الإنصاف في الفتوى والخلاف
سمير بن خليل المالكي


الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد، فإن من سنن الله الكونية القدرية التنازع والاختلاف في المسائل الشرعية، ولم يزل حال الأمة على ذلك من عصر النبوة، وعصر الخلافة الراشدة، واستمر الخلاف في كثير من فروع العبادات والمعاملات وفي الحلال والحرام، وكان خلافا مؤصلا ومؤسسا على قواعد الشرع ومنضبطا بآداب الإسلام التي أمر الله بها ورسوله - عليه الصلاة والسلام -.
وقد كان من أهم وأعظم ما يضبط مسائل الفتوى والخلاف وجود العلماء الربانيين الذين كانوا يسوسون العامة وطلاب العلم ويضبطونهم بتلك الضوابط الشرعية، وكانوا يطبقونها عمليا، ولا يكتفون بتعليمها وتقريرها لهم نظريا فحسب.
***
ومن أهم قواعد الفتوى، التي حرص أئمة السلف على العمل بها وتعليمها:
1- ضرورة الاستدلال بالأدلة الشرعية في كل مسألة، صغيرة كانت أم كبيرة، ومن أفتى منهم بالرأي، فلم يكن رأيا محضا، بل هو استنباط من النصوص أو قياس عليها، وكثيرا ما كانوا يطلقون الرأي على القياس.
أما الرأي المحض، فقد عابوه وأغلظوا القول فيه وفي أصحابه.
قال الله - تعالى - (ولا تقف ما ليس لك به علم).
وقال - سبحانه - (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).
***
2- ومن قواعد الفتوى، التجرد لله وقصد إصابة الحق و تحري العدل، مع الموافق والمخالف.
وقد كان أئمة السلف أتقى لله وأنصح للناس، من أن يحابوا أحدا من الخلق في دين الله، أو أن يشتروا ثمنا قليلا بآيات الله.
وكانوا أبعد الناس عن مخالطة الأمراء والخلفاء بعد عصر الراشدين، حذرا من الوقوع في الفتنة، وهي: إما بالسكوت عن الحق، وإما بالرضا و المتابعة في الباطل.
هذا مع ما كانوا عليه من الورع والتقوى، ومع ما كان عليه الخلفاء في تلك القرون الفاضلة، من العلم والصلاح، وتحكيم شرع الله، والجهاد في سبيله، والذب عن حياض الإسلام وحرمات المسلمين، وكان الدين في ذاك الزمان ظاهرا على كل الأديان.
قلت: ومع ذلك فإن أئمة الإسلام كانوا بمنأى عن بلاط السلطان وعن ولاياته.
وإليك هذه القصة: كان الإمام ابن المبارك يصل بعض علماء زمانه بمال، ومنهم إسماعيل بن علية، وهو من كبار أئمة الحديث، وكان يلقب ب " ريحانة الفقهاء "، و" سيد المحدثين ".
ولما قبل ولاية القضاء، أو الصدقات، في عهد الخليفة المجاهد الصالح هارون الرشيد، هجره ابن المبارك وقطع عنه الصلة، ثم أرسل إليه هذه الأبيات:
يا جاعل العلم له بازيا *** يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا و لذاتها *** بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنونا بها بعدما *** كنت دواء للمجانين
أين رواياتك فيما مضى *** عن ابن عون وابن سيرين
أين رواياتك في سردها *** في ترك أبواب السلاطين
إن قلت أكرهت فذا باطل *** زل حمار العلم في الطين
فلما بلغته هذه الأبيات دخل على الرشيد وسأله الإعفاء من منصب القضاء. [انظر التهذيب 1 / 275].
قلت: ومن رضي من أولئك العلماء بمخالطة الخلفاء و الأمراء، أو بقبول بعض الولايات الدينية، فإنما قصد به إحقاق الحق و إقامة العدل ومناصحة ولاة الأمر.
****
3- ومن القواعد المهمة مراعاة الخلاف، والأدب مع المخالف.
لقد اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، واختلفوا كثيرا بعد مماته، لكن اختلافهم لم يكن تعصبا لقوم أو لبلد أو لمذهب، ولم يكن عن هوى أو لنيل مأرب، ولهذا كانوا يحترمون الرأي الآخر، حتى لو عارضوه، وكانوا محافظين على الأخوة ونبذ الفرقة، وعلى التأدب بالآداب الشرعية، قبل وبعد الخلاف.
وسلك التابعون ومن بعدهم في ذلك الأدب مسلكهم.
وأكبر دليل على ذلك، اختلاف الأئمة في مسائل كثيرة في الفقه والتفسير والحديث واللغة، مع شيوخهم وأقرانهم وتلاميذهم، ولم يحجر أحد منهم على أحد، أو يعنفه، فضلا عن أن يعاديه أو يهجره.
***
4- وكانوا أحرص الناس على مراعاة أحوال الناس والمصالح العامة، وربما سكتوا عن الكلام في المسألة درءا للفتنة و المفسدة.
وقد قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - " حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله ". رواه البخاري [127].
