراض الثالث على الاستدلال بالكتاب هو أن يستدل المستدل بلفظ يدعي عمومه، فيدعي السائل إجماله ليمنع من التعلق بعمومه.
    والإجمال إما في الشرع وإما في اللغة.
    مثاله في الشرع: استدلال الحنفي في جواز صوم شهر رمضان بغير نية من الليل بقوله تعالى:(فمن شهد منكم الشهر فليصمه) بأن هذا قد صام؛ فمن أمسك عن الطعام والشراب فقد صدق عليه إنه صائم.
    فيقول له الشافعي: هذا اللفظ مجمل؛ لأن المراد به صوم شرعي، وذلك لا يعلم من ظاهر اللفظ، بل يفتقر في معرفته إلى بيان، فصار في الإجمال كقوله تعالى:(وآتوا حقه يوم حصاده) لما لم يعلم مقدار الحق من ظاهره افتقر في معرفته إلى بيان فصار مجملا فكذلك ها هنا.
    والطريق في الجواب عن هذا أن يسلك طريقة من يقول: إنه ليس من الأسماء شيء منقول، بل كلها مبقاة على مقتضاها في اللغة، والصوم في اللغة الإمساك فوجب أن يجزئ كل إمساك إلا ما خصه الدليل. الملخص في الجدل بتصرف يسير.

    ومثاله في اللغة: استدلال الشافعي في أن الإحرام بالحجّ لا يصح في غير أشهر الحج([1] ) بقوله تعالى: (الحجّ أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).
    فيقول له المخالف قوله تعالى"أشهر معلومات" مجمل لأن الحج ليس بأشهر، فلا بد لصحة الحمل والإخبار من تقدير، ويجوز أن يكون التقدير: وقت إحرام الحج أشهر معلومات فيكون دليلا لكم، ويجوز أن يكون التقدير: وقت أفعال الحج أشهر معلومات فلا يكون دليلا لكم فوجب التوقف فيه.
    والجواب عنه: أن يبين بالدليل أن المراد به وقت إحرام الحج بدليل أن أفعال الحج لا تفتقر في أدائها إلى أشهر، ولأن الله تعالى قال: فمن فرض فيهن الحج. والفرض هو الإحرام.



    ([1] ) اختلف العلماء في حكم الإحرام بالحج قبل أشهره: فذهب الجمهور الحنفية والمالكية والحنابلة إلى صحة الإحرام بالحج وانعقاده قبل أشهر الحج لكن مع الكراهة، وذهب الشافعية إلى أنه لا ينعقد الإحرام بالحج قبل أشهره، وينعقد عمرة.

  17. #17

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    والاعتراض الرَّابِع: الْمُشَاركَةُ فِي الدَّلِيل.
    كاستدلال الشَّافِعِي فِي النِّكَاح بِغَيْر وليٍّ بقوله تَعَالَى: {فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ} فَلَو لم يكن تَزْوِيجهَا إليه لما صَحَّ العَضْلُ.

    فَيَقُول الْحَنَفِيُّ: هَذَا حجَّةٌ لنا؛ لأنه قَالَ: {أَن ينكحن} فأضاف النِّكَاحَ إليهن؛فَدلَّ على أن لَهُنَّ أن يعقدنَ.
    وَالْجَوَاب:أن يسْقط دَلِيل السَّائِل ليسْلَمَ لَهُ مَا تعلَّق بِهِ.