وقال ابن مسعود رضي الله عنه" ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة ".
رواه مسلم [1 / 11] في مقدمة صحيحه.
وفقه المصالح والمفاسد وسد الذرائع
من أعظم أبواب العلم، بيد أن بعض شيوخ هذا الزمان أغفلوه ولم يرفعوا به رأسا، جهلا منهم بهذا الباب العظيم، أو تجاهلا.
وبعضهم إنما يحصره في دائرة معينة، وهي: موافقة مذاهبهم وموالاة أصحابهم، أو متابعة أهواء الأمراء والسلاطين ومداهنتهم في سياساتهم المخالفة للدين.
وكثير من الشيوخ اليوم لا يلقي بالا لافتتان الناس وتنفيرهم عن الدين، ولا يحسن الأدب في معاملتهم ومخاطبتهم، ويجازف بإلقاء التهم والمعايب، على كل من خالفهم أو انتقدهم، ولو كان على صواب!
وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - كبار أصحابه من فتنة الناس عن الدين، فقال لمعاذ - رضي الله عنه - " فتان، فتان، فتان ". رواه البخاري [701].
وغضب أشد الغضب على من أطال في صلاته وقال (أيها الناس إنكم منفرون). رواه البخاري [90].
وقال (بشروا ولا تنفروا). رواه البخاري [69].
قال الحافظ في الفتح [1 / 163] " وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل ".
وقال عمر - رضي الله عنه - " لا تبغضوا إلى الله عباده ". ذكره الحافظ في الفتح [2 / 195] وصحح إسناده.
***
5- ومن أهم قواعد الفتيا والخلاف التوسط والاعتدال، في الحكم على الأقوال والأفعال، وعلى الرجال.
والوسطية من سمات هذه الأمة العلية، في المسائل العقدية، والعملية.
ومن التوسط في أمور الدين الحكم على المعاصي وأهلها، فإن الفرق المبتدعة قد تطرفت في ذلك.
فالخوارج كفروا عصاة المسلمين واستباحوا دماءهم وأموالهم، والمرجئة قالوا: لا يضر مع الإسلام ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
وأهل الحق توسطوا في الحكم، فلم يكفروا بالعصيان، ولم يمنحوا أهلها صكوك الغفران، وجعلوا مرد ذلك إلى مشيئة الرحمن.
وقالوا في مرتكب الكبائر، عدا الكفر والشرك " مؤمن بإيمانه، فاسق بعصيانه ".
ومسألة التكفير قد تساهل فيها بعض المنتسبين للعلم والمشيخة اليوم، فأفتوا بالكفر في مسائل مختلف فيها في الحلال والحرام.
يقول ابن تيمية عن الخوارج " وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع، لم يكفروا، مع أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟
والأصل: أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله ". انتهى باختصار. المجموع [3 / 282].
وقال - رحمه الله - " وقد وقع الخطأ كثيرا لخلق من هذه الأمة، واتفقوا على عدم تكفير من أخطأ.."، ثم ذكر أمثلة لذلك.
ثم قال " وكذلك بعض العلماء أنكر حروفا من القرآن، وبعضهم كان حذف المعوذتين، وهذا الخطأ معفو عنه بالإجماع.
وكذلك الخطأ في الفروع العملية، فإن المخطئ فيها لا يكفر ولا يفسق، بل ولا يأثم.. ".
ثم ذكر ابن تيمية خطأ بعض السلف في استحلال بعض أنواع الربا، والخمر، والقتال في الفتنة، ولم يكفروا بذلك. انظر مجموعة الرسائل والمسائل [3 / 346 347].
وقد احتاط أئمة السلف في التكفير بلوازم القول والعمل.
خذ مثلا على ذلك: بدعة الأشاعرة، فإن من لوازم قولهم في القرآن، أنه مخلوق، ومعلوم أن القول بخلق القرآن كفر، لكن السلف لم يكفروا الأشاعرة، مع أن ابن تيمية صرح بأن قولهم في القرآن هو قول الجهمية وشر من قول المعتزلة.
انظر مجموعة الرسائل والمسائل [4 / 429].
وقل مثل ذلك في لوازم قول الأشاعرة في مسائل الإيمان والصفات والنبوة، وغيرها.
والكلام في تحرير مسألة التكفير بالأقوال والأعمال ولوازمها يطول جدا.
والمقصود: أن العدل والتوسط في الأحكام، هو من قواعد الإسلام، ومما حرص على تطبيقه الأئمة الأعلام.
***
ومن ثم، كان لزاما على أهل العلم والفتوى، في هذا الزمان، أن يضبطوا مسائل الخلاف بمثل تلك القواعد العظام، وأن يتأدبوا بآداب الكتاب و السنة، وبما كان عليه سلف هذه الأمة، فإن الفتنة بين الناس في الدين قد ظهرت وفشت، ولا بد من التعاون على التقوى وجمع الكلمة ونبذ الفرقة، وأن تحصر مسائل الخلاف في أضيق نطاق، ونحن أهل السنة أولى بأن نتداعى إلى الحوار و التعايش والتقارب، قبل أن ندعو غيرنا من أهل الملل والنحل المخالفة إلى ذلك.