    أقول: الاعتراض الرابع: المشاركة في الدليل وهو: أن يجعل السائل ما استدل به المستدل دليلا له في المسألة.
    مثاله: استدلال الشافعي على أن المرأة لا تلي عقدة النكاح بقوله تعالى:(فلاتعضلوه ن أن ينكحن أزواجهن) فنهى الله تعالى الأولياء عن عضل النساء؛ فدل على أن الأمر إليهم، وأن العقد موقوف عليهم؛ إذْ لو لم يكن كذلك لم يصح منهم العضل.
    فيقول الحنفي: هذا الدليل حجة لنا؛ ألا تراه تعالى أضاف العقد إليها فقال:(أن ينكحن أزواجهن) فدل على أن لهن أن يعقدن.
    فهنا كل واحد من الخصمين تعلق من الآية بلفظ، وتأوّل اللفظ الآخر، فالشافعي تعلق بقوله: "فلا تعضلوهن"، والحنفي تعلق بقوله: "أن ينكحن".
    والطريق في الجواب أن يسقط دليل السائل- كالحنفي في مثالنا هنا- ليسلم له دليله، كأن يقول الشافعي: إن قوله تعالى: أن ينكحن. ليس يريد به أن يباشرن العقد بأنفسهن، وإنما يريد: أن يصرن منكوحات؛ فأضاف النكاح إليهن؛ لأنهن محل النكاح لا أنهن يفعلن ذلك. الملخص.


  18. #18

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    والاعتراض الْخَامِس اخْتِلَاف الْقِرَاءَة.
    وَذَلِكَ مثل أن يسْتَدلّ الشَّافِعِي فِي إيجاب الْوضُوء من اللَّمْس بقوله تَعَالَى {أَو لمستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا}فَيَقُول الْمُخَالف: قد قرئ {أَو لامستم} وَهَذَا يَقْتَضِي الْجِمَاع.
    وَالْجَوَاب: أن يَقُول القراءتان كالآيتين فيستعملهما.


    أقول: الاعتراض الخامس اختلاف القراءة كأن يستدل المستدل بقراءة؛ فيعارضه السائل بقراءة أخرى ليتأول القراءة التي استدل بها على غير ما حمل عليه المستدل ليمنعه من الاحتجاج بها.
    مثاله: أن يستدل الشافعي في إيجاب الوضوء من لمس النساء بقوله تعالى في قراءة متواترة: أو لمستم النساء.
    فيقول المخالف: المراد بالآية الجماع، والدليل عليه القراءة الأخرى: أو لامستم النساء. وهذا لا يستعمل إلا في الجماع لأن فاعَل يكون من اثنين وذلك لا يكون إلا في الجماع لأنه يتعلق بفعلهما ومباشرتهما، فأما المس باليد فلا يحتاج إلى فعلهما.
    والجواب عن ذلك: أن يقول: أنا أجمع بين القراءتين: فأحمل لامستم على الجماع، ولمستم على سائر أنواع اللمس، والجمع بينهما أولى من إسقاط إحداهما فإن القراءتين كالآيتين.

  19. #19

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    والاعتراض السَّادِسُ: النّسخُ وَهُوَ مِن ثَلَاثَةِ أوجهٍ:
    أحدها: أن ينقل النّسخ صَرِيحًا.
    كاستدلال الشَّافِعِي فِي إيجاب الْفِدْيَة على الْحَامِل والمرضع بقوله تَعَالَى: {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طعام}.
    فَيَقُول الْحَنَفِيّ: قد قَالَ سَلمَة بنُ الأكوعِ: إنها مَنْسُوخَةٌ بقولِه تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه}.
    وَالْجَوَاب: أن يبين أنها نُسِخَتْ إلَّا فِي الْحَامِل والمرضِعِ.
    وَالثَّانِي: أن يدَّعي نسخهَا بِآيَة مُتَأَخِّرَة.
    مثل أن يسْتَدلَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَنّ وَالْفِدَاء بقوله تَعَالَى: {فإمَّا منًّا بعدُ وَإِمَّا فدَاء}.
    فَيَقُول الْحَنَفِيُّ: قد نُسِخَ بقوله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} لأَنَّها مُتَأَخِّرَةٌ.
    وَالْجَوَاب: أن يجمع بَين الآيتين فيستعمل كلَّ وَاحِدَةٍ فِي مَوضِعٍ، وإذا أمكن الْجمع لم يجز دَعْوَى النّسخ.
    وَالثَّالِث: أن يدّعي نسخهَا بِأَن ذَلِك شرعُ من قبلنَا.
    كاستدلال الشَّافِعِي فِي وجوب الْقصاص فِي الطّرف بَين الرجل وَالْمَرْأَة بقوله تَعَالَى: {والجروح قصاص}.
    فَيَقُول الْحَنَفِيّ: هَذَا إخبار عَن شرع من قبلنَا وَقد نُسخ ذَلِك بشرعنا.
    وَالْجَوَاب: أن شرع من قبلنَا شرعٌ لنا، أوْ يَدُلَّ على أن ذَلِك شرعٌ لنا أيضا لأن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي امْرَأَة قلعت سنّ امْرَأَة: كتابُ اللهِ الْقِصاصُ. وأرادَ بِهِ هَذِه الآيةَ.

    أقول: الاعتراض السادس على دليل المستدل هو النسخ ويقع على وجوه:
    الأول: أن ينقل المعترض النسخ صريحا بخبر.
    مثاله: استدلال أصحابنا على وجوب الفدية على الحامل والمرضع في الصيام بقوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين. فيقول الحنفي([1]) : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه. والدليل عليه ما روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما نزلت: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين. كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
    والطريق في الجواب عن ذلك أن يبين أن النسخ إنما حصل في حقّ غير الحامل والمرضع. لما روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في هذه الآية: أثبتت للحبلى والمرضع. أي لم تنسخ.
    والدليل عليه هو أنه تعالى قال: فمن شهد منكم الشهر فليصمه. وهذا يقتضي انحتام الصوم، ولا خلاف أن الصوم لا يتحتم على الحامل والمرضع بل هما مخيران بين الصوم والفطر كما كانتا. فدل على أن الآية إنما نسخت في حق غيرهما.
    الثاني: أن يدعي النسخ بآية متأخرة.
    مثاله: استدلال أصحابنا في جواز المنّ والفداء في أسرى المشركين بقوله تعالى: فإما منّا بعد، وإما فداء. وهذا نصّ في جواز المنّ والفداء([2] )
    فيقول الحنفي: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين. لأن هذه الآية في سورة براءة، وهي آخر سورة نزلت؛ فكانت ناسخة لما قبلها.
    والجواب: أن يبين أنه لا تجوز دعوى النسخ مع إمكان الجمع، وها هنا يمكن الجمع بين الآيتين بأن تحمل إحداهما عليه إذا رأى الإمام المصلحة في قتلهم، والأخرى إذا رأى المصلحة في المنّ والفداء بهم.
    فالجمع بين الآيتين أولى من النسخ؛ لأن النسخ إسقاط والجمع استعمال، فكان الجمع أولى.
    الثالث: دعوى النسخ بأنه شرع من قبلنا.
    مثاله: استدلال الشافعي في وجوب القصاص في الأطراف بين الرجل والمرأة([3] ) بقوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص.
    فيقول الحنفي: هذا إخبار عن شرع من قبلنا، وقد نسخ ذلك بشرعنا فلا يجوز التعلقّ به.
    والجواب عن هذا بما يلي:
    أولا: أن يقول: إن شرع من قبلنا شرع لنا أيضا ما لم يثبت نسخه. وهو مذهب بعض أصحابنا.
    ثانيا: أن يبين أن هذه الآية محكمة في شرعنا معمول بها. والدليل عليه: أن الرُّبَيِّع بنت النضر كسرت سن جارية، فقال النبي: صلى الله عليه وسلم: كتابُ اللهِ القصاصُ. رواه البخاري ومسلم. فأشار في إيجاب القصاص إلى هذه الآية؛ فدل على أن الآية محكمة في شرعنا. الملخص في الجدل بتصرف.


    ([1] ) مذهبهم وجوب القضاء عليهما فقط.