إن مسائل الخلاف بيننا معشر أهل السنة والجماعة مهما كثرت، فإنها لا تعدو أن تكون من مسائل الفروع، ولا خلاف بيننا في أصل من أصول الدين والملة.
وإنا لا ندعوا إلى ترك الخلاف في مسائل الخلاف، فإن هذا من المحال
إلا ما شاء الله، ولو كان في ذلك خير للأمة لسبق إليه سلف الأمة.
لكننا ندعوا إلى الأدب في الخلاف والحكمة فيه، وتضييق نطاقه ما أمكن، سدا لذريعة الفتنة والفساد في الدين والبلاد والعباد.
إننا دعاة، " لسنا قضاة ولا بغاة "، وإن علينا أن نكون قدوة حسنة للناس في كل أمورنا، خاصة في المعاملة مع من خالفنا، وأن نتأدب بآداب الإسلام، وأن ننشر في الأنام العدل والسلام.
***
وتكفير المخالف في مسائل الفروع، كمسألة الاختلاط في التعليم والعمل، يعد من التطرف في الحكم والفتيا، لأن أصل الاختلاط، بمعنى: وجود الرجال والنساء في مكان واحد، وإن تقاربوا، ليس محرما على إطلاقه، بل هو مباح في بعض الأحوال، كما دلت عليه النصوص، وكما كان عليه الناس في عصر النبوة والقرون الفاضلة.
ولم تحد الشريعة الإسلامية حدا معينا للتقارب بين الجنسين.
نعم، فهمنا من مجمل النصوص في الكتاب و السنة، ومن فتاوى الأئمة، أن التباعد مطلوب، لكن حدود ذلك ليست منضبطة.
ونرى أن الاختلاط في ميادين التعليم والعمل ذريعة إلى الفساد والفتنة، لكنه يظل رأيا واجتهادا، ليس فيه نص محكم ولا إجماع متيقن، وحكمه ظني لا قطعي، كغيره من المسائل الفقهية المستنبطة بالرأي والاجتهاد من عمومات النصوص وقواعد الشرع.
وقد علل من أفتى بكفر من استحل الاختلاط الحكم ببعض الإلزامات، منها: أن الاختلاط في التعليم ونحوه، يستلزم النظر المحرم، والكلام المحرم، والخلوة المحرمة... وأن من أباح هذه المحرمات فهو مرتد!
قلت: أولا: قد تقرر أن أصل المسألة وهي الاختلاط محل خلاف.
وثانيا: لا يلزم من الاختلاط وجود تلك المنكرات.
وثالثا: إن تلك الأمور (النظر والكلام والخلوة)، ليست من المحرمات المجمع على تحريمها، بل هي مختلف فيها.
وقد أباح بعض الأئمة من السلف والخلف نظر الرجل إلى المرأة من غير شهوة، وأباحوا كشفها عن وجهها.
فكشف الوجه مختلف فيه، والنظر مختلف فيه أيضا.
ثم من قال إن كل المختلطات حاسرات عن وجوههن؟
ألسنا نرى كثيرات من العاملات العفيفات في المستشفيات والمعامل وغيرها، منقبات؟
وأما نظر المرأة إلى الرجل من غير ريبة، فهو أقرب إلى الإباحة، كما دلت عليه بعض نصوص السنة، كنظر أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - إلى الحبشة بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكما هو مذهب طائفة من علماء السلف والخلف.
وأما الكلام، فلا شك أن الأصل فيه الإباحة بنص القرآن، بالشروط المعتبرة.
ولا يستلزم الاختلاط حصول كلام خارج عن حدود الأدب، فإنه قد يحصل وقد لا يحصل.
وأما الخلوة، فقد تقع أحيانا، لكنها ليست متحققة في كل اختلاط.
ثم الخلوة نفسها فيها تفصيل وخلاف وقد أباحها بعض العلماء، مع أننا نرجح تحريمها بموجب النصوص الصريحة في حكمها، لكنها ليست كالمحرمات الكبرى المجمع عليها.
ثم نقول: إن على العالم أن يراعي أحوال الأمة، فإن فتواه لا تخص بلدا دون بلد، وقد عمت البلوى في كل بلاد الإسلام بمثل هذا الاختلاط، ولم تسلم منه بلد قط.
فلا ينبغي أن يطلق مثل ذلك الحكم، الذي يستلزم تكفير كثير من علماء المسلمين و جماهير عوامهم!
إننا نرى أن الاختلاط في ميادين التعليم وغيره محرم، سدا للذريعة، لكننا لا نفسق من يفعله، ولا من يخالفنا في الحكم عليه، فضلا عن أن نكفره.
ولم يبلغنا أن أحدا من الأئمة السابقين قد أفتى بالتكفير.
ولو فرض وجود من أفتى به فإن الحكمة تقتضي كتمانه لا إعلانه.
بتصرف