    ([2] ) مذهب الشافعية أن الإمام مخير في الأسرى بين أحد أربعة أمور: إما القتل، وإما الاسترقاق، وإما الفداء بمال أو أسرى، وإما أن يمن عليهم بدون مقابل.
    ومذهب الحنفية أن الإمام مخير فيهم بين أمرين: إما القتل، وإما الاسترقاق. وليس له أن يفادي بالمال أو يمنّ. وأن قوله تعالى: فإما منّا بعد وإما فداء. منسوخ بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.

    ([3] ) مذهب الشافعية والجمهور أن القصاص في الأطراف يجري بين الرجل والمرأة فلو أن رجلا قطع كف امرأة قطعت كفه.
    ومذهب الحنفية أن شرط القصاص التكافؤ، فلا قصاص فيما دون النفس بين الرجل والمرأة؛ لأن الأطراف عندهم كالأموال، ودية المرأة نصف دية الرجل.

  20. #20

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي

    والاعتراض السَّابِع التَّأْوِيلُ. وَذَلِكَ ضَرْبَان:
    تَأْوِيل الظَّاهِر. كاستدلال الشَّافِعِي فِي إيجاب الإيتاء بقوله تَعَالَى {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا وَآتُوهُمْ من مَال الله الَّذِي آتَاكُم}.
    فيحمله الْحَنَفِيّ على الِاسْتِحْبَاب بِدَلِيل.
    وَالثَّانِي: تَخْصِيص الْعُمُوم. كاستدلال الشَّافِعِي فِي قتل شُيُوخ الْمُشْركين بقوله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} فيخصصها الْحَنَفِيّ فِي الشُّيُوخ بِدَلِيل.
    وَالْجَوَاب: أن يتَكَلَّم على الدَّلِيل الَّذِي تَأَول بِهِ أوْ خصّ بِهِ ليسلم لَهُ الظَّاهِر والعموم.

    أقول: الاعتراض السابع: التأويل وهو: صرف اللفظ عن معناه المتبادر بدليل. وهو نوعان: تأويل الظاهر، وتخصيص العام.
    فأما تأويل الظاهر فمثاله: استدلال الشافعي في إيجاب إيتاء العبد في الكتابة شيئا من المال بقوله تعالى: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم. فيقول: آتوهم أمر وهو يقتضي الوجوب.
    فيقول الحنفي: هو هنا للاستحباب ويحتج بقرينة كأن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما عبد كاتب على مائة أوقية([1] ) فأداها إلا عشرة أواق فهو عبد وأيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد. رواه أبو داود. قالوا: وفي هذا الحديث دليل على أنه لا يستحق على المولى حط شيء من مال الكتابة، فبهذا الحديث تبين أن المراد من الأمر بالآية هو الندب.
    والجواب عنه بالتكلم على الدليل الذي تأول به الظاهر ليسلم له الظاهر، كأن يقول: نحن نقول بهذا الحديث وإن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولسنا نعين قدرا من المال يعطيه المولى لمكاتبه بحيث إن بقي عليه بقدره أعتق.
    وأما تخصيص العام فمثاله: استدلال الشافعي في قتل شيوخ وعجائز المشركين([2]) بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين. والمشركون: لفظ عام يعمّ كل مشرك.
    فيقول الحنفي: أنا أخص منه الشيوخ، والدليل عليه: ما جاء في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقتلوا شيخا فانيا.
    والجواب عن هذا بالتكلم على الدليل الذي خصّ به العام فيسقطه ليسلم له العام. كأن يقول حديث أبي داود ضعيف وهو معارض بحديث الترمذي مرفوعا: اقتلوا شيوخ المشركين. فلا يقوى على تخصيص ظاهر القرآن.


    ([1] ) وهي أربعون درهما.

    ([2] ) مذهب الشافعية هو قتل كل مشرك لشركه إلا النساء والصبيان. وذهب الجمهور إلى عدم جواز قتل الشيوخ إلا إن قاتلوا.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •